فنون

بين الفاشية وتبرير المجازر تظهر غزة بقوة في فيلم Orwell 2+2=5


 الشيماء أحمد فاروق


نشر في:
الإثنين 1 ديسمبر 2025 – 2:09 م
| آخر تحديث:
الإثنين 1 ديسمبر 2025 – 2:09 م

بمزيج من الصور الأرشيفية والمقاطع المُصورة والواقعية ومشاهد الأفلام والسرد غير الخطي للأحداث، خرج الفيلم التسجيلي Orwell 2+2=5 للمخرج راؤول بيك إلى الجمهور، مُلقيا عشرات الأسئلة عن طبيعة الحضارة البشرية التي نعاصرها حاليا، وبعد عرضه العالمي الأول، كان عرضه الأحدث في سينما زاوية ضمن برنامج بانوراما الفيلم الأوروبي.

ويسرد المخرج الهايتي راؤول بيك في فيلمه سيرة غيرية للكاتب العالمي جورج أورويل، ولكن ليس بأسلوب درامي متسلسل بالترتيب من الميلاد إلى الموت، ولكن عبر قراءة لمذكرات الكاتب أثناء فترة مكوثه في المستشفى -حيث كان يتلقى العلاج من مرض السُل- ويمزج بين أفكار أورويل في كتاباته وبين الماضي والحاضر، حيث ننتقل بين بورما والعراق وبولندا وفلسطين، بين الحرب العالمية الثانية والأولى، ومعسكرات الموت، والأشلاء والقتلى، بهدف تكوين رؤية شاملة لأفكار أورويل التي تتجسد كل يوم في العالم عبر الدكتاتوريات الراسخة.

ويروي بيك حياة الكاتب من خلال صوت داميان لويس- بشخصية أورويل- بالتزامن مع أحداثٍ حطمت العالم، مركّزًا على فترة عمله على رواية “1984” التي نُشرت عام 1949، بعد وفاة مؤلفها، واقتبس بيك الملاحظة التي تجري على لسان لويس حول الفن والسياسة من مقال أورويل المهم عام 1946 “لماذا أكتب”.

يبدأ الفيلم التسجيلي، الذي أنتجه بيك بالتعاون مع مؤسسة أورويل، عندما سافر أورويل “المولود باسم إريك آرثر بلير” إلى جورا، وهي جزيرة نائية في جزر هبريدس الداخلية الاسكتلندية، وهناك، كما تشير بعض النصوص، بدأ العمل على الأخيرة 1984.

وفي قلب هذه الرؤية المركبة التي تركها أورويل، والتي يعيد سردها بيك عبر الإسقاط على العالم حاليا، تظهر فلسطين، في أكثر من موضع، من غزة إلى الضفة الغربية، يستعرض المخرج مشاهد مصورة ومقاطع فيديو للدمار والقتل والصرخات والأسرى والأطفال، حيث تتقاطع هذه المشاهد مع أخرى من العراق وأفريقيا والهند، يتأرجح المخرج داخل الزمن ذهابا وإيابا، لكي يرسم صورة متشابهة لكل أنواع الظللم والدكتاتورية والقتل تحت ذريعة أكاذيب السلام، لذلك من أهم القواعد التي يشرح تفسيرها الفيلم “السلام هو الحرب”، من خلال إبراز التلاعب الخطابي للسياسيين من أجل خلق حقائق زائفة.

وتأكيدا على تزييف الحقائق التي يعيشها العالم يبدأ الفيلم في الأساس بعبارة أورويل الشهيرة من روايته 1984 “قد يقنعوك أن 2+2=5 ولكن هي 4” وتتقاطع هذه العبارة داخل الفيلم مع خطابات عدة لمن يسمون أنفسهم زعماء دول، مثل بينيامين نتنياهو أثناء دفاعه عن أفعاله الإجرامية في غزة، وخطاب دونالد ترامب عقب فوزه بالانتخابات الرئاسية، وخطاب فلاديمير بوتين لتبرير العملية العسكرية في أوكرانيا.

يمزج المخرج بين هذه الخطابات الواقعية ومشاهد أفلام متنوعة، نُفذت من واقع كتابات أورويل، مثل 1984 ومزرعة الحيوان، بل ويضع خطابات هؤلاء مباشرة قبل وبعد مقاطع محددة من رواية مزرعة الحيوان، وهي نص لاذع ينتقد بشدة النظم الشمولية الدكتاتورية والفاشية، والتي يستعرضها الفيلم أيضا عبر وجوه: بينوشيه، وهتلر، وستالين وغيرهم.

وبين هذا التراكم الكثيف للصور والخطابات، يواصل بيك التفكيك الصارم لآليات صناعة الوهم، لا باعتبارها ممارسة سلطوية عابرة، بل بوصفها البنية التي تقوم عليها السياسة الحديثة نفسها، فالفيلم لا يكتفي بإظهار الدمار أو استدعاء الخطابات الشهيرة، بل يعيد ترتيبها داخل بنية بصرية تُعرّي علاقة التبعية بين السلطة ووسائل الإعلام، حيث تتحول الكاميرا –سواء تلك التي توثّق الواقع أو التي تصنعه– إلى آلة لإعادة إنتاج الطاعة وتزييف الواقع، وهنا يستعيد بيك الجوهر الأعمق لكتابات أورويل: أن الكارثة ليست في وجود الشر، بل في قابليتنا نحن لتصديقه، في استعداد الجماهير للتخلّي طوعًا عن قدرتها على التفكير النقدي، وعبر كل ذلك يقدّم الفيلم أورويل كمنجّم سياسي لكل ما نعيشه حاليا.

ويبلغ الفيلم ذروته حين يضع المتفرج وجهًا لوجه مع لحظة الانهيار الأخلاقي التي باتت سمة السياسة الدولية. فالمسألة هنا ليست في سرد مشاهد القتل والقمع، بل في كشف البنية الخطابية التي تتيح استمرارها: كيف تتحول كلمات مثل “الأمن” و”الاستقرار” و”الردع” إلى أقنعة تبرّر المجازر؟ وهنا يعود المخرج مرة أخرى لعرض مشاهد للإبادة التي تقع في قطاع غزة.

وما يميّز معالجة بيك السينمائية ليس فقط توظيفه للماضي والحاضر، بل قدرته على جعل المتلقي يُدرك أن هذا التشابه بين الأزمنة ليس صدفة، بل نتيجة منطقية لمنظومة عالمية تُعيد إنتاج الفاشية بأدوات جديدة كل يوم، حين تتجاور صور القصف في غزة مع لقطات من الحرب الإسبانية أو معسكرات الاعتقال في الضفة وبورما، يصبح السؤال المطروح أكثر إرباكًا: هل تغيّر العالم حقًا، أم أننا ندور في حلقة مغلقة من القمع المبرّر؟.

في النهاية، يقدّم “Orwell 2+2=5” تجربة تتجاوز حدود الفيلم التسجيلي التقليدي، فهو ليس سيرة لكاتب، بل محاولة لانتزاع المتلقي من منطقة الراحة، ودفعه لتفكيك اللغة التي يُخاطَب بها يوميًا: لغة الأخبار، السياسة، الحملات الانتخابية، البيانات العسكرية.

بهذا المعنى يصبح الفيلم مرآة مُظلمة لواقع عالمي تزداد فيه المسافة بين الحقيقة وصورتها، وبين الإنسان والقوى التي تتحكم في وعيه. ووسط هذا الظلام، لا يقدّم بيك خلاصًا جاهزًا، بل يدعو المشاهد إلى ممارسة الشك؛ إلى التمسك بأن “2+2=4” حتى لو اجتمع العالم كله لكي يقنعه بالعكس.