طوفان غزة ..مصطفى إبراهيم – سما الإخبارية

يحدّثني صديقي النازح من رفح في مواصي خان يونس: “كنتُ أحاول رفع طرف الخيمة كي أسمح للماء بالخروج بدل أن يتجمّع داخلها، لكن الخيمة كانت أضعف من أن تصمد. الفراش غرق، والبطانيات التصقت بالطين، والأطفال استيقظوا مذعورين ومبللين، ورعبُ الماء في عيونهم كان أكبر من رعب الطائرات. حينها قلت: أين أنقلهم؟ من خيمة إلى خيمة؟ الحرب لم تنتهِ وما نزل ستارها، وفي ناس بعدها بتعلن انتصار! كنتُ أتحدّث باسم آلاف الآباء، لا باسم أسرتي وحدها. هذه شهادة شخصية، لكنها اليوم رواية جماعية”.
مع دخول حرب الإبادة عامها الثالث، تحوّلت غزة إلى منطقة منكوبة بالكامل. لم تعد هناك بنية تحتية، ولا كهرباء، ولا مياه صالحة، ولا طرق، ولا صرف صحي. الحرب لم تدمّر الحجر فقط، بل دمّرت شروط الحياة نفسها. ملايين الفلسطينيين اضطروا للنزوح، بعضهم للمرة الثانية أو الثالثة. والخيام التي كانت رمزًا للجوء المؤقت صارت اليوم مأوى دائمًا، لكنها خيام بلا أرضية ولا جدران ولا سقف يحمي من المطر أو الريح أو الوحول. آلاف الأطفال ينامون على أرض مبتلّة، والنساء يجاهدن للحفاظ على ما تبقّى من خصوصيتهن، والرجال يعجزون عن حماية أسرهم، ليس لأنهم لا يريدون، بل لأن ما يملكونه لم يعد يساوي شيئًا أمام حجم الكارثة. انهيار البنية التحتية، وغياب شبكات الصرف، وتشديد الحصار، وتجميد إعادة الإعمار، كلها عوامل تواصل تحويل مخيمات النزوح إلى مشاهد متكررة للفقد والمهانة.
ومع وصول المنخفض الجوي بايرون، تحوّل كل شيء إلى مرحلة أكثر قسوة. الأمطار الغزيرة حوّلت الأرض إلى بحر من الطين، والطرقات إلى برك آسنة، والخيام إلى أوعية تجمع الماء بدل صدّه. الرياح عصفت بالخيام كما لو أنها قذائف صامتة. عشرات الخيام انهارت خلال ساعات الليل، والمئات غرقت بالكامل. هذه ليست مجرد أرقام أو وصف تقني للحالة الجوية، بل كانت ليلةً درسًا في معنى أن تكون أبًا عاجزًا أمام العاصفة. حين اشتد المطر، كنتُ أتنقّل داخل الخيمة محاولًا حماية الأطفال من تسرب الماء. أرفع فرشة هنا، وأغطي فجوة هناك، وأبحث عن أي قطعة قماش إضافية قد تمنع الريح من الدخول. شعرت أنني أتعامل مع كابوس حي. أكثر ما يؤلم هو أن الأب لم يعد قادرًا على أداء أبسط وظيفة: توفير سقف لا يسقط فوق رؤوس أسرته.
وبينما كان المطر يحوّل الأرض المحيطة بالمخيم إلى طين لزج تغرق فيه الأقدام، راودتني فكرة واحدة: كيف يمكن للعالم أن يناقش ممرات آمنة وخطط ما بعد الحرب، فيما خيمة واحدة غير آمنة لا يستطيع أحد تحمّل مسؤوليتها؟ وهل يحتاج المجتمع الدولي إلى مشهد أطفال يغرقون داخل خيمتهم ليصدّق أن الحصار ليس مجرد إجراء أمني، بل سياسة ممنهجة لتجويع الفلسطينيين وتجريدهم من أبسط أدوات البقاء؟
تقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من ثلثي النازحين يعيشون في خيام بلا أرضيات عازلة، وبلا شبكات تصريف، وبلا حماية من السيول. جزء آخر يعيش فوق ركام منازلهم، لأن الركام بالنسبة لهم أفضل حالًا من الخيمة. ومع استمرار القيود الإسرائيلية التي تمنع دخول الخيام المناسبة ومواد الإيواء والبطانيات، تتحوّل موجة المطر الواحدة إلى كارثة إنسانية كاملة، وتهديد مباشر للحياة، ليس فقط بسبب الغرق، بل بسبب الأمراض التي تنتشر في المياه الراكدة والطين والصرف المكشوف.
ما يحدث اليوم ليس مجرد محنة نازحين، بل نتيجة مباشرة لسياسة ممنهجة: تدمير البيوت، ثم منع إعادة بنائها؛ تهجير السكان، ثم منع إدخال ما يحميهم من صقيع الشتاء؛ خلق أزمة، ثم إدارة النقاش العالمي حول كيفية إدارة هذه الأزمة. هناك من يريد لهذه الخيام أن تبقى لأنها تبرر استمرار الحرب، وهناك من يفضّل أن يرى الفلسطيني مجرد رقم بلا اسم، ولا بيت، ولا ذاكرة، لكي يصبح الحديث عنه أسهل من الحديث معه.
ومع ذلك، فإن الخيام التي تهتز اليوم تحت المطر تحمل داخلها قصصًا لن يستطيع الطقس ولا الحرب محوها.
هناك أب يحاول أن يخفي خوفه كي لا ينتقل إلى أطفاله، وأم تكابد الليل لتجفف الماء عن أغطية صارت أثمن من الذهب، وأطفال يستيقظون من البرد لكنهم لا يبكون، لأن البكاء في الخيمة رفاهية لا تغيّر شيئًا. وبينما يحاول الجميع النجاة من المنخفض، يظل السؤال الأكبر معلّقًا فوق رؤوسنا: إلى متى سيبقى الفلسطينيون يعيشون في خيمة؟ وإلى متى سيبقى العالم يكتفي بمشاهدة الخيمة وهي تشتعل أو تنهار أو تغرق؟ ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه مرات بشكل مأساوي مع الفلسطينيين منذ النكبة، وخيام اللاجئين وشروط حياتهم لم تتغير.
هذه اللحظة تتطلّب أكثر من تضامن وأقل من بيانات سياسية. تتطلّب فتح ممرات آمنة فورًا، وإدخال مواد الإيواء من دون شروط، ووقف الحصار الذي حوّل الطقس إلى تهديد وجودي. الأخطار التي تلوح خلال الساعات والأيام المقبلة ليست قضاء وقدرًا، بل نتيجة مباشرة لحرب مستمرة وسياسات متعمدة.
وحتى ذلك الحين، سيبقى النازح الفلسطيني يعيش بين مطر يضاعف ألمه، وحرب لا تريد أن تنتهي، وعالم يفضّل أن يتحدث عنه بدلًا من أن ينقذه. أما نحن، فسنبقى نحمل الخيمة بيد، وأطفالنا باليد الأخرى، ونحاول أن نقنع أنفسنا بأن هذه العاصفة ستمر، حتى لو كنا ندرك في أعماقنا أن ما لن يمر هو الإبادة التي جعلت الخيمة قدرنا القسري للسنة الثالثة على التوالي.
