اخر الاخبار

مجدى طنطاوى يكتب : الستر في زمن الفتن

في عالمٍ أصبح فيه الفضاء الرقمي ساحة مفتوحة لتبادل الأخبار وفي زمن تتسارع فيه الأحداث وتكثر فيه الهزات الاجتماعية يظل الستر هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على كرامة الإنسان ونحن في هذا العصر الذي تكشف فيه وسائل الإعلام والأجهزة الإلكترونية أسرار الآخرين وكأنها عرض على مسرح مكشوف أصبحنا بحاجة ماسة إلى العودة إلى قيم كانت تميز مجتمعاتنا منذ العصور الأولى وتحديدا إلى قيمة “الستر”

في إحدى الأمسيات جلسنا معا حول مائدة عشاء فاخرة في أحد البيوت الخليجية في تلك اللحظة حيث كان الضيوف يتبادلون أطراف الحديث مع المضيفين ويملأ المكان جو من الود والاحترام وبينما كانت الحوارات تتقاطع بين ضحكات وفكاهات جاء الرد البديهي من المضيف على ألسنة الجميع: “استر ما رأيت وسامحونا على التقصير ” وكان هذا القول كأنه يتناغم مع روح اللحظة إذ ما كان من الضيوف إلا أن يردوا على الضيوف بحفاوة “والله لم نر إلا خيرا”

ذلك الموقف رغم بساطته يعكس قيمة عظيمة تسود في المجتمعات الخليجية التقليدية حيث أن الستر لم يكن مجرد فعل بل كان سلوكا راسخا في الأخلاق وتعبيرا عن احترام الخصوصية كانت الأسر تهتم بإخفاء عيوب الآخرين وأخطائهم حتى إذا حدثت حالات غير مرغوب فيها كان يُتَفادى الحديث عنها كما كان يقال:ط “من ستر عيبا ستره الله” وهي قاعدة عظيمة تجد انعكاسها في هذا السياق

ولكن أليس الحال اليوم مختلفا؟ قد نرى في واقعنا المعاصر أن البعض أصبح يعتقد أن كشف الأسرار هو أسلوب الحياة في هذا العصر الحديث نغرق في تفاصيل حياة الآخرين نتتبع أخبارهم الخاصة ثم نتباهى بتلك “المعلومات” التي نعتبرها على أنها تشبع فضولنا أو تُظهر معرفتنا بكل شيء أصبحت الفضائح مصدرا للحديث في المجالس وكذلك مصدرا للترزق منها  وصارت وسائل الاخبار السعودية الاجتماعي تروج لقصص الفضائح وكأنها أخبار هامة دون أن ندرك كم أن ذلك يتنافى مع تعاليم ديننا الحنيف وأخلاقنا

في الإسلام حثنا الله سبحانه وتعالى في آياته الكريمة على الستر وبيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من ستر مسلما في الدنيا ستره الله في الآخرة وهذا يُظهر لنا أن الستر ليس فقط فعلا أخلاقيا في الدنيا بل هو وعد من الله بحسن الجزاء في الآخرة

في زمننا هذا أصبحنا في حاجة ماسة إلى العودة إلى تلك المبادئ التي كانت راسخة في قلوب أجدادنا إننا بحاجة إلى أن نتعلم كيف نغض الطرف عن أخطاء الآخرين وكيف نعيش في عالم متوازن يحترم فيه كل شخص خصوصيات الآخر….
الستر ليس مجرد عملية “إخفاء” بل هو فعل من أفعال الرحمة والمغفرة التي تحمي المجتمع من الوقوع في مستنقع الغيبة والنميمة

ما أحوجنا اليوم إلى الستر…
لقد أصبحت عيون الناس تتطلع دائما إلى أخطاء الآخرين وتسعى إلى كشف أسرارهم ونتنبه أحيانا أن البشر ليسوا معصومين من الخطأ وأن كل شخص له خصوصياته التي يجب احترامها نحن بحاجة إلى أن نعود إلى تلك الأخلاق التي كانت سائدة في زمن مضى حيث كان الناس يحترمون خصوصيات بعضهم البعض ويؤمنون أن سر السعادة هو في ستر العيوب

وفي النهاية لابد أن نعرف أن الستر ليس فقط في ما نفعله تجاه الآخرين بل هو أيضا في ما نفعله تجاه أنفسنا إن استقرار المجتمعات لا يتحقق إلا عندما يتحلى أفرادها بروح من التسامح والتواضع وعندما يترسخ في قلوبهم أن الستر ليس مجرد واجب اجتماعي بل هو ركيزة من ركائز الأخلاق الإسلامية التي تضمن سلامة المجتمع وهناءته

فلنُعد هذه القيمة إلى حياتنا اليومية ولنسعى إلى أن نكون من الذين يسترون ما يرون لا من الذين يبحثون عن العيوب ليكشفوها فربما في يوم من الأيام نكون بحاجة لمن يستر عيوبنا عندما تظهر كما فعلنا مع الآخرين

ختاما…..
نحتاج اليوم إلى الستر أكثر من أي وقت مضى فهو ليس مجرد سلوك بل هو مشروع بناء مجتمع يقدر الخصوصية ويحترم الإنسان في جوهره ويتجاوز السطحية إلى عمق الأخلاق فلنحافظ على سترنا لأن في الستر حياة