شريف عارف يكتب: خطة خداع.. «صناعة مصرية»
لم يكن نصر أكتوبر «مجرد مصادفة»، هو نصر صنعته مرارة الهزيمة -المؤقتة- بكل ما فيها من ألم، وعزم أكيد على العبور من الهزيمة إلى النصر..
نصر مبين خططت له عقول مصرية بفكر مصرى صميم.. لم يكن ليتحقق إلا بـ«خطة خداع» صنعها المصريون بكل حكمة واقتدار تخطت حدود الجغرافيا، والعدو المباشر، لتخدع القوى الكبرى والعالم بأسره.
.. هى خطة خداع «صناعة مصرية»..
بعد أيام قليلة من الانتصار المجيد.. وساعات من وقف إطلاق النار الأول.. طار وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر لأول مرة فى حياته إلى القاهرة، للقاء الرئيس السادات..
وصل كيسنجر إلى القاهرة ليجد «السادات» فى استقباله فى قصر القبة، مرتدياً الزى العسكرى..
جلس «كيسنجر» مبهوراً بذلك القائد وشعبه الذى خدع العالم.. وأوهمه بأنه لن يحارب.. وأن مجرد الإقدام على فكرة مواجهة إسرائيل تعنى الانتحار..
وزير الخارجية الأمريكى يطرح على الرئيس السادات السؤال الأخطر: كيف أمكن لمصر أن تخدعنا وتخدع مخابراتنا؟!
سأل وزير الخارجية الأمريكى «السادات»: سيدى الرئيس قبل أى حديث بيننا.. أرغب من سيادتكم فى أن تقول لى كيف أمكن لمصر أن تخدعنا وتخدع مخابراتنا.. بل وتخدع العالم بهذا الخداع والتعتيم الإعلامى؟.. لقد كانت المفاجأة معجزة، ولم تحدث من قبل لى فى حياتى..»!
اجتماعات كبار القادة الإسرائيليين كانت دوماً تنتهى بعبارة واحدة: «احتمال ضئيل للحرب.. لا لزوم لدعوة الاحتياط»!
لم يكن حديث وزير الخارجية الأمريكى مجرد كلام فى المطلق ولكنها حقيقة صنعتها مصر بقدرتها على خديعة إسرائيل، فعلى الجانب الآخر كانت دائماً ما تنتهى الاجتماعات الإسرائيلية لقادة الكيان بعبارة واحدة: «احتمال ضئيل للحرب.. لا لزوم لدعوة الاحتياط».. هذه هى العبارة الرئيسية التى كانت تردد عقب كل اجتماع من كبار المسئولين الإسرائيليين.. وفى الحقيقة كان النجاح الأكبر الذى أحرزه الإعلام المصرى قبل المعركة بأسلوب الخداع والحرب النفسية هو خلق حالة ذهنية لدى القيادات الإسرائيلية بأن مصر غير قادرة على الحرب، وغير عازمة عليها فى أكتوبر 1973.
يقول المحلل العسكرى الأمريكى تريفورن دوبوى فى كتابه «السلام المراوغ»:
كانت المفاجأة الاستراتيجية ثمار تخطيط ماهر، وكذلك أساليب الخداع التى اتبعتها أجهزة الإعلام المصرية!
مفاجأة واشنطن بالجيش المصري
رغم هذا الفارق الكبير والواضح بين قدرات العرب العسكرية وقدرات إسرائيل، والذى كان يميل -خلال حرب أكتوبر- إلى جانب الإسرائيليين، فقد شهد الخبراء العسكريون الأمريكيون فى البنتاجون، بكفاءة الطيارين المصريين أثناء القتال.
وتكتب المجلة الأمريكية المتخصصة فى شئون الطيران «فلايت إنترناشيونال» فى أعقاب زيارة قامت بها هيئة من خبرائها إلى إسرائيل بعد الحرب مباشرة: «لا شك فى أن إسرائيل لا تزال تهتز بعنف لحجم الخسائر، التى أصابتها فى البر والجو.. لقد فوجئنا عندما اكتشفنا القدرة العربية على استخدام الأسلحة الحديثة فى حرب أكتوبر.. إن إسرائيل لم تعلن بعد عن خسائرها فى الطيران، ولكن مصادرنا فى الولايات المتحدة تؤكد لنا عِظم هذه الخسائر، التى بلغت 80٪ منها فى خلال الأيام الثلاثة الأولى للقتال.
وكتب عدد من خبراء شركات «هیوز – وستنجهاوس ليستون»، قاموا بزيارة إسرائيل أثناء القتال لمساعدة سلاح الطيران الإسرائيلى، فى إيجاد وسائل مضادة للأسلحة، التى كان يستخدمها العرب ضدهم، عن مشاهدتهم الكثير من البراهين، من شهود العيان والأفلام السينمائية، والصور الجوية وغير ذلك.. وكلها أكدت أن الهجمات الجوية العربية التى شنّها المصريون والسوريون.. كانت هجمات تتميز بالإقدام والجرأة والمستوى القتالى الجيد..
ما الذي حدث.. وما الخطأ..؟
مع دخول الحرب المجيدة أسبوعها الثالث، صدر العدد الأسبوعى لصحيفة «جيروزاليم بوست»، وحمل عنوانه تساؤلاً كان يراود الإسرائيليين، غير أنهم عجزوا عن طرحه لعدم شعورهم بالأمن: «ما الذى حدث.. وما الخطأ..؟».
ذلك هو السؤال الذى كان يتردّد على ألسنة الجنود الإسرائيليين فى اليوم الثانى للقتال عندما اخترق السوريون صفوفهم فى الجولان، وكان المصريون يتّخذون مواقعهم على الضفة الشرقية للقناة..
واشنطن تؤكد أن «توافر المعلومات عن نشاط العدو شىء.. وتفسير هذه المعلومات شىء آخر»!
فى أول تقرير مبدئى عن أسباب الهزيمة، والذى وضعته لجنة «أجرانات».. التى أمرت القيادة الإسرائيلية بتشكيلها، وترأسها القاضى الإسرائيلى شمعون أجرانات.. انتقدت اللجنة تقديرات رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية إيلى زعيرا، ورئيس الأركان العامة ديفيد بن أليعازر، بسبب عدم تقديرهما للموقف، حتى فجر يوم ٦ أكتوبر، بأن حرباً شاملة ستبدأ، وحتى فى هذا التقدير أخطآ فى تقدير ساعة الصفر. فقد أعطى رئيس المخابرات الإسرائيلية وعداً بإعطاء الإنذار المبكر حول نية المصريين فى بدء حرب شاملة لتمكين تنفيذ التعبئة المنظمة للاحتياط، والذى اعتبر هذا الموعد أساساً لبناء خطط الجيش الإسرائيلى الدفاعية.
«السادات» لا يعتزم الحرب!
فى مذكراته الصادرة تحت عنوان «حرب يوم الغفران».. يقول إيلى زعيرا: «إن إسرائيل لم تكن على علم بأى استعداد مصرى وسورى للحرب»! وعن الجو الهادئ شبه المثالى الذى ساد فى جيش الدفاع الإسرائيلى فى صيف ١٩٧٣ يمكن الإشارة إلى عدة حقائق: أن هيئة الأركان العامة لم تقم بالاستعدادات لأى حرب، ووزارة الدفاع لم تقم باستكمال ما ينقص جيش الدفاع، كما أن اثنين من قادة المناطق تم استبدالهما فى ما بين يونيو وسبتمبر 1973 «شموئيل جونين للقيادة الجنوبية، ويونا إفرات للقيادة الوسطى»، بل إن أحد الموضوعات الرئيسية التى شغلت هيئة الأركان العامة كان هو اختصار مدة الخدمة الإلزامية.. هل هذا موضوع يشغل هيئة أركان تستعد للحرب؟
ويضيف «زعيرا»: «ابتداءً من شهر يونيو 1973 وردت معلومات عن أن السادات أرجأ الحرب إلى نهاية السنة، ثم جاء نبأ صريح يفيد بأن السادات أرجأ الحرب إلى نهاية السنة. هذا النبأ جاء فى بداية شهر سبتمبر، أى قبل الحرب بنحو شهر، وكان من الممكن الإحساس من خلال هذه المعلومات أيضاً بأن السادات سوف يُؤجل الحرب إلى ما بعد نهاية سنة ١٩٧٣، ومن المحتمل أن هذه المعلومات، إلى جانب حقيقة أنه لم تندلع حرب فى أبريل – مايو. أقنعتنا بأن الحرب تأجلت.
شخص ما.. بجوار «السادات»
رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية إيلى زعيرا يؤكد أن هناك معلومات وصلت من مصادر مختلفة عن الحرب وأنها على وشك الاندلاع فى ديسمبر 1972، والتى لم تندلع، والمعلومات الكثيرة عن الحرب التى على وشك الاندلاع فى أبريل – مايو 1973، والتى لم تحدث أيضاً، واستناداً إلى كل المذكور عاليه تكونت فى هيئة البحوث ثقة بدرجة عالية فى تلك المعلومات التى أفادت بأن مصر وسوريا تتجهان بالفعل إلى الحرب. لكن ليس قبل تسلّم الطائرات والصواريخ من الاتحاد السوفيتى، وبالتدريج هبطت وانخفضت صحة سائر المصادر الأخرى التى أبلغت عن تاريخ حرب متوقعة. وذلك بسبب خطة الخداع والمفاجأة الاستراتيجية التى اتبعها شخص ما بجوار الرئيس السادات.
«حاتم» فى المشهد!
لعل أحد أهم أسباب النجاح الذى أحرزته المفاجأة الاستراتيجية هو التفكير المصرى الخالص الذى خلق حالة ذهنية لدى القيادات الإسرائيلية بأن مصر غير قادرة على الحرب، وغير عازمة عليها فى أكتوبر 1973 على أقل تقدير.. ودليل هذا النجاح جاء على ألسنة الإسرائيليين أنفسهم..
فى أوائل عام ١٩٧٣، قرّر الرئيس محمد أنور السادات تشكيل حكومة برئاسته لإعداد الدولة للحرب.. وعليه فقد استدعى الدكتور محمد عبدالقادر حاتم، لمقابلته للحديث حول هذا الشأن..
«السادات» لعبدالقادر حاتم: «إننى أفكر فى اتخاذ قرار الحرب.. وكثيرون سيُشككون فى هذا الأمر إلا أننى جاد فيه وهذا قدرى»
قال السادات مباشرة لحاتم: «إننى أفكر فى اتخاذ قرار الحرب لاسترداد الأرض المغتصبة.. إن الكثيرين سيُشككون فى هذا الأمر، إلا أننى جاد فيه وهذا قدرى»!
خلال الحديث قال السادات: إن هذا الأمر سيحتاج إلى التفرّغ التام حتى يتسنى له مباشرة مهام قيادة القوات المسلحة والإعداد العسكرى، إلى جانب مهام السياسة الخارجية..
«السادات» يطرح على وزير الإعلام رئاسة الحكومة المكلفة بإعداد الدولة للحرب.. ويقول: «لا ترد علىّ الآن.. بل سأعطيك ٤٨ ساعة للتفكير والرد»
وخلال الحديث أبلغ السادات حاتم باختياره ليكون إلى جانب منصبه -كوزير للإعلام- رئيساً لمجلس الوزراء بالنيابة عنه، وأن يتولى رئاسة الحكومة المكلفة بإعداد الدولة للحرب، بل يكون مسئولاً دستورياً من الآن عن هذه المهمة أمامه وأمام مجلس الشعب..
فوجئ الدكتور عبدالقادر حاتم بطلب الرئيس السادات.. لكن السادات قال له: «لا ترد علىّ الآن، بل سأعطيك ٤٨ ساعة للتفكير والرد»!
خرج «حاتم» من الاجتماع وعاد إلى منزله، وفكر فى أن يستشير بعض الأصدقاء.. وكانت المفاجأة أن أغلب آرائهم ونصائحهم كانت بألا يقبل هذا التكليف، وأن يعتذر للرئيس السادات!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن منهم من قال له إن الظروف التى تمر بها مصر ظروف صعبة، وقبولك بهذا التكليف سيجعلك مسئولاً أساسياً عن أى نتيجة تحدث.. خاصة أن الهدف الأساسى لهذه الحكومة هو إعداد الدولة للحرب، ثم النصر، ولكن النصر ليس بهذه السهولة، بل تجاوز بعضهم فى الوصف «إننا نعلم جميعاً أن إسرائيل هى ولاية من الولايات الأمريكية.. فهل يمكن أن ننتصر على الولايات المتحدة الأمريكية؟!».
ستائر الدخان
يقول الكاتب الكبير عبده مباشر: قبل أن تطلق الهند الحرب فى ديسمبر ۱۹۷۱، لتفتيت الدولة الباكستانية، وإلحاق الهزيمة بقواتها المسلحة، كانت أنديرا غاندى، رئيسة وزراء الهند وقتذاك، تطوف العالم متدثرة بالسارى، الزى الوطنى التقليدى، ولا حديث لها إلا عن السلام، لكسب الأنصار أو لتحييد القوى المناصرة للموقف الباكستانى على الأقل، ولو أن واحداً من القادة الذين التقت بهم تمعن فى ردائها الحريرى لاكتشف أنها تخفى بين طياته قرار الحرب. فقبل أن تبدأ جولاتها كانت قد اتخذت قرار الحرب، وأصدرت تعليماتها للقيادة العسكرية لاستكمال التخطيط والاستعداد لبدء العمليات فى التوقيت السابق تحديده. وفى التوقيت نفسه تقريباً كان «السادات» يدق طبول الحرب فى مصر، معلناً أن عام ۱۹۷۱ هو عام الحسم.
كان «السادات» يناور -كما يذكر عبده مباشر- ويطلق سلسلة متصلة من ستائر الدخان لامتصاص الغضب الشعبى، وكسب الوقت، وإخفاء حقيقة نياته. وكانت الظروف قد فرضت عليه أن ينهج مثل هذا النهج، بعد أن تمكن خلال شهر مايو من عام ۱۹۷۱ من حسم الصراع على السلطة لصالحه، هذا الصراع الذى بدأ بعد وفاة الرئيس عبدالناصر مباشرة، ولم يتوقف إلا بعد التخلص من مجموعة الورثة الذين تصوروا أنهم الأحق بوراثة سلطة عبدالناصر، والذين عرفوا بمراكز القوى وفى ظل هذه المستجدات التى صاحبت وسبقت وأعقبت جولة الصراع على السلطة، كان على السادات أن يتعامل مع قضية الحرب مع إسرائيل ومبادرات السلام المطروحة فى الساحة بحذر شديد، فالرأى العام تجتاحه موجات غضب ويطالب بالحرب للثأر واستعادة الكبرياء، والطلبة يتظاهرون بتحريض من قيادة التنظيمات اليسارية التى فجعت بالقضاء على المجموعة المناوئة للسادات، والتى كانت تمثل لها الأمل والحلم فى السيطرة الكاملة على السلطة، وبما يخدم تطلعات ومخططات كل قوى اليسار بكل ألوانه.
وكان على السادات أن يختار رجلاً يتحمل مسئولية إعداد الدولة للحرب ووضع استراتيجية للإعلام، ووقع اختياره على الدكتور محمد عبدالقادر حاتم ليتحمل مسئولية رئاسة مجلس الوزراء بالنيابة عنه، بالإضافة إلى مسئولية وزارة الإعلام. وكان التكليف الأهم مواصلة إعداد الدولة للحرب بما فى ذلك وضع خطة للإعلام قبل وأثناء وبعد المعركة المقبلة.
كان التوفيق حليفاً للسادات وهو يختار هذا الرجل لهذه المسئولية، فهو واحد من القلة بين مجموعة يوليو التى نهلت من بحار العلم والثقافة، واستظلت بالفكر الليبرالى، ومع تعدد مسئوليات الدكتور حاتم منذ بداية حقبة يوليو، فإنه كان حريصاً على المشاركة بقوة فى الحياة المدنية سياسياً واجتماعياً وثقافياً وارتبط بصداقات عميقة مع أهل العلم والفكر والقلم، واكتشف الناس أن الرجل يجيد الاستماع مثلما يجيد الحوار، ويحسن طرح أفكاره وعرض وجهات نظره. ومن خلال هذه العلاقات التى تشعبت وازدادت عمقاً بالقيادات والقوى المدنية كان اختيار الرئيس السادات للدكتور حاتم لتحمل مسئولية رئاسة مجلس الوزراء ومنصب وزير الإعلام المدخل لنجاح جديد وعظيم للرجل.
وعندما عرض «حاتم» على السادات استراتيجيته لتحقيق المفاجأة والسياسة الإعلامية التى ينصح بها، أقره السادات فيما ذهب إليه، وما ورد فى تقرير الرجل قوله: إن من يريد الحرب عليه ألا يتحدث عن نواياه، وأن نبتعد تماماً عن مقولات أقوى قوة فى الشرق الأوسط، وطالب السادات بألا يكرر مقولات عام الحسم وعام الضباب وما شابه. كانت سرية القرار وعناصر خطة المفاجأة هى العمود الفقرى لسياسات الرجل وبصفته رقيباً فقد منع تماماً نشر كل ما يتعارض مع الاستراتيجية التى وضعها والسياسات التى تبناها.
إعداد الدولة.. وتضحية الشعب
بدأ التخطيط لإعداد الدولة للحرب عقب حرب يونيو 1976، بحيث يتماشى مع الموقف السياسى والعسكرى والاقتصادى والمعنوى الصعب الذى نتج عن الهزيمة.
ففى الوقت الذى كان يتم فيه إعادة بناء القوات المسلحة، كما يذكر المشير الجمسى، كان يتم إعداد اقتصاد الدولة لمواجهة الموقف الجديد، وإعداد أراضى الدولة لتكون مسرحاً للعمليات، وإعداد الشعب عسكرياً ومعنوياً للحرب. وقرر مجلس الوزراء فى ١٣ ديسمبر ۱۹۷۲ تشكيل لجنة من القوات المسلحة لمعاونة الوزارات فى إعداد تصورها وموقفها ودورها أثناء العمليات الحربية ومراجعة خطط الطوارئ للوزارات، والاتفاق مع الوزارات على أسلوب عملها خلال الحرب، بالشكل الذى يضمن استمرار السيطرة وحسن الأداء وحشد الجهود المادية والمعنوية لدعم المجهود الحربى طوال فترة الصراع المسلح.
المفاجأة والخداع
ولتحقيق المفاجأة، كان لا بد من خطة خداع محكمة تكفل تحقيق عنصر المفاجأة وتأمين الضربة الأولى..
كان من الضرورى -كما يقول المشير الجمسى- أن نبذل كل جهد ممكن لتحقيق المفاجأة حتى تكون المبادأة لنا لأول مرة فى الحرب ضد إسرائيل، وحرمان العدو من فترة الإنذار اللازمة للتعبئة وعدم إعطائه فرصة توجيه ضربة وقائية، وضمان نجاح العبور والهجوم، وكذلك فى الجولان، بأقل خسائر ممكنة.
واشترك فى وضع خطة المفاجأة عدد محدود جداً من ضباط هيئة العمليات، وكتبت بخط اليد كخطة العمليات تماماً، واشتملت الخطة على إجراءات وأعمال كثيرة فى مجالات مختلفة بحيث تتكون صورة كاملة أمام العدو أن قواتنا فى مصر وسوريا ليست لديها نية الهجوم، بل تعمل لتقوية دفاعاتنا واستعدادنا ضد هجوم محتمل تقوم به إسرائيل.
وخلال الفترة التى سبقت الحرب تم تنفيذ العديد من الأعمال الخداعية التى تمت لتحقيق المفاجأة.. وهى:
أولاً: مناورة الخريف للتدريب
ثانياً: تحريك المدمرات فى باب المندب.
ثالثاً: الإعلان عن أداء أفراد القوات المسلحة لمناسك العمرة والإعلان بالصحف عنها.
رابعاً: اعتماد مبدأ السرية المطلقة فى العمل.
وبدأت خطط التمويه والخداع الاستراتيجى، بتسريح ثلاثين ألف مجند مصرى وإحالتهم إلى الاحتياط.. رأى الإسرائيليون فى ذلك مؤشراً من مؤشرات اليأس عند المصريين، غير مدركين بأن المسرَّحين كانوا من غير حملة المؤهلات ويعملون فى مواقع غير قتالية.
أجهزة تحليل المعلومات فى إسرائيل تقع فى شرك «نكات المصريين» عن الضباب الذى يحول دون الحرب.. وتسريح 30 ألف جندى من الجيش
كما تلقت أجهزة تحليل المعلومات فى إسرائيل النكات التى انتشرت فى مصر عن الضباب الذى يحول دون محاربة إسرائيل، ولعب قرار الاستغناء عن الخبراء السوفييت دوراً بارزاً.. فقد أكد للعدو عدم جدية مصر فى القيام بحرب، لكنه فى ذات الوقت وضع القيادات العسكرية أمام مسئولياتها كاملة وضاعف من حماس ضباط العمليات.
وبدأت القوات الجوية القيام بطلعات تدريبية تركز على العمل فوق الخطوط المصرية غرب القناة والتظاهر بالاتجاه نحو الدفاع عن المناطق الحيوية. وبدأت مصر فى إقامة مطارات جديدة لم يكن لها من المقرر أن تنتهى قبل عام أو اثنين، مثال البناء فى مطار النفق الجبلى فى مايو 1973 والذى انتهت المعارك قبل أن يتم بناؤه. وكانت الحركات المتكررة للوحدات المختلفة تشكل لغزاً للعدو، وكثيراً ما تحركت كتائب وألوية بالكامل شمالاً وجنوباً ومن الغرب إلى الشرق وبالعكس دون أن يكون هناك سبب مفهوم.
شبه حصار
حتى الشهور القليلة التى سبقت انتصار أكتوبر المجيد، كانت مصر -كما يذكر اللواء حسن الجريدلى، أمين عام وزارة الدفاع أثناء حرب أكتوبر- شبه محاصرة سياسياً من الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التى انحازت بكل ثقلها إلى جانب إسرائيل، وجرت معها غالبية الكتلة الغربية، فيما عدا فرنسا، التى اتخذت موقفاً وسطاً يتسم بالاعتدال. ولم تتوقف الولايات المتحدة عن الضغط على مصر لتقديم التنازلات لإسرائيل، والتأكيد على عدم قدرتها على ممارسة أية ضغوط على إسرائيل أو وقف إمدادها بالأسلحة فائقة التطور التى تكفل لها اليد العليا فى المسرح.
وخلال اللقاءات التى تمت بين مستشارى الأمن القومى للدولتين فى فبراير ومايو 1973 حرص هنرى كيسنجر على ألا يذكر كلمة واحدة عن انسحاب إسرائيل من الأراضى العربية، بل قال صراحة: «إنه ليس هناك أفضل من قناة السويس ونهر الأردن كخطوط دفاع عن إسرائيل، وأن الضرورة تقضى بوجود قوات إسرائيلية فى شرم الشيخ».
إعداد الشعب
كانت صدمة هزيمة الجولة الثالثة فى يونيو ٦٧ قاسية ومريرة على شعب مصر بل والعرب أجمع، ولكن فى وسط الكم الهائل من اليأس، انطلقت الإرادة المصرية تعلن رفضها للهزيمة وتصميمها على إزالة آثار العدوان مهما كانت التضحيات. وكان لزاماً على مصر وشعب مصر أن يواجه قدره، وأن تبدأ مصر فوراً فى ترسيخ قواعد وأسس ومبادئ سياسية وعسكرية سليمة لتقود مسيرتها الشاقة المقبلة، والإعداد لجولة عسكرية مقبلة بديلة عنها من أجل استرداد الأرض والكرامة، وأصبح من الضرورى -كخطوة أولى- نحو الهدف الأسمى أن نبدأ بالصمود، صمود القوات المسلحة على جبهة القتال، وصمود الشعب فى الجبهة الداخلية وتحمله مسئولياته فى المعركة المقبلة.
كان الهدف من إعداد الشعب لهذه المرحلة هو وضع الأسلوب الأمثل لاستغلال قدراته وإمكانياته وإعداده الإعداد المناسب عسكرياً ومعنوياً، حتى يصبح قوة فعالة مؤثرة فى أى صراع مقبل، سواء كان لائقاً لانضمامه للقوات المسلحة أو أن يكون صالحاً لتنفيذ مهام المقاومة الشعبية وحراسة المنشآت الحيوية، مع العمل على التوازن بين أداء الفرد للخدمة الوطنية وممارسة الحياة المدنية ومن ناحية إعداد الشعب سياسياً ومعنوياً للجولة القادمة كان العمل الرئيسى لأجهزة الإعلام والمنظمات الشعبية هو إقناع الشعب بسياسة الدولة وجهودها فى سبيل تحقيق أهدافها، وتهيئة المناخ المناسب للقيادة السياسية وأجهزتها لنيل أقصى جهودهم لتحقيق أهداف الدولة السياسية، وللحق فلقد تحمل شعب مصر الكثير فى هذه المرحلة، خاصة أثناء حرب الاستنزاف، ولكنه صمد وصمم على تكملة المسيرة مهما كانت التضحيات لتحقيق الهدف الأسمى والنصر فى المعركة المقبلة.
رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية: لم نكن على علم بأى استعداد مصرى وسورى للحرب.. وكان الجو فى جيش الدفاع الإسرائيلى خلال صيف 73 «هادئاً ومثالياً»!
كان من الضرورى إعداد أجهزة الدولة نفسها للتحول من حالة السلم إلى الحرب، والعمل تحت ظروفها دون توقف أو اضطراب بما يعنى الاستقرار السياسى والاقتصادى والاجتماعى للدولة وقت الحرب، واستمرار سيطرتها على نشاطاتها المختلفة وتلبيتها لمطالب الشعب وقواته المسلحة معاً.
وفى هذا المجال، تم تحديد المسئوليات التفصيلية لكل جهاز من أجهزة الدولة وأسلوب التعاون بينها وقت الحرب، مع القدرة على التنفيذ والحركة والسيطرة تحت ظروف المعركة، وإنشاء غرف العمليات اللازمة فى كل وزارة وجهاز من أجهزة الدولة وإجراء التجارب الفجائية لاختبارها، مع وضع الخطط التبادلية لمواجهة أى مطالب أو مواقف فجائية.
ومنذ بداية العام ١٩٧٣، حرصت مصر على إثارة قضية الشرق الأوسط فى مجلس الأمن بهدف الحصول على قرار قوى يدين إسرائيل، ثم انتهزت مصر فرصة عدوان إسرائيل على بيروت عن طريق البحر فى يوليو 1973 وقتلها بعض زعماء منظمة التحرير الفلسطينية فدفعت بالمسألة إلى مجلس الأمن فى اجتماع طارئ بناء على طلب لبنان، ورغم تهديد الولايات المتحدة باستخدام الفيتو إذا ما أدينت إسرائيل، فإن المشروع الذى تقدمت به مجموعة عدم الانحياز حصل على الموافقة الكاملة، فيما عدا دولة الصين الشعبية التى امتنع مندوبها عن التصويت لإصراره على أن تحمل صيغة القرار إدانة أشد.. أما أمريكا فقد استخدمت حق الفيتو الذى قابلته غالبية المجتمع الدولى بالاستهجان والاستنكار.
الاتزان والموضوعية
عندما بدأت المعركة، نهجت مصر نهجاً إعلامياً متزناً وهادئاً وموضوعياً ومنطقياً، وكان واضحاً منذ إذاعة البيان الأول أن مصر استوعبت الدرس تماماً.. ولم تفقد وسائل الإعلام هذا الخط طوال فترة المعركة وما تلاها..
هوامش:
دور الإعلام فى تحقيق المفاجأة الاستراتيجية فى حرب أكتوبر – د. محمد عبدالقادر حاتم.
الندوة الاستراتيجية بمناسبة مرور 25 عاماً على حرب أكتوبر المجيدة «المحور العسكرى» – إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة.
مجموعة خطب وأحاديث الرئيس محمد أنور السادات خلال الفترة من سبتمبر 1970 وحتى نهاية ديسمبر عام 1974- وزارة الإعلام المصرية، الهيئة العامة للاستعلامات.