غزةُ والفرصةُ الأخيرة: قراءةٌ في تجارب التحرر الكبرى!! المستشار د. أحمد يوسف

بدايةً ما الذي يُمكن أن نتعلمه كفلسطينيين من تجارب التحرر العربية والعالمية السابقة، وخاصةً في دولٍ كالجزائر وإيرلندا وجنوب أفريقيا وأفغانستان؟
على مستوى تجربتي الشخصية، فقد سبق لي أن زرت هذه البلدان، والتقيت فيها بالكثير من قياداتها العسكرية والسياسية،واستمعت منهم لتجاربهم النضالية: أين أصابوا وأين أخطأوا؟ وذلك في سردية هذه خلاصاتها المعرفية ودروسها بكلِّ ما فيها من ذكريات وعبر..
بعد المجازر الرهيبة التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة عشيّة السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وحتى الآن، يقف المشروع الوطني الفلسطيني عند مفترق طرقٍ حاسم، وذلك في ظل الانقسام الداخلي، وانكشاف عميق للوضع العربي والدولي، إذ تبرز الحاجة إلى مراجعة استراتيجية معمّقة تنظر إلى التجارب التاريخية للشعوب التي خاضت نضالات طويلة ضد الاستعمار والاحتلال.. فمن الجزائر إلى جنوب أفريقيا، ومن إيرلندا إلى أفغانستان، تختلف الظروف ولكن تتشابه في معطيات الدروس والعِبَر. فماذا يمكن للفلسطينيين -اليوم- أن يتعلموا في سياق ذلك؟
لاشكَّ أنَّ هناك الكثير مما يتوجب قوله، ولكننا سوف نكتفي -أختصاراً- بجمله في النقاط أهمها:
أولاً) وحدة القيادة الوطنية كشرطٍ لا غنى عنه،
ففي الجزائر، لم تنتصر الثورة إلا حين توحدت القوى المختلفة تحت مظلة جبهة التحرير الوطني. كذلك في إيرلندا الشمالية، رغم التباينات، نجح الجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA) في ربط العمل المقاوم بمشروع سياسي يقوده حزب (الشين فين). أما جنوب أفريقيا، فقد لعب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) دوراً محورياً في حشد كافة قوى التحرر باتجاه الهدف المنشود وهو القضاء على نظام التمييز العنصري (الابارتايد).
في المقابل، كانت أفغانستان مثالاً تحذيرياً، حين أدى غياب الوحدة -بعد دحر الاحتلال السوفييتي- إلى حرب أهلية كارثية، سقط فيها الكثير من إخوة السلاح والعقيدة بنيران بعضهم البعض. وعليه؛ فإنَّ الدرسَ بالغ الوضوح في أبجدياته، وهي أنَّ المشروع الوطني لا يستطيع النهوض في ظل الانقسام والتشظي، ولا يمكن لمقاومة متفرقة أن تُحررَ شعباً، بل قد تزيد من شرذمته وتمزيق راياته وتبديد قواه.
ثانياً) إنَّ الكفاح طويل الأمد، يحتاج إلى صمود مجتمعي عميق،
فالنضال ضد الاستعمار ليس عملاً عسكرياً فقط، بل هو مشروعٌ ثقافي واجتماعي، يتطلب نفساً طويلاً من التحمل، وقدرات أعلى على الصمود.
إنَّ من المعروف تاريخياً، أنَّ ثورات الجزائر وجنوب أفريقيا استمرت لعقودٍ من الزمن، ولكنَّ الشعوب واصلت الصمود؛ لأنها آمنت بعدالة قضيتها، ونجحت في ترسيخ هذا الإيمان عبر التعليم والتثقيف والتوعية الفكرية والسياسية والمقاومة المجتمعية.
إنَّ ما يُميز الفلسطينيين اليوم، وخصوصاً في قطاع غزة، هو هذا الثبات والصمود الأسطوري، رغم ألم النزوح ونزف الجراح.. لكنه -والحق يُقال-صمودٌ مهددٌ إن لم يُستثمر في مشروع وطني جامع، يُعيد بناء المنظومة القيمية والتعليمية والنفسية للأجيال القادمة.
ثالثاً) الرواية الوطنية سلاح استراتيجي.ففي جنوب أفريقيا، كانت حملة المقاطعة الدولية ثمرةَ روايةٍ قوية، أسقطت شرعية نظام التمييز العنصري (الأبارتايد).أما في إيرلندا، فقد نجحت القوى الوطنية في فرض سرديتها على الساحة الدولية، وتحقيق حُلم الاستقلال بقيام جمهورية إيرلندا، فيما بقي الجزء الشمالي بانتظار الاستفتاء لحسم خياراته بالالتحاق بالجمهورية أ و الاستقلال عن المملكة المتحدة. أما في الجزائر، فقد كانت الصور والأصوات القادمة من المجازر، سبباً في تحرك الرأي العام الفرنسي والعالمي.
اليوم، وبعد ما حدث في قطاع غزة من إبادة جماعية، تجاوزت فيها إسرائيل ارتكابها لأكثر من ٣٥٠٠ مجزرة، مع حصيلة من الشهداء والجرحى تخطت أعدادها ١٦٠ ألفاً
في مختلف مناطق القطاع، وهي تُعدُّ جرائمَ حربٍ بحقِ الإنسانية، موثقةً بالصوت والصورة والتغطية الإعلامية الواسعة. اليوم، باتت الفرصةُ سانحةً -أكثر من أي وقت مضى- لتعزيز الرواية الفلسطينية عالمياً، وإعادة تقديمها على أساس أخلاقي وإنساني. وهذا يتطلب -بالطبع- تنسيقاً عابراً للفصائل والأيدولوجيات، وإطلاقاً لحملات ثقافية وقانونية ممنهجة في كلِّ أنحاء العالم.
رابعاً) تكامل المقاومة السياسية والمسلحة..
فالتجارب التحررية الناجحة لم تعتمد على البندقية وحدها، بل جمعت بينها وبين العمل السياسي والدبلوماسي.
في الجزائر على سبيل المثال، كانت جبهة التحرير تقود السياسة والميدان معاً، وفي إيرلندا كذلك، كان الجيش الجمهوري ذراعاً للحزب السياسي (الشين فين)، لا خصماً له.
أما في فلسطين، فقد جرى -للأسف- فصلٌ مُدّمر بين المسار السياسي والمقاومة المسلحة، بل تحولت الفصائل إلى جُزرٍ معزولة لا يجمعها مشروع واحد!!
إنَّ المطلوب اليومَ هو إعادة صياغة المشروع الوطني، بحيث تكون المقاومة أداةً في يد سياسةٍ عقلانية وشجاعة، لا بديل عنها.
إنَّ فرص ما بعد المجزرة، تطرح السؤال التالي:
هل هناك في فضاء الصراع الدامي من أفقٍ يُرتجى؟
الجواب: نعم؛ فبالرغم من الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، إلا أنَّ هناك نوافذَ فرصٍ تاريخية يمكن البناء عليها، ويمكن تحديدها في النقاط التالية:
١) انكشاف الاحتلال أخلاقياً أمام الرأي العام العالمي، خصوصاً في أوساط الشباب الجامعي ومنظمات المجتمع المدني في الدول الغربية، مما يفتح آفاقاً لحملات المقاطعة والمساءلة.
٢) التحول في مواقف دول الجنوب العالمي، وبعض دول الغرب، يمكن أن يُوظّف لبناء تحالفات سياسية جديدة.
٣) تعمّق فقدان الثقة في القيادة الفلسطينية
التقليدية، وهو ما يفتح المجال لقيادات جديدة شابة وحكيمة تنبثق من رحم المعاناة والنزوح، وتملك شرعية نضالية حقيقية.
٤) غزة رغم جراحها، أصبحت رمزاً عالمياً للتضحية والبطولة والصمود، ويمكن أن تُشكل مركزَ إشعاعٍ لإعادة بناء المشروع الوطني، وتصويب بوصلته نحو الهدف الغائي المنشود.
ختاماً:
إنَّ عملية التحرر الوطني لا تأتي بضربة قاضية، بل هي نتاجُ تراكمٍ واعٍ للفعل المقاوم والعمل السياسي، مصحوباً بالأمل وحُلم الوطن.. إنَّ ما علمتنا إياه دروس الجزائر وإيرلندا وجنوب أفريقيا هو أنَّ النصرَ يحتاج إلى وحدةٍ وصبرٍ وروايةٍ تسكنُ وجدانَ كلُّ واحدٍ منَّا، ومشروعٍ وطني يلتقي على قواسمه المشتركة الجميع.
إنَّ فلسطينَ اليوم؛ الشعب والوطن، ليست ضحيةً فقط، بل هي آخر قلاع النضال التحرري في هذا العالم. والمطلوب ليس مجرد البقاء والحفاظ على الوجود، بل إعادة صياغة الحُلم بما يجعل من المجزرة طريقاً إلى اليقظة لا الغفلة.
إنَّ الحريةَ ليست قدراً يُمنح، بل هي حقٌ يُنتزع،
وبابٌ بكلِّ يدٍّ مضرجةٍ يُدق.