سؤال اللحظة الفاصلة عندما يُكشف الغطاء .. ويُسأل الإنسان عن مصيره الأبدي يوم الحساب

في رحلة الحياة، يواجه الإنسان اختبارًا أعظم من كل امتحانات الدنيا، اختبارًا تحدد نتيجته مصيره الأبدي ، السؤال يومالحساب ليس عن عدد صلواته، ولا عن صيامه، بل عن جوهر أفعاله : هل سار وفق شرعة الله ومنهاجه؟ هل جسّد قيم العدل والرحمة والإحسان؟ إنها لحظة الحقيقة، حيث تُوزن الأعمال لا الأقوال، وتنكشف السرائر لا المظاهر ، ولعل ما جاء من رسائل تنوير في كتاب “ شرعة الله ومنهاجه لـ المفكر العربي الكبير علي الشرفاء الحمادي ، يجعلنا نعيد النظر فيالسؤال الأهم : ماذا أعددنا لذلك اليوم، حين لا تنفع التبريرات، ولا يبقى إلا العمل شاهدًا على الإنسان؟
- جوهر الرسالة وغاية الوجود
ففي أعظم لحظات التكليف الإلهي، خاطب الله نبيه الكريم بتوجيه يحمل في طياته جوهر الرسالة وغاية الوجود، فقال سبحانه وتعالى: “ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ “ .. صدق الله العظيم .. هذه الآية ترسم ملامح السؤال الأعظم الذي سيواجهه الإنسان يوم الحساب، السؤال الذي يتجاوز حدود المعرفة الظاهرية ويمتد إلى جوهر السلوك الإنساني ومدى التزامه بشرع الله ومنهاجه.
- السؤال الإلهي الذي سيُطرح على كل إنسان
فهل سيكون الامتحان عن أسرار السماوات والأرض، وعن نشأة الإنسان وكيفية خلقه؟ هل سيُسأل المرء عن قصص الأممالغابرة وحضاراتها، أم عن العلوم والمعارف التي اكتشفها؟ أم أن السؤال سيكون عن مدى التزامه بأوامر الله ونواهيه، وعنعدله في معاملاته، وعن صدقه في أقواله وأفعاله؟
وتلك التساؤلات تأخذنا في رحلة تدبرية تكشف لنا عن جوهر السؤال الإلهي الذي سيُطرح على كل إنسان، وعن الامتحان الذي لا مفر منه، حيث يُختبر الإنسان في مدى تطبيقه لقيم العدل والإحسان والرحمة في حياته.
- مشاهد مهولة ليوم الحساب
فالقرآن الكريم يصف مشاهد مهولة ليوم الحساب، حين تنقلب الموازين، وتُطوى صفحة الدنيا، ويواجه الإنسان المصيرالمحتوم اذ يقول الله تعالى في كتابه الكريم : “ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَاالْعِشَارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) “ .. صدق الله العظيم .
فهذه الآيات ليست مجرد تصوير درامي لأحداث القيامة، بل هي تحذير شديد للإنسان، ليدرك حجم المسؤولية التي يحملهاعلى عاتقه، فهناك لحظة سيقف فيها كل فرد أمام خالقه، ويُسأل عن أفعاله وأقواله، وعن مدى التزامه بما أمره الله به فيكتابه العزيز ، يومها، لن تنفع الادعاءات ولا الشعارات، ولن يكون الميزان في كثرة الكلمات، بل في ثقل الأعمال، كما قالتعالى : “ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (٦) وَمَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩) “ .. صدق الله العظيم .
- طريق الهداية وطريق النكران والجحود
ووضع الله سبحانه وتعالي الإنسان أمام خيارين واضحين لا ثالث لهما : الاول : طريق الهداية والنور، وهو طريق الإيمان والعمل الصالح، حيث يعيش الإنسان وفق مبادئ العدل والرحمة، فينال رضوان الله وجنات النعيم، كما قال تعالى : “وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا… فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ “ .
أما الثاني : فهو طريق الظلم والضلال، وهو طريق الكفر والجحود والفساد، حيث يكون مصير الإنسان العذاب الأبدي، كماقال سبحانه وتعالى: “ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا… قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ “ .
فالإنسان هو الذي يقرر مصيره، بناءً على خياراته وسلوكياته، فهو ليس مجبراً على اتباع طريق معين، لكنه مسؤول عن قراره،وسيحاسب عليه أمام الله.
- سلوك يُجسد في المعاملات اليومية
والإيمان ليس مجرد طقوس، بل التزام عملي وليس مجرد ترديد للشهادتين، أو أداء للصلوات، أو حفظ للقرآن، بل هو سلوك يُجسد في المعاملات اليومية ، فالصدق في القول، والأمانة في العمل، والعدل في الحكم، والرحمة في التعامل، كلها مظاهر حقيقية للإيمان ، اذ يقول الله تعالى: “ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا “ ، فما قيمة الصلاة إن كان الإنسان ظالماً؟ وما جدوى الصيام إن كان غاشاً في معاملاته؟ وما نفع التسبيح إن كان المرء منافقاً؟
- لا شفيع إلا العمل الصالح
ان الله سبحانه وتعالى منح الإنسان فرصة ثمينة ليعيد النظر في مسيرته، ويصلح أخطاءه، ويتوب قبل أن يفاجئه الموت ،فباب التوبة مفتوح، لكنه لن يبقى كذلك إلى الأبد ويقول المولي سبحانه وتعالي : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” ، لكن التوبة ليست مجرد كلمات تقال، بل هي تغيير حقيقي في السلوك، والتزام صادق بمنهاج الله، اذ يوضح المفكر علي الشرفاء الحمادي في كتابه “شرعة الله ومنهاجه”، أن التوبة الحقيقية تعني العودة إلى الله بالعمل الصالح، والتخلي عن الظلم، والتمسك بالحق والعدل.
فلا شفيع يوم الحساب إلا العمل الصالح ، يوم القيامة، لن يكون هناك شفيع ولا وسيط، إلا العمل الصالح ، فالإنسان وحده هو المسؤول عن مصيره، ولن تنفعه الأعذار، كما قال تعالى: “ مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ “ .. صدق الله العظيم .
- إما رضا الله او طريق الغواية والضلال
لذا فإن الإنسان أمامه خيار واضح : إما أن يتمسك بشرعة الله ومنهاجه، فينال رضوان الله وجنته، أو أن يسير في طريق الغواية والضلال، فيلقى العذاب الأليم .
الله لم يفرض على الإنسان طريقاً معيناً، بل جعله مخيراً، ليختبره في الدنيا، ويحاسبه في الآخرة ، فهل يختار طريق النور والهداية، أم طريق الظلام والعذاب؟ .. اذ يقول الله عز وجل : “ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ “ .. فقد وهب الله الإنسان حرية الاختيار، وجعلها جوهر التكليف ومسؤولية المصير، إذ أقام عليه الحجة وأرشده إلى طريق الحق وحذّره من دروب الضلال، فقال سبحانه وتعالي في كتابة الكريم : “ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا “ .
فالإنسان ليس مكرهًا على الخير، ولا مسيّرًا نحو الشر، بل هو صاحب القرار، يختار بين النور والظلام، وبين الهداية والغيّ، وبين الجنة والجحيم ، فمن اختار التقوى، فاز برضوان الله ونعيمه، ومن غرق في الفجور، حمل وزر اختياره وواجه عاقبته المحتومة ،إنها الحرية التي لا تنفصل عن المسؤولية، والاختيار الذي لا يُعفى صاحبه من الحساب العادل .
لذا فالقرار الآن بيد كل إنسان، فهل يستجيب لنداء الحق، قبل أن يفاجئه الموت، وقبل أن تُغلق أبواب التوبة ؟ .. اللهم بلغت اللهم فاشهد .