اخر الاخبار

شريعة الغضب | عندما يخلع الطلاق ثياب الرحمة ويرتدى درع الانتقام .. هنا يحكم الشيطان

أي جنون هذا الذي جعل من الطلاق مجرّد توقيع بارد على ورقة صامتة ؟ .. و .. و أي وهمٍ ذاك الذي يتسلّل إلى العقول حتى جعل من الفراق نهاية للمودة لا بداية لـ مرحلة جديدة من العلاقات الإنسانية ؟ .. الطلاق في شريعة الرحمن ليس انفجار  غاضب يُدمّر كل شيء .. بل قرارٌ رفيع لا ينبغي أن يُتخذ إلا بعقل راشد .. ومروءة تحفظ المعروف لـ أسر لابد وأن تستكمل مسيرة الحياة بـ سلام ووئام يحفظ لها الرحمة والعدل والسلام .

لكن وا أسفاه .. حين أدرنا ظهورنا للتشريع الإلهي شوّهنا قدسية العلاقة .. وحوّلنا بيوت السكينة إلى ميادين اشتباك وشقاق .. وقذَفنا الأبناء في مرمى نيران لا ذنب لهم فيها ولا جريرة .. حتي اغتلنا الرحمة بـ أيدينا ونسينا الفضل ودفنّا العفو .. ثم .. ثم سمحنا للشيطان أن يضع وساوسه في العقول والقلوب معاً .

هذا الانفصال الصامت .. الذي يسري في مجتمعاتنا أشبه بـ سمّ بطيء .. يقتل ويدمر بلا خلق أو ضمير .. هذا الانفصال الصامت ما هو إلا انحراف خطير عن التشريع الإلهي .. الذي صاغ أدق تفاصيل العلاقة الزوجية .. وحدّد كيف تنتهي دون أن تنهار معها إنسانية الإنسان .. لأننا حين ننسي الفضل وننكر المودة وننحرف عن شرع الله .. نضع أنفسنا دون أن ندري في قطار الشيطان كي يختطفنا نحو هاوية لا قرار لها .

.. و .. و هنا تكون المأساة .. لاننا لم نهدم عقد الزواج فقط بل نهدم معه منظومة الأخلاق .. ونعلن طلاقاً جماعياُ من نور القرآن ومن دفء الإنسانية .. ومن كل ما أراده الله لنا من سعادة وحب وسلام .. وهنا اتساءل : من سوّق للوهم القاتل بـ أن نهاية الزواج تعني نهاية الفضل بين الأزواج ؟ .. من قال أن الطلاق بداية لـ قطّع ما أمر الله بوصلِه ؟ .. منذ متى صار الطلاق قراراً فردياً يُؤخذ في لحظة غضب ؟ .. من الذي منح أحد الطرفين حق نسف المودة ونحر الرحمة وتفجير بيتٍ بناه الله على السكينة والرضا ؟ .. لماذا خلع الناس ثياب الرحمة وارتدوا دروع الانتقام ؟ .. لماذا صارت بيوت الحب ساحات للقتال ؟ .. لماذا هانت علينا فلذات أكبادنا فـ ألقينا بهم ضحايا في مذبحة الأنانية والضياع ؟ .

أيها الناس .. هل آن الأوان كي نصحو من غفلة أرادها لنا الشيطان ؟! .

ففي منظومة التشريع الإلهي لا يُترَك الانفصال بين الزوجين لـ أهواء منفردة أو قرارات طائشة .. بل يُبنى على ركنين راسخين : ” المشاركة والتشاور ” .. فـ العلاقة الزوجية كما أرادها الله ليست مجرد اقتران عابر .. بل شراكة مقدسة هدفها الأول بناء أسرة قائمة على السكينة والمودة .. وتربية الأبناء في محيطٍ من الرحمة والتكامل الإنساني .

وهنا تتجلّى روعة التشريع الربّاني الذي يضع الطلاق في مكانه الطبيعي كـ خيار اضطراري .. وليس كـ وسيلة للانتقام أو فضّ النزاع على عجل .. فالله جلّ وعلا حين شرّع الطلاق قرنه بـ الحوار والتفاهم والاتفاق .. وليس بـ قرارات فردية تُتخذ في لحظة غضب أو في ظل خلاف عابر .. إذ يقول الله سبحانه وتعالي : ” وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” .. صدق الله العظيم .

 تأملوا هذا النص الإلهي العميق .. كيف يربط العدالة بـ العفو .. والشرط القانوني بـ التقوى .. ويعيد التذكير أن ما بين الزوجين من فضل لا ينبغي أن يُمحى بمجرد انتهاء العلاقة .. فـ حتى في لحظة الانفصال يبقى على كل طرف أن يُبقي على روابط المودة .. لا أن يتحوّل الانفصال إلى ساحة صراع يعبث فيها الشيطان .. وتُستَخدم فيها الأبناء كـ أوراق ضغط أو أدوات انتقام .

القرآن الكريم لا يكتفي بـ تحديد إجراءات الطلاق .. بل يحمّل كلًا من الزوجين مسؤولية ما بعد الانفصال من رعاية الأبناء وضمان حقوقهم المادية والنفسية والحفاظ على علاقة إنسانية قائمة بين الوالدين .. تتيح لكل منهما الاطمئنان على أطفاله ومساندتهم في التربية والنمو السليم .. فـ العلاقة بين الزوجين وإن انتهت شكلياً .. لا تنتهي إنسانياً ما دام بينهما أطفال .. وما دام بينهما تاريخ مشترك لا يُمحى .

لكنّ المأساة الكبرى أن معظم ما يُطبّق اليوم من قوانين شخصية وممارسات اجتماعية بعد الطلاق .. لا تستند إلى هذا التشريع الإلهي الرباني .. بل إلى تراكمات وتشريعات انفصلت عن روح القرآن الكريم .. فمنذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون ينزلقون تدريجياً نحو مناهج لا تستلهم القرآن كـ مرجع أعلى بل تستبدله بعقول بشرية ناقصة .. وقراءات سطحية تُلبِس الإسلام ما ليس منه .. وهنا يكون واجباً علينا أن نوقظ العقل .. ونصحح العلاقة مع الله .. ونعود إلى الرسالة المحمدية الصافية .. التي جاءت لـ تصنع مجتمع الرحمة والسعادة والرفقة الصالحة بين الزوجين .. فمتى التزم المسلمون بتلك التعاليم وطبقوا وصايا الله .. نشأ الأبناء في بيوت تغمرهم الرعاية لا الكراهية .. والمودة لا الانتقام .. والسكينة لا الصراع .

الطلاق يا سادة في القرآن ليس ورقة يُشهَر بها في وجه الشريك .. وليس قراراً انفعالياً بل إجراء مشترك يتم بموجب العقد الموقع بين الطرفين .. وفق ضوابط الشريعة ومقاصد الرحمة .. ولا يجوز أن يُبنى على شجار عابر أو خلاف مؤقت أو كلمة خرجت في ساعة غضب .. بل يجب أن يكون قراراً ناضجاً .. بعد استنفاد كل فرص الإصلاح .. وأن يتم بـ التراضي وعلى أساس حفظ كرامة الطرفين ومصلحة الأبناء .. و .. و تقديس قيم العفو والمغفرة والتسامح .

وقد أعاد الله التذكير بتلك القيم الرفيعة بقوله عز وجل في محكم تنزيله : ” وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” .. صدق الله العظيم .. تكرار هذه الآية ليس عبثاً بل رسالة عميقة من خالق القلوب .. كي لا تذوب الرحمة في بحر الخلاف .. ولا يضيع المعروف بمجرد وقوع الطلاق .. إنها دعوة للسمو فوق الجراح وتحكيم الضمير لا الغضب .. والعودة إلى نهج الله الذي أراده لـ عباده .. نهج الخير والسعادة والمودة .. لا نهج الشقاق والخصام والضياع .

فـ يا من تسيرون وراء فتنة الشيطان .. عودوا إلى نور القرآن .. فالله يريد لكم الحياة الهانئة لا جحيم المحاكم ولا نيران الانتقام .. عودوا إلى حيث قال الله : ” وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ” صدق الله العظيم .. لا تفرّطوا في هذا النور لإنه مفتاح السكينة وبوابة الفلاح .. اللهم إني قد بلغت .. اللهم فاشهد .