بعد توسّع الاحتجاجات في تركيا… هل ارتكب إردوغان أكبر خطأ في مسيرته السياسية؟

أشعل اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو ناراً كانت كامنة تحت الرماد، وتسبّب في غليان سياسي شجّع على اتّساع الاحتجاجات من إسطنبول إلى أنقرة وإزمير، وتوالياً إلى العديد من الولايات التركية شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.
وبعدما كان العنوان الأول للاحتجاجات هو الاعتقال «المتوقع» لإمام أوغلو بعد سلسلة ملاحقات قضائية وتحقيقات بدأت عقب فوزه برئاسة بلدية إسطنبول للمرة الأولى في عام 2019، منهياً عقوداً من سيطرة الأحزاب ذات الجذور الإسلامية، أصبحت هتافات المحتجين تدور حول «الحقوق والقانون والعدالة».
وانتشرت الاحتجاجات التي بدأت من ساراتشهانه، الميدان الذي يتوسط إسطنبول التاريخية ويقع به مبنى بلديتها، وجامعة إسطنبول إلى مدن وجامعات وشوارع مختلفة.
منحى جديد للاحتجاجات
لفت العديد من المشاركين في الاحتجاجات، الذين جاءوا من أجيال متعددة مع ظهور واضح للشباب الذي وُلد وكبر في ظل حكم العدالة والتنمية، إلى أن العدالة باتت المطلب الأساسي.
وحاول الكثيرون من الطلاب إلى العمال إيصال رسائلهم حول الوضع الاقتصادي ومستوى المعيشة المتردي وغياب الخدمات الطلابية والمطاعم الرخيصة التي نجح إمام أوغلو في تقديمها لهم، منتزعاً دوراً اجتماعياً عُرف به الإسلاميون تقليدياً.
وأخذت هذه الرسائل الاحتجاجات بعيداً عن السردية التقليدية في تركيا عن الصراع بين العلمانيين والإسلاميين، لأن مَن ظهروا في الاحتجاجات جاءوا من خلفيات مختلفة، وفئات كانت معروفة بتأييدها السابق لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بل إنهم حرصوا على إظهار وجودهم وإصرارهم على المضي قدماً حتى رحيل إردوغان وحكومته.
يرى سياسيون ومحللون أن تحرّك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ضدّ إمام أوغلو، وهو أحد أبرز منافسيه على الرئاسة، يمكن أن يكون أكبر خطأ يرتكبه إردوغان على مدى مسيرة حكم استمرت لما يقرب من ربع قرن، وأن نظامه القوي ربما لا يصمد أمام طوفان الغضب الذي فجّره اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، وأنه ربما يكون «دبّر انقلاباً ضد نفسه».
ويذهب البعض إلى أن إردوغان ربما يفتح طريق إمام أوغلو لرئاسة البلاد، عبر تكرار نموذج «المظلومية» الذي صعد به هو نفسه إلى الحكم بعد اعتقاله أثناء رئاسته بلدية إسطنبول في تسعينات القرن الماضي، بسبب بعض أبيات شعر اعتُبرت مناهضة لمبادئ الجمهورية العلمانية.
تحذيرات من رفاق الأمس
وفي مقابل استنفار حكومة إردوغان، وحليفه رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهشلي، وتلويحهما بفرض وصاية على حزب الشعب الجمهوري وبلدية إسطنبول، ومحاولتهما دمغ إمام أوغلو بتهم الفساد والإرهاب حتى قبل مثوله أمام المحكمة، صدرت تحذيرات من شخصيات وازنة لها تاريخ في مثل هذه الصراعات، وكانوا من مؤسسي حزب العدالة والتنمية وحملوا على أكتافهم عبء تجربته الوليدة التي واجهت حملات مماثلة لما يتعرض له إمام أوغلو اليوم.
وذكّر الرئيس السابق عبد الله غل، أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية الذي واجه ترشيحه للرئاسة في عام 2007 احتجاجات غاضبة من العلمانيين ونخبة الجيش، إردوغان وحكومته بالمتاعب التي واجهها الحزب في الماضي. وقال غل، في بيان نقله الكاتب في صحيفة «قرار» محمد أوجاكتان: «دعونا نتذكر كيف لم يتقبل الضمير العام الظلم الذي لحق بالرئيس رجب طيب إردوغان وبشخصي. لا ينبغي أن تُرتكب أخطاء مماثلة بحق أكرم إمام أوغلو، الذي انتُخب رئيساً للبلدية بإرادة الشعب، لا ينبغي أن نفقد سيادة القانون والعدالة، وإلا ستخسر تركيا».
وأضاف أنه تابع بقلق العملية التي بدأت باعتقال رئيس بلدية إسطنبول وآخرين معه في الأيام الأخيرة، ورأى أنه «من المحزن حقاً أن نصل إلى هذه العملية، التي حظيت بتغطية واسعة، داخل تركيا وفي الصحافة الأجنبية، بينما كانت البلاد تتقدم بخطوات ناجحة على الصعيد الداخلي وفي السياسة الخارجية وفي علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي».
وشدد غل على أنه «لا ينبغي إغفال القانون والعدالة، وإلا فإن تركيا سوف تخسر وستصبح مشاكل اليوم عبئاً في الغد»، لافتاً إلى أنه «لا فائدة من تصعيد التوتر بين الحكومة والمعارضة، واتّباع سياسة تهيمن عليها لغة الصراع».
ولفت وزير التعليم الأسبق وأحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، حسين تشيليك، إلى أنه «لا ينبغي أن ننسى أن حزب العدالة والتنمية وصل إلى السلطة عبر مسارات مماثلة». وقال إن «إلغاء الشهادة الجامعية لرئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو واحتجازه مع العديد من زملائه، لاحقاً، لم يكونا صحيحين، وإن حرمان الشعب من حق الاحتجاج فتح جروحاً لا تلتئم في ديمقراطيتنا وسيادة القانون الهشة أصلاً، وإن اتّخاذ تدابير وقرارات استثنائية دون إعلان حالة الطوارئ هو في الواقع تطبيق للأحكام العرفية»، مضيفاً: «لا يُمكنك العبث بإرادة الشعب».
وعدّ تشيليك أن الممارسات السابقة بحق إردوغان كانت «خطأ»، وأن «ما يتم فعله حيال إمام أوغلو وحزب الشعب الجمهوري اليوم خطأ أيضاً»، داعياً الحكومة إلى «حماية حقوق معارضيها السياسيين، حتى يتم احترامها في نظر الشعب والعالم أجمع». ونبّه إلى أن هذه الأحداث تسبّبت في أضرار كبيرة لاقتصاد تركيا، الهشّ أصلاً، قائلاً إن ما يحدث للمواطنين ذوي الدخل المنخفض الذين بالكاد يستطيعون تلبية احتياجاتهم «أمر مخزٍ، بل خطيئة».
وتوجّه نائب حزب العدالة والتنمية السابق في إزمير، حسين كوجابيك، بسؤال إلى الرئيس إردوغان، قائلاً: «رجب طيب إردوغان، هل هذا هو أصلك؟ هل حاربنا من أجل هذا؟ هل جررنا أنفسنا إلى المحاكم لسنوات بسببه؟ في الواقع، دبرت انقلاباً ضد نفسك وأنت لا تدري!». ونتيجة هذا الانتقاد، أُحيل كوجابيك إلى لجنة التأديب بالحزب، السبت، مع طلب فصله.
استعراض للقوة
وعلى الجانب الآخر من النقاش، برزت أصوات انتقدت خطوة حزب الشعب الجمهوري بإعلان ترشيح إمام أوغلو للرئاسة مبكّراً، وإجراء انتخابات تمهيدية داخل الحزب لهذا الغرض. كما انتقدت امتناع رئيس بلدية أنقرة، منصور ياواش، عن الترشح في الانتخابات التمهيدية، معتبرة أن إعلان المرشح مبكّراً سيؤدي إلى استنزافه، وتعرضه للملاحقة لمنعه من منافسة إردوغان، الذي يبحث عن مخرج يضمن له الترشح بعد استنفاد حقّه في ذلك.
ورأى الكاتب مراد يتكين أنه ينبغي قراءة الاعتقال الجماعي لإمام أوغلو وزملائه في عملية 19 مارس (آذار) على أنه ليس استعراضاً سياسياً فحسب، بل هو استعراض قانوني للقوة. «فعندما يتعلق الأمر بسياسة القوة، يدخل قانون الأقوياء إلى حيز التنفيذ، ويريد الأقوياء إظهار قوة قانونهم الخاص».
ولفت يتكين إلى التناقض بين تجاهل الادعاء العام النظر في 100 شكوى فساد تقدم بها رئيس بلدية أنقرة منصور ياواش، ضد سلفه مليح جوكتشيك (من حزب العدالة والتنمية)، من جهة، وملاحقة إمام أوغلو من جهة أخرى، معتبراً ذلك «ضرباً من ضروب قانون الأقوياء». كما رأى أن توقيت عملية اعتقال إمام أوغلو وزملائه، في الصباح الباكر بينما الناس يستعدون للتوجه إلى أعمالهم، بتهمتي الفساد ومساعدة حزب العمال الكردستاني (المصنّف إرهابياً)، هو بدوره استعراض سياسي للقانون من جانب الأقوياء، استهدف خلق تصور عام بأن رئيس البلدية وفريقه مذنبون.
أما عن تهديد فرض الوصاية على بلدية إسطنبول فأوضح يتكين أن الاتهام بالفساد وحده لا يعطي المبرر القانوني للحكومة لتعيين وصي على البلدية، ففي هذه الحالة يتم إسناد رئاسة البلدية إلى أحد أعضاء مجلسها الذي يشكل حزب الشعب الجمهوري أغلبيته، إلا أن الاتهام بالإرهاب يكفل بالفعل تعيين وصي.
مخاوف الأكراد
لم تقتصر تداعيات التطورات الأخيرة على حزب الشعب الجمهوري المعارض، وشعبية حكومة إردوغان، بل تجاوزتها إلى قضية أكراد تركيا، ولا سيّما بعد التقارب الأخير بين حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» والحكومة، الذي أفضى إلى دعوة الزعيم الكردي السجين أوجلان لحلّ حزب «العمال الكردستاني».
وتكتسي أصوات حزب «الديمقراطية والمساواة للشعوب» في البرلمان أهمية خاصة بالنسبة لإردوغان، الذي يسعى لتعديل الدستور.
إلا أن اعتقال إمام أوغلو وما أثاره من مخاوف بشأن الديمقراطية والحقوق والعدالة واستقلال القضاء، فجّر مخاوف من احتمال تقويض التحرك من جانب حكومة إردوغان لإنهاء مشكلة حزب العمال الكردستاني المزمنة. إذ يعتمد هذا التحرك بالأساس على التعاون الناشئ بين الحكومة و«الديمقراطية والمساواة للشعوب»، الذي رفض صراحة اعتقال إمام أوغلو وتضامن صراحة مع حزب «الشعب الجمهوري».
ويراود الأكراد قلق كبير من أن اعتقال إمام أوغلو، المنافس الرئيسي لإردوغان، قد يشير إلى تحول يغلق المجال أمام مصالحة تاريخية، ويفشل عملية انتقال حزب «العمال الكردستاني» من وضع حرب إلى السلام، ويهدد مستقبل الديمقراطية في تركيا.
وفي هذا الصدد، اتّهم إردوغان وحليفه بهشلي المعارضة بمحاولة إحداث فوضى من أجل تخريب مبادرة حل «مشكلة الإرهاب المستمرة لأكثر من 40 عاماً».