اخر الاخبار

تأملات في أقوال الشيخ زايد (رحمه الله) للمفكر العربي الكبير علي الشرفاء الحمادي

للكلمة دور جوهري في التأثير والإقناع، وتزداد أهمية الكلمة إن كانت صادرة من “حكيم العرب” و”باني نهضة ووطن”، وهبه الله حكمة بالغة، فحينئذ يكون للكلمة سلطة تتعدى سلطة الحُكم في التأثير على الأمة، وفي سرعة الإقناع، وهذا ما رأيناه في موسوعة أقوال الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، تلك الموسوعة التي صدرت عن مؤسسة رسالة السلام العالمية، جاءت الموسوعة في تسعة أبواب وثق فيها المفكر العربي الكبير الأستاذ/ علي محمد الشرفاء الحمادي فكر الشيخ زايد، وصوَّر ملامح عبقريته القيادية، ونقل تطلعاته الطموحة؛ التي عملت على ترسيخ حرية الفكر وطلاقة التعبير، وانتهاج سياسة الوضوح والشفافية
والمصارحة في نقل الأفكار والرؤى إلى الشعب الإماراتي والعربي في صورة أخلاقية تتوارثها الأجيال، ويقتفي أثره فيها كل من يسير على دربه ويخلفه من أجل الاستمرار في عملية النهوض والارتقاء بالوطن والمواطن.
وقد استطاع الشيخ زايد- رحمه الله- بتمكنه من زمام اللغة وأخذه بأسباب الفصاحة، وقدرته على البيان والإيضاح في أسلوب عفوي بليغ يبعد عن التكلف وتزيين الألفاظ، ويعمد إلى الإيضاح، ويعرض الحقائق كما هي، في عبارة واضحة جلية، ولفظ سهل، ومعنى دقيق يلائم السياق ويتفق مع المقام، بأفكار مترابطة، وأهداف محددة واضحة- أقول استطاع أن يتربع على عرش الحِكمة، وأن يأسر قلوب المخاطبين بالقول كما غمرهم بالفعل.
وتأتي هذه الدراسة من جانبي كأحد أعضاء مؤسسة رسالة السلام، كمحاولة للوقوف على أهم الملامح التي تميزت بها أقوال الشيخ زايد ضمن سلسلة القيادة، تلك الأقوال التي تعانق فيها الخطاب السياسي مع الخطاب الاجتماعي والإعلامي والسياسي، فجاءت إيقاعاتها نابضة بالحياة، يحفظها المتلقي بمجرد أن تقع على مسامعه؛ نظرًا لسهولة ألفاظها ووضوحها مع دقتها في التعبير عن المعاني، في وجوه بلاغية متعددة، لها أثرها القوي في جذب الأسماع والأفئدة، وفيما يأتي تفصيل لما جاء في تلك الموسوعة مرتبًا حسب ترتيب الأبواب فيها.

الجزء الأول: (القيادة)
جاء هذا الجزء في ثلاثة فصول، تناول الفصل الأول: الحديث عن خصائص القيادة التاريخية، وعلاقة القائد بشعبه وأمته، ورؤية القائد لمستقبل وطنه ومواطنيه.

بينما اختص الفصل الثاني بالأقوال التي تبرز مسؤولية الرئاسة من تقوى الله والأمانة والنزاهة .
أما الفصل الثالث فتناول الحديث عن مرحلة فترة الرئاسة الثانية.
ولعل أول ما يلفت النظر في هذا الجزء هو حضور البعد الإنساني في الألفاظ المستعملة بصورة بارزة، حيث إن أول شيء تقع عليه عينيك في هذا الجزء هو الألفاظ الدالة المعبرة عن مدى التعلق بمعية الله التي ليس لأحد أن يتخلى عنها، أو ينحيها جانباً؛ إذ إنها مفتاح إصلاح الشعوب وترويض الأمم، وتسيير أمورها بحول الله وقوته. يقول الشيخ زايد –رحمه الله-:
(فلسفتي في الحياة هي أني مؤمن بأن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى، … فإذا وفقتُ في السعي حمدتُ الله على توفيقه، وإذا أخطأت في الاجتهاد رجعتُ عن الخطأ إلى الصواب).
فهذه العبارة تبرز الوازع الديني والفلسفة الدينية وحسن التعلق بالله، والإقرار والتسليم بتدابيره سبحانه عند الشيخ -رحمه الله-.
فقد عبر الشيخ زايد عن فلسفته في الحياة في هذا المثال باستخدام الإضافة إلى ياء المتكلم أولا، وغير خافٍ على أحد ما في معنى الإضافة من الإلصاق، وكأني بالشيخ ـ رحمه الله ـ يريد أن يقول إن هذه الفلسفة متصلة بي ملتصقة غير منفصلة، وفي هذا دلالة نفسية لها أثرها في إيصال تلك الرؤية وهذه القناعة للمخاطبين.
وكذلك قول الشيخ –رحمه الله-: (إن كل شيء بهذه الحياة هو بإرادة الله سبحانه وتعالى.. يسيرها ويدبرها، وعلى العبد أن يسعى لرضا ربه، وأن يفعل ويتوكل، وعلى الله التوفيق.. ومتى كان إيمان الإنسان بربه قويًا فإن الله يهبه راحة الضمير، وتلك هي السعادة القصوى).
فهو في هذه العبارة يبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، مع الاجتهاد في ضوء هذا النهج.
كذلك من السمات البارزة في هذا الجزء من الموسوعة حرص الشيخ على تعديد مظاهر القائد وصفاته التي يجب أن يتصف بها، والتي من أهمها التواضع، والتسامح وطاعة الله –عز وجل- ومعاملة الرعية معاملة الأب لابنه، يظهر ذلك جليًا في قول الشيخ -رحمه الله-:
(إن الله إذا رضي عن أمة بعث إليها قائدًا يرضى عنه، وإذا رضي الله عن القائد بعثه إلى أمة يرضى عنها، وهداه إلى أن يقود أمته إلى سواء السبيل، الذي يرضاه).
وكذلك قوله : (إن الرجل المسئول يستطيع أن يستحوذ على حب أبنائه إذا شعروا أنه موضع ثقتهم وأنه يقف موقف الأب من أبنائه، يرعى شؤونهم ويهتم بمشاكلهم ولا يميز بينهم).
فهنا: نرى الشيخ زايد  يستعين في هذا الجزء بالتكرار اللغوي، الذي أسهم بدلوله اللغوي علي التأكيد على أنه كقائد إنما هو رب أسرة، واحدة تكون دولة الاتحاد، كما يؤكد على أن الحاكم لا بد ان يجتنب الغرور، ويبتعد عنه، وألا يفصل نفسه عن شعبه وأمته، يقول في ذلك:
(إن أي حاكم إذا ركبه الغرور وعزل نفسه عن شعبه فهذه لحظة النهاية بالنسبة له… الحاكم يجب أن يلتقي بأبناء شعبه باستمرار، يجب ألا تكون بينه وبينهم حواجز مهما تكن الظروف، والا كيف يعرف احتياجاتهم، ويحس بشعورهم، ويلبي بالتالي مطالبهم؟).
أما الفصل الثاني فنرى الأقوال في هذا الجزء تتجه نحو التأكيد على مصلحة الوطن واعتبار هذه المصلحة هي الأهم والأولى قبل أي شيء، في سبيل تعزيز الهوية الإماراتية وتحقيق التقدم والرفاهية للمجتمع الإماراتي مما  يعمل على أمنه واستقراره.
يتمثل ذلك في قول الشيخ –رحمه الله-:
(إن مصلحة الوطن العليا فوق كل اعتبار، ويجب أن تسبق بالأولوية والاهتمام والغاية أية مصلحة أخرى؛ وذلك مواصلة للمسيرة الاتحادية للدولة، وتحقيقا للمزيد من الإنجازات والخدمات في سبيل توطيد أركان دولة الاتحاد، وتحقيق رفاهية المجتمع وتقدمه).
فيلمح فى الأسلوب اللغوي المتبع في هذه الفقرة من قول الشيخ زايد  ظواهر التأكيد المتمثل في انتقاء دلالة الحرف “إن” المفيد للتأكيد ، كذلك  الفعل ” يجب ” الدال على وجوب الاهتمام بمصلحة الوطن وتقديمها فوق كل مصلحة أو اعتبارات أخري .  
ومما جاء في هذا الفصل أيضا: الحديث عن الصفات التي يجب توافرها في الشخص الذي يمكن الاعتماد عليه، من النزاهة والقدرة على مواجهة العمل ومراعاة الصالح العام وتحقيق العدالة، إذ إن انعدام هذه الصفات لا تمكنه من المجابهة؛ لضعفه.
يقول الشيخ –رحمه الله-:
(إذا توفرت في الشخص الخصال الطيبة كالنزاهة والقدرة على مواجهة العمل ومراعاة الصالح العام وتحقيق العدالة فهو إذن يمكن الاعتماد عليه والثقة به).
والمتتبع لسياق هذه العبارة المقامي والمقالي يجد أنها ناسبت سياقها أيما مناسبة، وعبرت عن أهدافها أدق تعبير، حيث إن سياقها المقامي هو ترأس الشيخ رحمه الله لأحد اجتماعات مجلس الوزراء عام 1977م، والمخاطبون هم الوزراء، فكأنه –رحمه الله- في حكمة بالغة، وبلاغة تامة، وحنكة فذة يوجه الوزراء لما يجب أن يكونوا عليه، بأسلوب أقرب ما يكون إلى المدح منه إلى التوجيه، وكأني به يقول إن بقاءكم هنا لأنكم تتصفون بتلك الصفات… وهذا من حكمته وجزالة أسلوبه وتحريه الدقة في التعبير وفصل الخطاب.
أما في الفصل الثالث من هذا الجزء فمثلت فيه الأقوال فى مرحلة فترة الرئاسة الثانية، وعرضت لما كان عليه حال البلاد من التبعثر والتخلف قبل إعلان الشيخ رحمه الله قيام دولة الاتحاد، وكيف جاهد الشيخ وواصل العمل في الليل والنهار من أجل إسعاد شعبه، وإخراجه مما كان فيه من الظلمات.
ثم نراه بعد التجديد يدعو أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد، بل والمواطنين جميعا إلى المشاركة ومد يد العون، فيلفت نظر الجميع إلى المسؤولية الملقاة عليه؛ لاستمرارية البناء والنهضة، وهذا يدل على تواضع الشيخ –رحمه الله- وتجرده وإنكار ذاته في سبيل الدعوة إلى وحدة الوطن والعمل على تقدمه ونهضته.
ويتمثل ذلك في قوله: (إنني أتقدم بالشكر إلى إخواني أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد، ولكم على الثقة التي منحتموني إياها، وأعتبرها تكليفا لا تشريفا، على أنني لا أقدر على حملها إلا بتوفيق الله وعون من إخواني المسؤولين والمواطنين جميعا.. فضموا معي أيديكم وقلوبكم، وعبئوا معي مشاعركم وإخلاصكم لنبني بيد واحدة، وقلب واحد مستقبل بلدنا وعزة شعبنا).

الجزء الثاني: الاتحاد (دولة الإمارات العربية المتحدة)
جاء هذا الجزء في أربعة فصول، تناولت عددا من الموضوعات ، فجاء الفصل الأول للحديث عن وحدوية الشيخ رحمه الله، والفصل الثاني : عن  الحديث عن التجربة الاتحادية، ثم الفصل الثالث : الذي ضم أقوال المسيرة الاتحادية في عشر سنوات، وأخيرا الفصل الرابع : الذي كان عنوانه: الاتحاد- تقويم.
ولقد استطاع الشيخ -رحمه الله- في هذا الجزء أن يستخدم الألفاظ المناسبة للتعبير عن المعاني التي يريد إيصالها إلى الجمهور، في أسلوب قوي يتناسب مع شخصيته وثقافته وثقافة شعبه، فنراه يستخدم ألفاظا تنتمي للبيئة الخليجية؛ فهي واضحة مفهومة المعنى لدى الشعب الإماراتي، تتمتع ببعد عاطفي ولفظ سهل وتعبير دقيق. يظهر ذلك في قوله: (يتهمني الناس بأنني وحدوي، طبعا أنا وحدوي، لكني لا أفرض هذه الوحدة على أحد قط).
وكذلك قوله –رحمه الله-: (في بداية الاتحاد، وقبل قيام دولة الاتحاد واجهتنا متاعب ومشاكل كثيرة؛ لأن كثيرا من الإخوان كانوا يرون الأشياء على غير ما كنت أراها.. لكننا كنا نتبع مصلحة واحدة).
فامتلاء خطاب الشيخ بكلمات مثل : وحدوي- دولة الاتحاد… هي كلمات مفهومة واضحة لدى الجمهور الإماراتي؛ وهذا يدل على حكمة الشيخ في انتقاء ألفاظه وبلاغته في اختيارها.
وقد تعددت مظاهر انتقاء الألفاظ في هذا الجزء، حيث كان جل الحديث عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، بداية من الدعوة إلى الوحدة والاتحاد إلى مرحلة تأسيس الدولة وإعلان وحدتها وما ترتب على ذلك من دعوة بقية الإمارات الخليجية بل جميع الدول العربية إلى الدخول في هذا الاتحاد، الذي ثبت بالتجربة نجاحه وإمكانية تحققه.
كذلك من أهم المظاهر والسمات التي ظهرت في هذا الجزء أن الأقوال التي جُمِعتْ فيه جلها تدل على المشاركة والاندماج والاتحاد وتحاشي الفرقة والانعزالية ونبذ الأنا.
من ذلك قول الشيخ –رحمه الله-: (إن وحدتنا قوة لنا‘ وإن سياستنا تقوم على تدعيم ركائز هذه الوحدة مهما تكن التضحيات.. وإن حكام الإمارات ناصروا منذ البداية قيام هذه الدولة –دولة الإمارات العربية المتحدة- وما زالوا يناصرون تدعيم كيانها لتكون نقطة انطلاق لوحدة أكبر).
فالشيخ –رحمه الله- لا يتكلم –هنا- بضمير المتكلم المفرد (أنا) وإنما كان حديثه بضمير الجماعة في التكلم (وحدتنا-لنا-سياستنا)، والغيبة (ناصروا- ما زالوا- يناصرون)؛ وهذا يدل على وعي الشيخ –رحمه الله- بالأهداف التي يلقي من أجلها خطابه، كما يدل على كفاءته –رحمه الله- وتفوقه وتمكنه من ملكات الاتصال وطرق الاخبار السعودية الفكري والثقافي؛ مما جعل كلماته تجسد معنى الاتحاد والمشاركة، بلغة متفاعلة، ومعان حية، وعبارة أنيقة.
فالشيخ –رحمه الله- هو حاكم البلاد، صاحب السيادة فيها‘ لذا حمل على عاتقه تحقيق آمال شعبه وأمانيهم، فلم يكن من الذين يقولون مالا يفعلون، بل حوَل من خلال الاتحاد الشعارات إلى تطبيق، والأقوال إلى أفعال، والأحلام والأماني إلى حقائق، يقول –رحمه الله-: (لقد استطاعت دولتنا خلال هذه الفترة القصيرة من الزمن أن تضع الأماني موضع التحقيق.. وأن تضع الشعارات موضع التطبيق.. وأن تقرن القول بالفعل؛ إيمانا بقيمة العمل، واسترشادا بقوله تعالى: (وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ) [التوبة: 501]).
ومما يلفت النظر –هنا- أن الشيخ –رحمه الله- قد استعان بالشواهد القرآنية؛ وذلك يدل على فطنته وكياسته، إذ إن القرآن الكريم هو الحجة الساطعة التي لا تقبل تشكيكا أو ينفذ إليها طعن، مما جعل أقوال الشيخ –رحمه الله- حجة تنفذ إلى القلوب قبل الآذان؛ لأنها مؤيدة بالأدلة والبراهين، وهذا لون من ألوان الحجاج الاستدلالي في أعلى درجاته.
كذلك ظهر في هذا الجزء أن توجيه الشيخ –رحمه الله- لم يكن توجيهًا سياسيًا وحسب، بل تجاوز ذلك ليشمل كل الجوانب الأخرى: الاجتماعية والأخلاقية والدينية؛ وهذا ما يؤكد حقيقة قد قررها آنفا في قوله:
(أنه يقف موقف الأب من أبنائه)، وقوله –هنا- : (أرجو أن يضع الصغير منكم والكبير في ذهنه العمل وخدمة وطنه وأمته وقوميته، ولا يشغله شاغل عن هذه الخدمة؛ لأن ذلك يعود على الوطن بالخير).
وعلى كلٍ فإن الألفاظ في هذا الجزء وافقت مضمونها التي قيلت من أجله، وعبرت عن سياقها التي قيلت فيه أدق تعبير، فالألفاظ هي أدلة المعاني، فكلمات: (النصر-التضامن- الكامل-التعاون- تلتف-التآزر- رجل واحد- هدف واحد- طريق وحيد…) كلها ألفاظ تعبر عن الدعوة إلى الوحدة والاتحاد، والتعاون، وهي واضحة في ذلك سلسة لا يشوبها غموض أو تكلف.
وهذا كله لا يأتي عبثًا، بل إن منبعه ثقافة الشيخ –رحمه الله- وقدرته اللغوية التي تظهر جليا في اختياره الألفاظ التي تنسجم تماما مع الغرض، وتعبر عن الهدف.

الجزء الثالث: (التجربة الديمقراطية)
جاء هذا الجزء في ثلاثة فصول ، جمع الفصل الأول أقوال الحرية والشورى . وتناول الفصل الثاني الجذور التاريخية للتجربة الديمقراطية في دولة اتحاد، والديمقراطية في التطبيق. أما الفصل الثالث فكان عن دور الصحافة والإعلام في المسـيرة الديمقراطية.
ولعل أهم ما ظهر على أساليب وتراكيب هذا الجزء هو استعمال الجمل الكبرى التي تتسم بالطول النسبي، وكثرة استخدام المؤكدات ، مما كان له أثره الواضح في التأثير والإقناع.
ومثال ذلك في هذا الجزء قول الشيخ –رحمه الله-: (إنَّ الكرامة والحرية التي ندعو إليها إلى أبعد الحدود هي الحرية الصحيحة والكرامة الحقيقية التي لا تشوبها شائبة من الشوائب التي تشوب الحريات والحقوق عند الآخرين، لأنها عندنا ليست مؤيَّدة بوازع القانون، وإنما هي مؤيدة بوازع الدين وما وراء الدين من عذاب الآخرة، ومثل هذه المؤيدات لا تتمتع بها النصوص القانونية عند الآخرين).
فالشيخ في هذه العبارة يؤكد على ارتباط الحرية بالكرامة، وأن إحداهما لا تنفك عن الأخرى؛ لذا وجدناه يبدأ كلامه بالتأكيد بـ (إنَ) المؤكدة، واسمية الجملة، وبالضمير المفسر (هي)، ثم استخدام أسلوب القصر المتمثل في (إنما) وما بعدها، وأخيرا أسلوب المقابلة بين الحرية والكرامة المنشودة التي يسعى الشيخ إلى تحقيقها والحرية والكرامة المزعومة عند الآخرين، مرشحًا هذه المقابلة البلاغية الدقيقة بأسلوب التعريض.
ثم نراه –رحمه الله- يُذيِّل كل تلك المؤكدات بحجة من أقوى الحجج الإقناعية، وبرهان لا يشك فيه فرد من أفراد المجتمع، حيث ربط الحرية بالدين والخوف من الله –عز وجل-؛ وهذا الأسلوب له سلطة حجاجية كبرى في المجتمع لارتباطه بالقيم الدينية التي تتصف بالمصداقية والصحة، وقوة الحجة، كما تتسم أيضا برسوخها وثبوتها وعموميتها في اعتقاد الجماعات والأفراد.
كذلك ظهر في هذا الجزء كثرة الأساليب الإنشائية، علي تعدد أنواعها، من أساليب طلبية تتمثل في : الأمر والنهي وغيرها مما يدل على ثقة المتكلم في نفسه، وشجاعته؛ فالمتكلم –هنا- صاحب سلطة، فالقول قوله، والقرار قراره، ورؤيته أوسع وأشمل من رؤية غيره، والمسئولية التي تقع على عاتقه تؤهله لأن يستخدم هذا الأسلوب في دقة لغوية متناهية، ومناسبة تامة للغرض، وملاءمة واضحة للسياق.
يظهر ذلك –على سبيل المثال لا الحصر- في قول الشيخ زايد –رحمه الله-: (إن أسلوب الحوار يؤدي إلى التوصل إلى أنسب الحلول المجدية، ولا يجوز للحكومة أن تفرض جبروتها على المجلس الوطني، ولا يجوز كذلك للمجلس الوطني أن يفرض سلطانه على الحكومة. إذ لا جبروت لجهة من الجهتين على الجهة الأخرى).
فقد استخدم الشيخ زايد رحمه الله- أسلوب النهي مرتين في هذه العبارة؛ وذلك للتأكيد على مطلق الحرية التي ينعم بها كل من المجلس الوطني أو الحكومة؛ مما يعمل على ترسيخ مبادئ الشورى والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير في مخاطبة الشعب الإماراتي.
كذلك ظهر في هذه الأقوال لون بديع من ألوان التناص في هذا الجزء، يعبر عن ثقافة الشيخ الدينية، وقدرته البلاغية، وذلك في قوله –رحمه الله-: (وأنا أوصيكم بالوحدة؛ إذا تجمّعتم قويتم، وإذا تفرقتم ذهبتْ ريحكم هباءً).
فالشيخ زايد  –هنا- في وصيته اعتمد على الخلفية  الدينية لدى المخاطبين، فاقتبس معنى قول الله -عز وجل- (وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا ‌تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ) [الأنفال: 64]  فتناص قوله هذا مع التنزيل العزيز ،
وكأني به يخاطب إخوانه من أعضاء المجلس الوطني بما يعرفه عنهم من انقيادهم للوازع الديني، وعدم الحياد عنه، فهو يذكرهم أن التنازع والفرقة والاختلاف مما نهى الله عنه، أما الطاعة والوحدة فهي مما أمر به –عز وجل-.
كذلك مما يلاحظ على العبارة السابقة استخدام أسلوب من أساليب البلاغة ذات الدلالة العالية وهو أسلوب المقابلة البلاغية، حيث قابل حال القوم عند الاجتماع من القوة والوحدة وبين حالهم عند الفرقة من الضعف والتخلف؛ وفي هذا ما فيه من إيضاح المعنى وتقريبه.
من ذلك تكراره لفظ (الصراحة) للتأكيد على أهميتها ووجوب التحلي بها، وذلك حيث يقول –رحمه الله-: (لقد تأسس المجلس الوطني الاتحادي الذي أنتم أعضاء فيه للتعبير عن رغبات وأماني المواطنين في كافة أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة؛ لذلك فإنَّ مهمتكم هي التعرف على هذه الرغبات ونقلها بصراحة .. والإخلاص في العمل لا يمكن أن يتم دون الصراحة التي هي مطلوبة بين الأهل والأخوة، إن الصراحة هي الأخلاق، والصراحة واجبة على كل واحد منا، وقبل كل واجب).
كذلك من سمات الأقوال في هذا الجزء استمالة المخاطبين بالخطاب ذي الصبغة التاريخية والواقعية، ويذكرهم بتاريخهم قبل الاتحاد قديما، ويستنطقهم بالتطور الذي تحقق في شتى المجالات بعد الاتحاد: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مما يستوجب شكر الله -تعالى- وحمده، في لغة تتسم بالشمول، والمباشرة، والواقعية.
يقول –رحمه الله-: (كنا نعاني التفكك والتخلف وكانت الإمارات تحت سيطرة السلطة الأجنبية. ونحن لا يمكن أن ننسى هذه الحقائق، بل علينا أن نتذكرها دائماً، لنتذكر معها الحرمان والفرقة ومرارتها التي ذقناها كثيراً، وعانيناها طويلاً. وعندما أتحدث إليكم عن هذه الفترة فإنها تمر بخاطري بكل أبعادها المحزنة، ونحمد الله الذي أنعم علينا بالسعادة التي تُحصد ثمارها .. لقد خطت دولة الاتحاد خطوات واسعة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي).
ومن السمات البارزة على الأساليب والتراكيب في هذا الجزء استخدام أسلوب الترغيب والترهيب في خطابه للصحافة‘ متبعا في ذلك أسلوب الوالد الذي يريد أن يُقوِّم ابنه؛ ولذلك أثره في استمرارية المسار الصحيح، وفي تقويم و وتصحيح المسار الخاطئ.
يظهر ذلك في قول الشيخ –رحمه الله-: (ليس هناك ما يمنع أن تصل الحرية الصحفية إلى حدودها في دولة الإمارات العربية المتحدة، ولكن الحرية لها شروط من يتحلى بها يستحق الاحترام. والحرية لا تجوز للجاهل، أو من يشبه الجاهل، وإنما من يستحقها من بلغ سن الرشد. إذا أعطيت الحُرِّية للجاهل والعاقل بدون تمييز فإنها تؤدي إلى فوضى وضرر على كل المواطنين. وإذا كان حبك – مهما يكن كبيراً – لابنك لا يجعلك تعطيه الحرية قبل سن الرشد، فكيف يعطي الحاكم حرية لمن هو غير رشيد على نفسه).
فالشيخ زايد –هنا- قد استخدم أكثر من أسلوب بلاغي للتأكيد على ارتباط الحرية بالمسؤولية، فنراه أولا يستخدم أسلوب النفي والاستدراك، ثم القصر، والتكرار، ثم الاستفهام، ثم الاستعارة التمثيلية ببلاغتها المتناهية في توضيح المعنى وتقريره، كل  هذا لأنه يريد أن يوجه صناع الحدث الإعلامي إلى المسئولية التي تقع على عاتقهم، بحيث يكون الحدث الإعلامي صادرا عن ثقافة واسعة وفكر سديد حتى يكون ركيزة من ركائز الاتحاد وعاملا مهما من عوامل نهضته وتقدمه لا من عوامل الهدم، وإثارة الفتن.
الجزء الرابع: (الإسلام والتقدم والإنسان والشباب والمرأة)
جاء هذا الجزء في فصلين تناول الفصل الأول : الحديث عن الإسلام والتقدم، أما الفصل الثاني فشمل موضوعات : الإنسان والشباب والمرأة.
ولعل أهم ما يلفت النظر في هذا الجزء هو كثرة استحضار الشيخ زايد  للثقافة العربية‘ والعقيدة الراسخة في وجدان كل مسلم، وهي أن الدين الإسلامي هو مصدر التشريع الأول، والقرآن الكريم هو منبع الأخلاق ومرجع العلوم كافة؛ لذا وجدنا الشيخ زايد –رحمه الله في هذا الجزء يعمد إلى أداة لغوية ساحرة، لها قدرة تأثيرية فائقة، تنفذ إلى القلوب قبل الآذان، ألا وهي التكرار، حيث وجدنا كلمات: (الدين الإسلامي- ديننا- المباديء الإسلامية) وما على شاكلتها يتكرر بصورة ملحوظة؛ مما كان له أثره الدلالي والعاطفي القوي في الإقناع، وهذا يدل على فطنة الشيخ وحنكته اللغوية والبلاغية، حيث اختار الوسائل التعبيرية المناسبة تماما للمقام الذي يتحدث عنه.
ومن ادلة التكرار في هذا الجزء، قوله –رحمه الله-: (إن الدين الإسلامي، دين حضاري أكرم الإنسان، وقدّره حقّ قدره، ونظم حياة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية).
(الدين الإسلامي لا يتنافى أصلا مع الحضارة والتقدم؛ لأنه دين حضارة وعلم ونهضة، بل إن تعاليمه هي قمة الحضارة والعلوم… إن المبادئ الإسلامية تطالب بالعمران والتقدم والعلم والازدهار ورفع مستوى معيشة المجتمع، وتحث على تحقيقها… ونحن في دولتنا ملتزمون بمبادئ ديننا الإسلامي الحنيف، ولا نحيد عنها قيد أنملة ولا نتخلى عن تراثنا، وعاداتنا وتقاليدنا، وهكذا فنحن نأخذ من الحضارة الغربية ما هو خير لأمتنا، وننبذ ما هو شر لها .. فديننا الإسلامي ينهانا عن كل ما يتنافى مع ديننا وتقاليدنا).
كذلك تتسم الجمل النحوية المستخدمة في هذا الجزء بالتنوع، وعدم التزام لون واحد منها ؛ والسير علي وتيرة واحدة ، مما كان له الأثر في إثراء التكوين اللغوي، فوجدنا الجمل الفعلية التي تدل –غالبا- على التجدد والحدوث؛ كما تدل على تحقق الوقوع لارتباطها بالزمن، فكلمات مثل: (أكرم الإنسان- قدره-نظم حياة المجتمع-) كلها أفعال ماضية والتعبير بتلك الصيغة يفيد تحقق الوقوع ، أما كلمات مثل (تحث- نحيد-نتخلى- نأخذ- ننبذ) فهي أفعال مضارعة تصلح لزمانين: الحال والاستقبال، والشيخ -هنا- يتحدث عن الالتزام بالمبادئ الإسلامية فعبر بالفعل المضارع ليؤكد أن دولة الاتحاد تحيا بهذه المبادئ، وستظل متمسكة بها إلى قيام الساعة؛ استحضارا للدلالة الزمنية للفعل المضارع.. وكذلك استخدم الجمل الإسمية التي تدل على الثبوت والاستمرار، كما تدل على التأكيد والمبالغة.
أيضًا من السمات البلاغية البارزة في هذا الجزء: استخدام أسلوب التشبيه لتوضيح المعنى وتقريبه، نحو قول الشيخ زايد  –رحمه الله-: (إنَّ الأفكار والعقائد المصنوعة من البشر عقائد هزيلة ضعيفة كالجمال الهزيلة الضعيفة. لماذا نسمح بدخول هذه الأفكار الهزيلة وعندنا الدستور الرباني الذي وضعه الخالق سبحانه وتعالى).
فالشيخ زايد –رحمه الله- شبه القوانين الوضعية بالجمال الهزيلة الضعيفة، التي لا تقوى على مواصلة السير في البيئة الصحراوية، وفي هذا التشبيه من البلاغة والقدرة اللغوية ما فيه، إذ إنه تشبيه يناسب البيئة الخليجية ويتفق مع طبيعتها، مما يعمل على تقريب المعنى واستحضاره في الذهن كاملا.  وهذا يدل على عبقرية الشيخ زايد  –رحمه الله- وقوة بيانه وبلاغة أسلوبه.
كذلك مما ظهر –هنا- كثرة الأساليب الإنشائية المتمثلة في دعوة الشعب إلى التحلي بالمسئولية والأمانة والإخلاص ومضاعفة الجهود وبث روح المشاركة من أجل بناء الدولة وتنويع مصادر الدخل القومي ودعم الدولة ورفعتها.
كذلك كثر استخدام النواسخ الحرفية المؤكدة التي تعبر عن فلسفة الشيخ زايد  ورؤيته السياسية والاجتماعية التي تتجلى في تمكين الشباب وتزويدهم بكل ما ينفعهم من خبرات وتجارب تتفق مع تقاليدنا ومثلنا العربية والإسلامية.
كذلك كثر استخدام النواسخ الفعلية المؤكدة، نحو قول الشيخ زايد  –رحمه الله-: (لقد أصبح لدي آمال كبيرة وكثيرة في هذا الشباب الذي يقدّر مسؤوليات الوطن ويتحمّل أعباء المستقبل).
فلا شك في أن لهذا الأسلوب أثره في تحريك العواطف، وتحفيز الهمم، والنهوض بالعزائم.
أما حديث الشيخ زايد  –رحمه الله- عن المرأة فانطلق من ثقافته الدينية الإسلامية التي تضع المرأة في موضع مرموق متميز، ومن رؤيته لمكانتها ودورها في المجتمع؛ حيث اعتبرها شريك أساس في بناء الدولة؛ فمكنها من كافة الحقوق التي منحها لها ديننا الحنيف.
وقد تعددت أساليب البيان، ودقائق المعاني في التعبير عن هذا الأمر لدى الشيخ زايد -رحمه الله-، فوجدناه يستخدم أسلوب التقديم والتأخير الذي من أهم مظاهره الدلالية وأسراره البلاغية هو الاهتمام بالمقدم، وتخصيصه بمزيد عناية، يمثل ذلك تقديم الخبر على اسم إن في قوله –رحمه الله-: (إن للفتاة الحقَّ في العمل في جميع المجالات). فقدم عبر الشيخ زايد عن بالغ اهتمامه بالمرأة وعنايتها أمرها بأسلوب بلاغي حجة في الاختصاص، وهو أسلوب التقديم والتأخير؛ مما يدل على دقة الشيخ الفائقة ووعيه بمقاصد الكلام، فعبر بأسلوب بلغ الغاية والروعة في التعبير عن المراد.
وقد حمل الشيخ زايد  –رحمه الله- أمر تمكين المرأة على عاتقه، وجعله من أولوياته، فأنشأ المدارس وتولى أمر التشجيع على تعليم النساء بنفسه، وعقد لهن الجوائز والمكافآت، حتى أضحت عاملا فاعلا ومشاركا أساسيا في بناء النهضة الوطنية بما يتناسب مع طبيعتها ودينها… وقد عبر الشيخ زايد عن تلك المعاني بأسلوب حجاجي ينبع من سلطة إقناعية قوية، هي سلطة الدين، والتراث العربي الأصيل وما انبثق منه من تقاليد وأعراف، فكل ذلك من الأساليب الحجاجية الكبرى التي لها أثرها البالغ في الإقناع،
يقول الشيخ زايد  –رحمه الله-: (إنني أتطلع بكل الثقة إلى أن تقوم المرأة في بلادنا بدورها في النهوض بالمجتمع، كما عملت أخواتٌ لها بالعالم العربي، وأن تكرس جهودها في بناء الوطن والمواطن في إطار تعاليم ديننا الحنيف والتمسك بأحكامه والمحافظة على تقاليدنا والاعتزاز بتراثنا الذي يجب أن نحميه من أي تشويه، لأنه التراث الأصيل الذي يوصلنا إلى التقدم والمجد) .

كاتب المقال : إعلامي وكاتب، عضو مجلس إدارة مؤسسة رسالة السلام للأبحاث والتنوير بالقاهرة