اخبار فلسطين

هكذا كسر قطاع غزة المخططات الإسرائيلية على مدار عام

خاص شبكة قدس الإخبارية: تجاوزت حرب الإبادة على قطاع غزة العام والشهرين، استخدم الاحتلالُ فيها كل أدوات القتل والدمار والإرهاب، بحثًا عن “النصر المُطلق” الذي وعد به رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، جمهوره.

كان أحد أهم أهداف الاحتلال إخضاع المجتمع الغزي، وتحويله إلى أداة مطواعة لخطط الاحتلال الهادفة إلى تحويل الحاضنة الشعبية إلى أداة ضغط على مقاومتها، ودافع لانهيار التشكيلات المنظمة تمهيدًا لإقامة نظام محلي موالٍ يتولى إنجاز المهام التي أخفق الاحتلال في تنفيذها بالقوة العسكرية.

استخدم الاحتلال سياسات العصا والجزرة لشهور، طامعًا في استقطاب مكونات محدَّدة يستهدفها، من محاولات الاستثمار في العشائر وإشاعة الفوضى وفتح المجال أمام عمليات البلطجة باستهداف الأمن، وليس انتهاءً بإغراءات مالية كبيرة لمن يتعاون في إشاعة الفوضى أو تسليم الأسرى الموجودين لدى المقاومة، اصطدم جميعها بحائط الصلابة الوطنية ونباهة المقاومة ومتانة كادرها وسلامة منظومة القيادة والسيطرة فيها.

النصر المطلق ومعضلة أهداف الحرب

على غير عادته، وضع نتنياهو سقفًا مرتفعًا جدًّا لأهداف حربه ضد القطاع، في مقدمته تثبيت فكرة “النصر المطلق” الذي يتضمن انهيارًا القطاع ومقاومته وكل ما يعبِّر عن رفض المشروع الصهيوني، ونصت أهداف الحرب على نحو أساسي على:

القضاء على حركة حماس: في القلب من هذا الهدف الواسع مضامين كثيرة، أهمها أن حماس المقصودة حماس بوصفها فكرة، وبوصفها تنظيمًا، وبصفتها التنظيم المقاتل الأكبر الذي يعبِّر عن المقاومة بوصفها سلوكًا، ومن ثَمَّ فإن تحقيق هذا الهدف يعني القضاء على كل ما سبق ذِكره، وفي كل عنوان منه عشرات الأوجه التي تتطلب الملاحقة والتصفية، ما دفع إلى الإقرار في النهاية بأنه لا يمكن القضاء على فكرةٍ وأيديولوجيا بالقوة العسكرية. لذلك فإن إمكانيةَ قياس النجاح بتحقيق هذا الهدف شبهُ معدومة، ما دفع العديد من حلفاء الاحتلال في العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، إلى التحذير من كون هذا الهدف تعجيزيًّا ووصفةً مسبقةً للفشل.

استعادة الأسرى الإسرائيليين: يعني هذا الهدف أنه لا يمكن أن تنتهي الحرب دون عودة أسرى الاحتلال، في توابيت أو أحياء، أي إن ملف الأسرى، وإن تجاهلته حكومة الاحتلال كثيرًا ورفضت دفع الأثمان اللازمة من أجل الخوض في مسار تبادل يعيدهم عبر التفاوض والاتفاق، سيبقى عنوانًا ماثلًا على جدول الأعمال لا يمكن تجاوزه إلا في إطار ترتيب الأولويات الذي يخضع إلى الجدل والنقاش داخليًّا لدى الاحتلال يومًا بعد يوم.

ضمان أن غزة لن تشكِّل تهديدًا لـ”إسرائيل” مجدَّدًا: يعني هذا الهدف أن تُحيَّد غزة تمامًا من دائرة الفعل الفلسطيني المقاوم، وهو مسار لا يعني أن تُجرَّد غزة من سلاحها وتُفكَّك مقاومتها فحسب، بل يتعدى ذلك إلى ما وصفه نتنياهو “بتغيير العقول”، وإعادة هندسة المجتمع، وجغرافيا قطاع غزة، بما يجعله مستقبلًا خاضعًا عملياتيًّا وعسكريًّا، ومُطبَقًا عليه أمنيًّا، ومحيَّدًا وجدانيًّا، ومردوعًا داخليًّا عن تقديم أية مساهمة في الكفاح الوطني الفلسطيني.

وفي استعراضه لطبيعة النتائج التي يرجوها من الحرب، تحدث رئيس وزراء الاحتلال صراحة عن شكل “اليوم التالي” الذي يطمح إليه، وهو ألَّا تعود حماس إلى حكم غزة، وألَّا يسمح لأي شكل من أشكال الحكم الوطني للقطاع، وأن تجهِّز “إسرائيلُ” وتهيِّئ النظامَ الخاصَّ المواليَ لها لتسيير أمور سكانه، بسيطرة عسكرية وأمنية إسرائيلية لا تتحمل وفقها “إسرائيل” وزر ومسؤوليات إعادة الاحتلال، وفي الوقت ذاته تتمتع بحرِّية الحركة وعمليات المطاردة الساخنة داخل القطاع، ما يحولها إلى عملية احتلال مجانية لا تترتب عليها أية التزامات تجاه السكان والواقع الإنساني هناك.

شكَّل عنوان “اليوم التالي” موضع خلاف كبير بين بنيامين نتنياهو وشركائه في الائتلاف إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من جهة، ومن جهة أخرى الأجهزة الأمنية وجيش الاحتلال ومن خلفهم قوى وأحزاب المعارضة الإسرائيلية، بمن فيهم شركاء مجلس الحرب المنحل بيني غانتس وغادي أيزنكوت، إلى جانب وزير الحرب المقال يوآف غالانت، الذين وجدوا في رؤية رئيس حكومتهم طرحًا يصعب تحقيقه، خصوصًا في شكل النظام البديل لحكم حماس في غزة، إذ يتمسكون بأن الخيار الأمثل إفساح المجال أمام السلطة الفلسطينية للعودة إلى الإمساك بزمام أمور القطاع، وسط التزامات أمنية تلبِّي المصلحة الإسرائيلية، ما يرفضه نتنياهو.

القوة الغاشمة تنكسر أمام الصمود

في أشهر العدوان الأولى، رفع الاحتلال الضغط العسكري على المجتمع الغزي إلى الذروة، سعيًا منه إلى دفعه إلى الانهيار تحت وطأة الضربات والجرائم والمجازر، وموجات التهجير القسري الكبرى، خصوصًا من شمالي القطاع إلى جنوبيه.

قدَّر الاحتلال أن المناورة العسكرية الكبيرة غربي غزة، التي استهدفت الوصول إلى مجمع الشفاء الطبي ومنطقة مركز مدينة غزة الاقتصادي في حي الرمال والسيطرة على المنشآت الحكومية ذات الرمزية مثل المجلس التشريعي ومجمعات الجوازات وأنصار الحكومية، ستؤدي إلى خلق حالة فزع في الهرم القيادي لقوى المقاومة وللجهاز الحكومي، تؤدي إلى تساقط متتالٍ لأحجار الدمينو وصولًا إلى الانهيار المتوقع على غرار سيناريو “اجتياح بغداد” وانهيار النظام العراقي.

سعى الاحتلال إلى تحويل شمالي القطاع إلى منطقة عازلة خالية من السكان، تمهيدًا لجعلها مادة جاهزة لأية خطط مستقبلية، سواءٌ تلك المرتبطة بطموحات الاستيطان، أو السيطرة العسكرية والأمنية على القطاع، والهادفة في جوهرها إلى تحويل منطقة شمال وادي غزة كلها إلى منطقة فاصلة بين الكتلة السكانية في القطاع، والمستوطنات الإسرائيلية جنوبي فلسطين المحتلة.

وأما على الجانب الآخر، فأن يتحول جنوبي قطاع غزة إلى بقعة اكتظاظ أكثر من 2 مليون نازح غزي ناقم على المقاومة، عوَّل الاحتلال على أن ظروفهم الإنسانية المأساوية ستدفعهم إلى خوض مسار انقلابي متمرد عليها وعلى حضورها وفعلها وحتى صمودها وتماسكها، ما سيدفع إلى استكمال حلقات التدمير الذاتي وانهيار المجتمع ومقاومته، ما لم تظهر له أية بوادر أو مؤشرات على الرغم من محاولات آلة التحريض الإسرائيلية الكبرى والظروف المأساوية.

سقطت نظرية الانهيار من رأس الهرم إلى أدناه، كما سقطت نظرية المنطقة العازلة أمام صمود أهالي شمالي قطاع غزة، وعلى الرغم من القوة النارية الهائلة، والمجازر الكبرى، وإتباعها بقتل بطيء بالتجويع وأبشع جرائم القتل الجماعي والإخفاء القسري، تمسَّك جزء رئيسي من الأهالي بالبقاء في الشمال متشبثين ببيوتهم وأماكن سكنهم. وشكَّل واقع الصمود أولى خطوات الإفشال للتسلسل الإسرائيلي المُعَدِّ ضمن مخطَّط الحرب لشكل وجغرافية القطاع، دفعت الاحتلال إلى إعادة صياغة كثير من خططه وفق المعطيات الجديدة التي فرضها الميدان.

أدوات متعددة بلا نتائج

في إطار السعي إلى تحقيق أهداف الحرب، وبعد أن فشلت عقيدة “الصدمة” في تحقيق نتائج سريعة تسهِّل مهمته وتجعل غزة لقمة سائغة يمكن بها خوض مسار يلبي طموحات نتنياهو وحكومته اليمينية، بدأ الاحتلال في استحداث مجموعة أدوات وخطوات لتعويض الفشل ومراكمة فرص للنجاح، كان أبرزها:

سلاح التجويع والقتل البطيء: استخدم الاحتلال التجويع والقتل البطيء لسكان شمالي القطاع، بهدف كي وعي المجتمع ودفعه إلى النزوح جنوبًا بحثًا عن أبسط الحقوق: الحق في المأكل وسد رمق الأطفال الجائعين وكبار السن والمرضى، إلا أن موقف ثبات أهالي الشمال كان المحدِّد الأساسي الذي كسر الأداة وأثبت انعدام نجاعتها.

العمل مع العشائر: حدَّد الاحتلال العشائر مادةً رئيسيةً يرتكز إليها في إقامة نواة لـ”ليوم التالي”، واستند جزء أساسي من خططه على إمكانية استنساخ نموذج “الصحوات” في العراق لخلق نظام بديل يتكفل بعملية الاشتباك الداخلي مع المقاومة، ويتولى مسؤولية الوصل بين السكان والاحتلال. استخدم الاحتلال التجويع وحاجة السكان إلى المساعدات مدخلًا لدفع العشائر إلى قبول تعاون ولو جزئي مقابل تخفيف الأزمة الإنسانية، وحاول فتح خطوط اتصال مباشر أو عبر وسطاء دوليين.

اصطدم المخطط بحالة من الرفض شبه الكلي من العشائر لمبدأ التعاطي مع الاحتلال ووكلائه، وأعلنت مواقف تلتزم فيها بالمحدِّدات الوطنية، وترفض أشكال التعاون مع الاحتلال، ما حدا بنتنياهو إلى الاعتراف بفشل هذه الاستراتيجية والبحث عن خيارات بديلة لإقامة نظامه المحلي.

الاستثمار في الفوضى: استثمر الاحتلال في الفوضى منذ الأشهر الأولى للحرب، بتكثيف استهداف الطواقم الشرطية والأجهزة الأمنية، لترك المجال مفتوحًا لشيوع مظاهر الجريمة والبلطجة، وكسر الحاجز النفسي تدريجيًّا أمام أهالي القطاع، وتثبيت فكرة غياب السيطرة الأمنية ودخول غزة مرحلة جديدة تخلو من السيطرة الحكومية.

استخدم الاحتلال شتى أدوات التحفيز لمجموعات اللصوص والمجرمين، خاصةً المحكومين بأحكام قضائية بين المؤبد والإعدام، وشارك أدوات دولية في دعم هذه الحالات وتعزيزها، إلا أنها لم تتحول إلى مهدِّد جدي، ولم تَلقَ قبولًا شعبيًّا، بل رفضًا ومواجَهةً حوَّلاها إلى مجموعات معزولة تعمل بحماية الاحتلال.

الضغطُ الأقصى على السكان وموجاتُ النزوح المتكررة: مع كل جولة مفاوضات يعمد الاحتلال إلى استخدام ورقة الضغط على سكان القطاع، ودفع مربعات واسعة إلى النزوح وتنفيذ عمليات عسكرية، بهدف الضغط على المفاوض الفلسطيني لتقديم تنازلات جوهرية تحت وطأة الضغط الميداني والتفاوض تحت النار أو حشر المقاومة في الزاوية لتجنب عمليات عسكرية مُحدَّدة.

لم تفلح تلك المحاولات، بل على العكس، عملت المقاومة على رفع كلفة كل تقدُّم إسرائيلي بإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في الأرواح والمُعدات، ما يجعل معادلة الضغط الميداني مكلفة للاحتلال، لا على أهالي القطاع فقط.

التحريض على المقاومة: استثمر الاحتلال كثيرًا، عبر منظومات التحريض و”الهاسبارا” التابعة للناطق العسكري لجيشه، ومنصات الشاباك، والعملاء على الأرض، في عملية تحريض واسعة استهدفت المقاومةَ وقيادتَها، لتحميلها مسؤولية الأزمة الإنسانية في غزة، لدفع المجتمع هناك إلى الانقلاب عليها، وتحويله إلى سلاح متقدم في مواجهة القوى والفصائل الفلسطينية.

لم تخلق هذه المحاولات شرخًا بين المقاومة وحاضنتها الشعبية، بل إنه بعد أكثر من عام ما يزال الشعب الفلسطيني في قطاع غزة متمسكًا بحقه في المقاومة ومواجهة عدوه.

العمليات العسكرية المباغتة: استهدفت مواقع وأماكن عوَّل على كونها مواقع قيادة وسيطرة للمقاومة، عمد الاحتلال إلى استخدامها لاكتساب أوراق تفاوضية قوية تدفع المقاومة إلى تقديم تنازلات جوهرية، أو تُملكه كنز معلومات استخباراتي يسمح بتحقيق اختراقات نوعية، خصوصًا في ملفَي الأسرى وتفكيك البنية القيادة ومنظومات القيادة والسيطرة للمقاومة.

لم يفلح ذلك، ولم ينجح الاحتلال في كسب أوراق استراتيجية تغيِّر مجرى المعركة، أو تسهِّل وتُقصِّر المسافات للوصول إلى أهدافه، ولم يجد ما أوحت استخباراته بأنه موجود في أي من هذه الأماكن التي هاجمها بكل قوة.

عروض المال والمساومات الفردية: روَّج الاحتلال لعدة عروض، استهدفت في المرحلة الأولى الأهالي عبر إعلانات استخدم فيها منصات التواصل الاجتماعي، والاتصالات الخلوية، والمنشورات المطبوعة، لدفعهم إلى تقديم معلومات حول أماكن احتجاز أسرى الاحتلال، طورها لاحقًا لتستهدف المُكلَّفين بحراسة الأسرى بعد مرور عدة أشهر من الحرب، على قاعدة التعويل على أن الضربات التي طالت المستويات القيادية وإطالة أمد الحرب ستدفع الآسرين إلى التفكير في خيارات الخلاص الفردي، ما رفع وتيرة تقديم العروض، حتى باتت وكأنها الاستراتيجية الوحيدة التي يمكن أن يقدِّمها رئيس وزراء الاحتلال تعبيرًا عن محاولات تحرير الأسرى، وصلت إلى حد عرض مبلغ 5 ملايين دولار أمريكي مقابل كل أسير.

لم تَلقَ الدعوات أي تفاعل، لا شعبيًّا ولا من المقاومين، بل حرصت المقاومة على إرسال رسالة واضحة عبر المقطع المصوَّر الأخير للأسير الأمريكي الذي ذكر عرضَ نتنياهو، وأتبعه بالحديث عن إجراءات المقاومة المشدَّدة التي اتُّخِذَت بعد عملية النصيرات، في إشارة مزدوجة، أولًا إلى إظهار أن الآسرين ليسوا معزولين، وتصلهم كل هذه العروض، ويستقبلونها بثبات كبير، وثانيًا إلى أن الرد على كل المحاولات الإسرائيلية سيكون بتشديد أكبر على الأسرى.

الضغط الأقصى ميدانيًّا: بعد فشل خيارات عديدة في دفع المقاومة إلى تقديم تنازلات، ودفع الحاضنة الشعبية إلى الانهيار، عمد الاحتلال إلى تطبيق سياسة الضغط الأقصى ميدانيًّا، وتجلت بدرجة أساسية في العملية العسكرية الواسعة في شمالي قطاع غزة، التي شملت استخدام كل أدوات القوة والإبادة الجماعية، والتهجير القسري، بهدف تفكيك البنية الشمال الديموغرافية، وتدمير بنيته العمرانية، وتحويله إلى أرض محروقة لا يمكن العودة إليها.
لم تفلح تلك السياسة، بل كان الصمود الشعبي عاملًا صادمًا دائمًا، فيما تماسك عقد المقاومة القتالية، وقدرتها على توجيه الضربات ورفع كلفة التحركات الإسرائيلية، بما يمثِّل أبرز مظاهر الفشل الإسرائيلية.

بين الصلابة والمناعة

تصطدم خطط الاحتلال بحائط الفشل اصطدامًا متكررًا على مدار أكثر من عام من عمر حرب الإبادة المستمرة، ارتباطًا ببيئة قطاع غزة التي جُبلت لعقود بالتضحيات والفداء والمواجهة، واستطاعت تجاوز محطات عديدة من العدوان الإسرائيلي بمشهد صمود وتلاحم وتكامل بين الحاضنة الشعبية والمقاومة.

ثمة محدِّد رئيسي مرتبط بكون المقاومة ليست جسمًا معزولًا عن المكون الشعبي، بل إنها من صلبه ومنخرطة فيه كليًّا، وليس من اليسير الفصل بين مكونات الجسد الواحد، فالمقاومون في المحصلة بوصفهم أفرادًا أخوةٌ وأبناء وآباء، وبوصفهم قوى تكوينٌ رئيسيٌّ في المجتمع عابرٌ لكل صيغ العصبوية الجغرافية والعشائرية والطبقية، فتُشكِّل المقاومة جزءًا رئيسيًّا من كل مراحل وأجزاء حياة الشعب الفلسطيني في غزة، وأحد أهم عوامل صموده.

شكَّلت صلابة البنية الفصائلية في القطاع، وقدرتها على التعامل مع معطيات الحرب وتجلياتها الميدانية، عاملًا رئيسيًّا وجوهريًّا في إفشال مخططات الاحتلال، فالحديث عن ابتداع مكونات اجتماعية جديدة يمكن أن تتحول إلى بنية قيادية محلية متعاونة مع الاحتلال يحتاج أولًا إلى تجاوز البنية التحتية المنظَّمة المنتشرة على طول القطاع وعرضه، والتغلب على ممكنات القوى والتجذر المجتمعي فيه، ومن ثم اكتساب أدوات قوة وتأثير للوصول تسمح بأن يُشكِّل نواة لنظام محلي جديد، وهي مراحل من المستحيل أن ترى النور، إذ تواجَه في مهدها بصلابة وصمود البنية التحتية للقوى الوطنية الفلسطينية.

إلى جانب البنية المنظَّمة، حُكم على مخططات عديدة بالفشل منذ البدء ارتباطًا بأنه ما من لاعبين محليين يقبلون التعاطي معها، وعُزلت أدوات خبيثة وتخريبية أخرى مجتمعيًّا، ودون تدخل مباشر من المقاومة للتصدي لها، ولم يصل أي منها إلى درجة تشكيل خطر جدي وحقيقي، فكانت المناعة المجتمعية كفيلة بأن تحسِم المعادلةَ مسبقًا، بألَّا تترك مساحاتٍ أو ثغراتٍ يمكن للاحتلال التسلل عبرها. وعلى الرغم من حجمه الواسع داخل المجتمع الغزي المسيَّس، فإنه الاستقطاب الحزبي يزول ويختفي فور تحوُّل عنوان المواجهة إلى الاحتلال، فيتجند المجتمع بأكمله في إطار مواجهة مخططاته وإفشالها.

تمر شهور طويلة دون ملامح فعلية لنصر نتنياهو المطلق، ولا دلائل على إمكانية تحقيق أهداف حربه بالقوة العسكرية المباشرة، ما دفع الاحتلال إلى البحث عن تحصيلها عبر أدوات التأثير والهندسة الاجتماعية وكي الوعي، في سعي لم يصل إلى أية نتيجة، ولم ينجح في تحقيق اختراقات يمكن المراكمة عليها لتمكن الاحتلال من ملامسة أفق لتحقيق أهدافه، ولو صوريًّا، فيما قدَّم قطاع غزة نموذجًا لحجم تماسك البنية الداخلية، فاق كل التقديرات الاستخباراتية الإسرائيلية والعالمية، وأعجزها عن ابتداع أدوات تُحقِّق الأهدافَ الإسرائيليةَ وتجعل ثمةَ إمكانية لادعاء نصر إسرائيلي في القطاع الذي سيتحول إلى النموذج الأبرز حول انقضاء زمن الحسم العسكري الإسرائيلي.