منوعات

حقنة واحدة… وعلاج مدى الحياة … خلايا مناعية معدّلة وراثياً تحافظ على الشباب وتكافح الشيخوخة

في عالم اعتدنا فيه أن تُقاس صحة الإنسان بعدد الأقراص التي يتناولها يومياً، أو بسنوات العلاج التي ينتظر نهايتها، تبرز من بين صفحات كتاب جديد فكرة تبدو للوهلة الأولى كأنها من نسيج الخيال، لكنها حقيقة آخذة في التشكل. ففي مؤلفه اللافت: «المُعمّرون الشباب الجدد: مقاربة قائمة على الأدلة لإطالة العمر» (Super Agers: An Evidence‑Based Approach to Longevity)، يطرح الدكتور إريك توبول (Eric Topol) أحد أعلام الطب الجينومي وأمراض القلب عالمياً رؤية غير تقليدية لمستقبل العلاج، تقوم على فكرة ثورية: برمجة الجهاز المناعي ليصبح هو الدواء نفسه.

دواء من جسدك… إليك

إذن، لا مزيد من الاعتماد الكلي على العقاقير، بل توجيه دفاعات الجسم بذكاء لمكافحة الشيخوخة، والسرطان، والأمراض المزمنة، بفاعلية غير مسبوقة.

والأهم، أن الكتاب تصدّر لائحة الأكثر مبيعاً، بحسب إحصائيات «نيويورك بوست» لمدة ثلاثة أسابيع متواصلة، ما يدل على الاهتمام المتزايد بجذور الطب العصري القائم على الأدلة… نحن لا نتحدث عن مضادات حيوية، ولا عن أدوية مزمنة تُؤخذ مدى الحياة، بل عن خلايا مناعية يُعاد تشكيلها وراثياً لتُحقن مرة واحدة في الجسم… وتمنح شفاء طويل الأمد.

الفكرة باختصار أن يصبح دمك هو مصنع علاجك. إذ تُستخرج من دم المريض خلايا مناعية من كريات الدم البيضاء تُدعى الخلايا التائية (T cells)، وهي الجنود الأمامية لجهاز المناعة. ثم تخضع هذه الخلايا لعملية تعديل جيني دقيق باستخدام أدوات ثورية مثل كريسبر (CRISPR) أداة «تحرير الجينات» الأشهر أو من خلال تقنية العلاج بالخلايا التائية ذات مستقبلات المستضد الخيمرية (CAR T Therapy)، حيث تُعاد برمجتها لتتحول إلى وحدات هجومية ذكية، قادرة على التعرف على خلايا سرطانية أو أهداف مناعية ضارة بدقة خارقة.

وبعد تعديلها، تُعاد هذه الخلايا إلى جسد المريض، ولكنها لم تعد كالسابق: لقد أصبحت «خلايا ذكية» تعرف عدوها، تطارده، وتقضي عليه… دون أن تلمس الخلايا السليمة. إنها ليست مجرد علاج، بل «أدوية حيّة (Living Drugs)» تنمو وتتفاعل وتتعلم داخل الجسد، ما يجعلها أحد أكثر مفاهيم الطب التنبؤي والعلاجي طموحاً في القرن الحادي والعشرين.

حقنة شافية وإعادة ضبط المناعة

* أمراض مستعصية تُشفى بحقنة واحدة. وحسب ما أورده الكتاب، فقد حقّقت فرق بحثية إنجازاً غير مسبوق في علاج مرضى الذئبة الحمراء (Lupus) أحد أخطر أمراض المناعة الذاتية عبر حقنة واحدة فقط من خلايا مناعية معدّلة جينياً، دون الحاجة لاستخدام أي أدوية مثبطة للمناعة بعد ذلك.

لكن المفاجأة الكبرى أن هذه التقنية لم تتوقف عند حدود الذئبة، بل امتدت إلى أمراض مزمنة استعصت طويلاً على العلاج، منها:

  • الربو المزمن (Chronic Asthma).
  • التصلب المتعدد (Multiple Sclerosis).
  • التليّف القلبي (Cardiac Fibrosis)، حيث استعادت فئران التجارب قدرتها القلبية بعد زوال التليّف واستعادة الأنسجة لوظيفتها الحيوية.

المدهش أن هذه «الخلايا الدوائية» لم تُخمِد الجهاز المناعي بالكامل كما تفعل العلاجات التقليدية، بل قامت بإيقاف الهجمات المناعية الموجهة، مع الحفاظ على قدرة الجسم على الدفاع عن نفسه ضد العدوى، وهي قفزة نوعية قد تعيد تعريف كيفية تعاملنا مع أمراض المناعة في المستقبل.

* من علاج المرض إلى إعادة ضبط المناعة. هذه المقاربة العلاجية الجديدة لا تسعى فقط إلى التحكم في الأعراض، بل تُعيد برمجة الجهاز المناعي بعمق، وتُصلح الخلل المزمن الذي يقف وراء أمراض كثيرة مرتبطة بالعمر.

وقد وُصف هذا التوجه في الأوساط العلمية بأنه «إعادة تشغيل للجهاز المناعي aging immune reset»، وهي فكرة كانت حتى وقت قريب تُصنف في خانة الخيال العلمي.

ويؤكد الدكتور توبول في كتابه أن هذه التقنية لا تستهدف عمر الإنسان فحسب، بل نوعية الحياة وجودتها في النصف الثاني من العمر.

آفاق طبية

* العالم العربي أمام نافذة مفتوحة. حتى الآن، لم يُسلّط الإعلام العربي الضوء على هذه الثورة القادمة. ومع ذلك، فإن السعودية والإمارات تمتلكان البنية التحتية البحثية، مثل مراكز الجينوم الوطني والمعاهد المتقدمة للطب الدقيق، لبناء هذه العلاجات، ليس فقط بصفتهما مستهلكين، بل باعتبارهما مشاركين في تطويرها.

ولعل المستشفيات الجامعية في الرياض ونيوم وجدة ستكون في المستقبل القريب من أوائل المراكز التي توفر «العلاج بالخلية الواحدة» لأمراض كانت تُعد مزمنة أو مستعصية.

* الطب الجديد يُكتب بخلاياك. الرسالة التي يُوجهها البروفسور إريك توبول واضحة ومُلهمة: معركتنا مع الشيخوخة لم تعد مجرد مواجهة بيولوجية مع الزمن، بل أصبحت تحدياً تقنياً بامتياز، تتحكم فيه الخوارزميات، والتعديل الجيني، والذكاء الاصطناعي.

لم تعد الشيخوخة قدراً محتوماً، بل أصبحت مساراً يمكن إعادة برمجته بأدوات نمتلكها اليوم بين أيدينا. ولم يعد الدواء مجرد قرص يُبلع، بل خلية تُبرمج، وتُرسَل بدقة إلى حيث يجب أن تعمل، وتُصلح، وتُعيد التوازن.

وإذا كانت هذه الخلايا قادرة اليوم على إسكات الذئبة، وتخفيف الربو، وإيقاف التصلب، ومحو آثار التليّف، فمن يَمنعها غداً من إبطاء عقارب الشيخوخة نفسها، ومن إعادة ضبط زمن الجسد وإطالة فتيل الصحة، لا الحياة فقط؟ إنه سؤال مفتوح، لكن الأبحاث التي تُجرى الآن، تُكتب بأمل، لا بحبر… وبين كل خلية تُبرمج، وإجابة تُكتشف، تقترب «معجزة الطب» من أن تتحوّل إلى بروتوكول علاجي.