فنون

فيلم الست: دراما تفكك رحلة أم كلثوم من سطوة الرجال إلى امتلاك الذات


الشيماء أحمد فاروق


نشر في:
الإثنين 8 ديسمبر 2025 – 11:52 م
| آخر تحديث:
الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 – 12:21 ص

تنبيه حرق الأحداث: بعض التفاصيل هنا تكشف عن بناء ومضمون الفيلم

 

يُعد تقديم عمل فني ينتمي إلى السيرة الغيرية أمرا شائكا بالنسبة للجمهور، ويزيد الأمر صعوبة كلما كانت مكانة الفنان الذي يقدم عنه العمل كبيرة لدى الناس، لذلك كان الجدل الواسع يرافق كل تجربة تقدم عن سيرة أم كلثوم، سواء على صفحات الصحف قديما، أو منصات التواصل الاجتماعي حاليا بعد الإعلان عن عرض فيلم الست، بطولة منى زكي التي تجسد شخصية كوكب الشرق ومجموعة ضخمة من الممثلين، من بينهم: سيد رجب، محمد فراج، كريم عبد العزيز، أحمد خالد صالح، تامر نبيل.

يطرح فيلم الست، تأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، رؤية غير معتادة لحياة أم كلثوم، التي نسجت حولها هالة من الرمزية والشموخ كجزء من شخصيتها الفنية القوية على مدار حياتها، والمستمرة حتى بعد وفاتها، ويعتبر هذه الرؤية جزء من جرأة الفيلم ككل، الذي يحاول الابتعاد عن صورة الكمال والاقتراب أكثر من إنسانية المطربة التي سحرت ملايين الجماهير في كل أنحاء العالم العربي.

يركز العمل في بنائه الدرامي على خط واضح وهو فتاة ريفية تخرج من شرنقة التسلط الأبوي إلى فضاء واسع من امتلاك الذات والتحكم في كل ما يدور حولها، ولكن في هذه الرحلة تتخذ قرارات يكون لها تبعات سلبية على حياتها الخاصة، وبين القرارات والنتائج تحدث الحيرة، وتتكون المخاوف وتتراكم مشاعر الوحدة.

الخروج من شرنقة التسلط

يبدأ السرد في الفيلم من حفل باريس، حيث العالم ينتظر كوكب الشرق، ثم نعود إلى الماضي، ونرى الطفلة ذات الخمس سنوات تغني في أفراح وسط ظروف قاسية بأمر من والدها، ثم تنتقل إلى القاهرة بقرار من والدها أيضا الذي يسعى للحصول على 10 جنيهات في الليلة بدلا من 40 قرشا، وعندما تحاول الغناء تتعرض للإهانة من رجل في المسرح يسخر من هيئتها، ثم الضرب من والدها.

في هذه المرحلة يسخر مروان حامد كافة العناصر الفنية لبناء هذه الصورة، بداية من ملابس الرجل التي تُجبر عليها فتاة في مقتبل العمر، ثم طبقة الصوت الغليظة في الكلام، نتيجة للحالة التي تعيشها من ضغط حتى لا تتعرض لمضايقات لأنها فتاة، الكادرات القريبة من العيون أغلب الوقت للتركيز على الخوف والقلق مما يدور حولها، وكادرات أخرى تجعل الأب في زاوية تبدو أعلى منها.

وبالتدريج مع تلاشي هذه الحالة ومحاولة الفتاة امتلاك زمام الأمور، تصبح نبرة الصوت مختلفة، والنظرات أكثر تركيزا، والخطوات في المشي أكثر ثباتا، وتُغير هيئة ملابسها وتعود إلى الأصل أنها فتاة، ويتوارى الأب كأنه شبح يوتر الأجواء بظهوره، وظهر ذلك في مشهدين، الأول أثناء محاولته العزف بالدف وسط لحن أغنيتها الجديدة من القصبجي، ومرة أخرى عندما يحضر تسجيل إحدى أغنياتها، مما يسبب لها ارتباكا، وتطلب من رامي الجلوس أمامها حتى تستطيع الغناء.

يستمر التسلط الذكوري الذي تواجهه أم كلثوم بوجه آخر بعد انتهاء مرحلة والدها، وهي مرحلة المنافسة مع الرجال في وسط يسيطر عليه الرجال، ويبرز الفيلم هذا من خلال معركة الانتخابات التي خاضتها أم كلثوم أمام محمد عبد الوهاب، على مقعد نقيب الموسيقيين، وهنا يظهر دور المخرج مرة أخرى الذي يوظف الأرشيف الصحفي في إبراز العناوين الصحفية التي كانت تستنكر أن تصبح المسؤولة عن النقابة امرأة، ثم تٌعاد هذه العناوين بشكل مختلف على لسان أحد العازفين، وفي هذه النقطة يتكاتف السرد البصري والحواري لتأكيد معنى المعركة التي تخوضها.

تركز سردية الفيلم أيضا على الطبقية التي تعرضت لها أم كلثوم سواء في بدايتها الفنية، في القاهرة، أو في أوج نجاحها عندما وقعت في حب شريف صبري خال الملك فاروق، هذه السردية تعكس زاوية أخرى من التسلط تعرضت لها الفتاة ذات الصوت الساحر، وحاول الفيلم منح مساحة جيدة من السرد لهذه الإشكالية التي كادت تطيح بقوة كوكب الشرق في لحظة إنكسار على خشبة المسرح أمام الملكة نازلي، وانعكست هذه الحالة الشعورية على لقطات الكاميرا، التي خلقت مقارنة واضحة بين تعبيرات عين كلا منهما.

الوحدة شبح يأكل روح الست

يتعمد الفيلم الغوص في الرحلة النفسية لسيدة قررت اختيار الوحدة، ونرى على مدار الأحداث كيف تتسع دائرة الوحدة وتأكل كل شيء جميل، ليس بوصفها قدراً لا مهرب منه، بل كنتيجة حتمية لسلسلة طويلة من القرارات الصعبة، هنا يتجاوز الفيلم القراءة التقليدية لحياة أم كلثوم التي غالبًا ما تقدمها كإيقونة منيعة لا تعرف الانكسار، ليمنح مساحة نادرة لرصد الهشاشة الكامنة خلف القوة، هشاشة امرأة، لم تعد الست مجرد كوكب يدور حوله الجمهور، بل امرأة تتآكل بفعل أسئلة الذات، وتطاردها فراغات العاطفة رغم ازدحام الجموع من حولها.

في هذا المسار، يقدّم مروان حامد أكثر لحظاته نضجًا في التجسيد السينمائي للشعور النفسي؛ إذ تُبنى الوحدة بصريًا على هيئة فراغات محسوبة في الكادر، لقطات واسعة تحتضن جسدًا صغيرًا يتحرك بثقة أمام الجمهور، لكنه يعود إلى غرفته منهكًا، محاطًا بالصمت، ظلال الأثاث تطول، والضوء يخفت، وكأن البيت ـ مهما اتسع ـ يصبح زنزانة لا تسمع سوى صدى صوتها، وتظهر الوحدة أيضًا في المونتاج الذي يقطع بين لحظات مجد خارجي ولحظات انكماش داخلي، في تتابع يوحي بأن النجاح، في نظر الفيلم، ليس إلا وجهًا آخر لخسارة ضخمة، تتجسد في كل شخص ابتعد أو كل حب انكسر قبل أن يبدأ فعلًا، تنشأ من ذلك ثناية مبنية على التناقض تنعكس بصريا في كثير من التفاصيل، من بينها: شعر أبيض هايش في مقابل تسريحة منضبطة، ملابس سيدة مسنة في مقابل فساتين أنيقة، نظارة باهتة مقابل نظارة سوداء أنيقة.

ورغم أن الفيلم لا يغوص في التفاصيل التاريخية بدقة وثائقية -وليس مطالبا أن يفعل ذلك- إلا أنه يستثمر العلاقات العاطفية في حياتها، وخاصة علاقتها بشريف صبري، لتشريح اللحظة التي اكتشفت فيها أم كلثوم أن صوتها وحده يمكنه أن يملأ الدنيا، لكنه عاجز عن ملء فراغ القلب.

ومع مرور الأحداث، يصبح الجمهور ذاته — ذلك البحر الممتد الذي طالما كان مصدر قوتها — جزءًا من معركتها النفسية، وجزءا من حصار الوحدة، فكلما ارتفعت الهتافات تعاظمت مسؤولية الحفاظ على الصورة، وكلما زادت الأسطورة التي تُنسج حولها تضاعفت مخاوف الانكسار، يقدم الفيلم هنا رؤية نقدية لثقل النجومية: كيف يصبح التصفيق قيدًا، وكيف تتحول الهالة المحيطة بالشخصية إلى جدار يعزلها حتى عن أقرب أصدقائها، فبين رامي الذي تحتمي بمسالمته، والقصبجي الذي يخترق جمودها بموسيقاه، وغيرهم يقف الجميع على مسافة واحدة تقريبًا من عالمها الداخلي الذي ترفض أن تسمح لهم بدخوله تمامًا، وهنا تظهر جودة السيناريو الذي يختار لحظة خطبتها من محمود الشريف لكي يوضح مدى ثقل النجومية.

ولعل أكثر ما يميز الفيلم على مستوى السرد هو أنه لا يتعامل مع الوحدة كقدر درامي مفروض على البطلة، بل كاختيار مركب، يحمل في داخله بقايا خوف وتطلعات قوة في آن واحد، فاختيارها الابتعاد عن الزواج، أو إحاطة نفسها بدائرة ضيقة من العلاقات، ليس مجرد هروب من المجتمع، بل محاولة يائسة للسيطرة على ما يمكن السيطرة عليه وسط عالم لا يمنح المرأة حرية تقرير مصيرها بسهولة، وهنا يتجلى سؤال الفيلم الأكبر: ما الثمن النفسي الذي تدفعه امرأة تريد أن تكون سيدة نفسها ؟

ثنائيات البداية والنهاية

يخلق المخرج مروان حامد مجموعة أخرى من الثنائيات البصرية، بالتوازي مع ما ذُكر، وهي التي تتراوح بين الجمهور القليل الرافض للفلاحة والجمهور الضخم في باريس، الجمهور الأرستقراطي المتوجس من حضورها وسطهم والجمهور الكثيف من طبقات اجتماعية مختلفة في الحفلات، لذلك في أثناء هذه الثنائيات تكون الكاميرا في وضع الكادرات الواسعة، لبيان الاختلاف الواضح الذي حدث خلال مسيرة الست.

والمونتاج هنا يلعب دور آخر في تأكيد الثنائيات، حيث يُستخدم القطع غير المتماثل ليعكس تفكك العالم الداخلي لأم كلثوم: ننتقل من تصفيق الجمهور إلى غرفة فارغة، ومن نجاح ساحق إلى لقطة صامتة تبكي فيها الست وحدها.

تبدو القدرة البصرية للإخراج هي العمود الفقري للعمل، العنصر الذي يحمِل النصّ ويُعيد إنتاجه في شكل عالم محسوس، نابض بالتوتر والعاطفة والرمزية. مروان حامد لا يكتفي بوضع الكاميرا في مكان مناسب، بل يعامل الصورة كأداة تحليل نفسي، وكمساحة لفهم التحولات الدقيقة في شخصية أم كلثوم وعلاقتها بالجمهور، وجزء من هذه الصورة الاهتمام البالغ بتفاصيل الأزياء والديكور ونظرات المجاميع.

“الست”.. ليس فيلمًا عن أم كلثوم بوصفها هرما رابعا، أو عملا يسعى لتكريس أسطورتها أو تفكيكها من زاوية الصدمة أو الجرأة. إنه محاولة لتقديم الإنسانة التي طالما تعامل معها الجمهور كظاهرة استثنائية أكبر من زمنها.

وبقدر ما يثير الفيلم جدل “كيف يجب أن تُروى السيرة؟”، فإنه يكشف للجمهور أن أعظم الشخصيات ليست صورة مكتملة. إنها مزيج معقد من الضعف والقوة، من الصوت الصادح والروح المنكسرة، ومن هذا التعقيد تحديدًا، يستمد الفيلم قيمته الفنية وجرأته.