اخر الاخبار

نداء لا يقبل الزيف ولا يُسمع إلا من قلب حر

” لبيك اللهم لبيك ” .. نداء تُشرق به الأرواح .. ثم .. ثم تخشع له القلوب .. فكيف لـ هذا النداء أن يُختزل في زحامٍ يركض نحو الحجر ؟ .. كيف تحوّلت رحلة الحبّ إلى طقوسٍ متكلّفة ؟ .. كيف بات رمي الجمرات أشبه بـ عرضٍ مسرحيّ لا يُفهم معناه ؟ .. فالحج كما أراده الله نداء للتوحيد لا لتقبيل الجمادات .. دعوة للتجرد لا للتزاحم .. رسالة تنوير لا تكراراً أعمى .

اليوم يقف حجيج الرحمن في عرفات .. يؤدون عبادةٌ ربانية تُحرّر العقل لا تُقيّد الجسد .. يلبون نداء إلهي من عند الله .. نداء لا يُلبّى بالأقدام وحدها بل بالقلوب والفهم والتجرد .. ورغم ذلك نجد كثير من القلوب تتباعد .. ويرفع بعض الناس الشعارات أكثر من الدعوات .. ثم .. ثم يؤدون فريضة الحج لا كما أرادها الله .. بل كما أرادها أرباب الموروث والتقليد في رحلة روحانية يُفترض أنها تُطهّر الروح .. فإذا بها تتحول عند البعض لـ  استعراض اجتماعي وتكليف فوق الطاقة .. و .. و صفقات باسم الغفران .

فهل آن الأوان كي ننفض غبار التلقينً .. ثم .. ثم نعود لـ فريضة الحُبّ والحرية كما نزلت من عند الله في قرآنه الكريم ؟ .. هل آن الأوان لـ نغوص معاً في عمق الحقيقة .. ونكشف الستار عن المعنى الغائب لـ رحلة يجب أن تُحررنا لا أن تُقيدنا ؟! .

فتعالوا كي نخلع عن الحج أثقاله .. ونُعيد له هُويته .. كما أرادها الخالق لا كما أرادتها فتاوى عبيد الخالق .

ضجيج وصخب وروايات .. ووسط هذا لا يمكن لنا ان نغفل ما يقدمه المفكر العربي الكبير علي الشرفاء الحمادي من مشروع تنويري ورؤية تصحيحية نحو حج نقي من التكلّف .. كاتباً سلسلة مقالات ومؤلفات تُعيد تعريف العلاقة مع الفرائض .. وعلى رأسها الحج والأضحية ورمي الجمرات وتقبيل الحجر  .. بوصفها عبادات مشروطة بالاستطاعة لا بالإجبار .. وبالرحمة لا بالفتاوى القاسية التي لا تُراعي حال الناس ولا قدراتهم .

إذ يتحدث علي الشرفاء عن حكمة الحج والمقاصد التي يريدها الله لـ عبادة قائلاً : الحج تربية للنفس .. وتطهير للقلب وتدريب على التحكم في الشهوات .. وتحصين الإنسان من إغواء الشيطان بالتمسك بأخلاق القرآن .. واتباع سيرة الرسول التي ذكرت في آيات الرحمن .

الحج تدريب على تبادل المنافع بين الحجاج .. والتعاون على البر والتقوى .. وكظم الغيظ والعافين عن الناس .. وتهذيب النفس .. وتأكيد العهد بين المسلم المؤمن وبين الله بأن يلتزم بشرعة الله ومنهاجه .. التي تضمنتها آيات الرحمن للتمسك بفروض العبادات والابتعاد عن المحرمات والسيئات .. واحترام حقوق الإنسان .. وتحريم العدوان بين الناس لتحل الرحمة في قلوبهم .. والعدل بينهم .. والإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين ليعود المسلم بعد الحج كأنما ولدته أمه نقي القلب .. طاهر النفس .. متمسك بعده مع الله والحج مرة واحدة كما فعل رسول الله عليه السلام .

ولم يكلف الله الإنسان المسلم الغير قادر صحياً ومالياً فقد أعفاه الله من الحج والمشقة والمعاناة من التزاحم على المناسك .. ولذلك من رحمته سبحانه بلغهم رسوله بقوله عز وجل : ” يريد الله لكم  اليسر ولا يريد بكم  العسر ” .. وقوله سبحانه وتعالي مخاطباً عباده : ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” .. صدق الله العظيم .. ولذلك اقتضت رحمته بعباده ألا يؤدوا الفروض إلا وفق الاستطاعة .. فالله سبحانه يبين للناس رحمته أعظم من رحمة الإنسان بنفسه .

ويستشهد الشرفاء الحمادي بقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل : ” الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ” .. صدق الله العظيم .. فهذه الآية ومثلها آيات اخري كثيرة في القرآن الكريم .. تتجلى فيها مناسك الحج بوضوح وفق شرع مُنزل من العليّ القدير .. لا غموض فيها ولا زيادة .

ومع ذلك يطل سؤال صارخ كالسيف .. سؤال يطرق أبواب الفقه والعقل معاً : أين ورد تقديس الحجر في كتاب الله ؟ .. أين فُرض رجم الجمرات كعبادة ؟ .. من أين خرجت هذه الطقوس ؟ .. أمن وحي الله ؟ .. أم من ميراثٍ ثقيل امتلأ بالإسرائيليات والظنون ؟

هنا يصرخ علي الشرفاء في كتاباته قائلاً : لقد حدّد الله تعالى وظيفة الرسول بقول قاطع لا لبس فيه : ” فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد ” .. صدق الله العظيم .. فهل يُعقل أن يُنسب إلى الرسول تشريع لم يرد في كتاب الله ؟ .. كيف يستقيم أن يردد المسلم بإيمان : ” لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك ” .. ثم .. ثم يركض بعدها ليُقبّل حجراً .. أو يتدافع ليصل إليه حتى يُسحق تحت الأقدام من لا حول لهم ولا قوة ؟ .. أي تناقضٍ هذا بين التوحيد والشرك ؟ .. بين التلبية والتقديس ؟ .. بين الطاعة والتقليد ؟ .

وينادي علي الشرفاء في الناس  : يا أمة محمد .. القضية هنا ليست في رمز أو أثر .. بل القضية في المبدأ .. وفي الأصل .. وفي جوهر الإيمان .. فما نراه اليوم من تقديسٍ للحجر ورجمٍ بحجر .. ليس من هدي الله في شيء .. بل افتراء كبير نُسج على مرّ العصور .. اشترك فيه فقهاء ومفسرون وشيوخ .. وساهمت فيه الإسرائيليات .. حتى استحال بعض الحج طقوسًا مسرحية .. بلا روح وبلا مرجعية .. و .. وبلا يقين .

يا أمة محمد : لقد تواطأت العقول والعمائم .. ودفنوا الرسالة تحت ركام من التأويلات والبدع .. فخُمد النور وتعالى صوت الزيف .. وخرج علينا جيلٌ يعبد الشكل وينسى الجوهر .. يقدّس الرماد وينسى النور .. وعندئذٍ استأسد الشيطان .. وساق الناس إلى عبثٍ يبرر الجهل ويغذّي الخوف من السؤال .. لكنّ المؤمن الحق لا يطمئن حتى يسأل .. ولا يسير خلف القطيع إلا بيقين .

ونحن هنا لا نثير الجدل بل نطلب الطمأنينة .. نسأل لنعرف .. ونراجع لنفهم .. ونعود لكتاب الله حتى لا تضلّ أقدامنا عن الصراط المستقيم .. فالدين لا يُبنى على التلقين .. بل على الوعي .. ولا يُؤخذ من فم الرجال .. بل من وحي الرحمن .

فنحن نقف أمام رحلة نورانية أرادها الله تحريراً .. للإنسان من أسر الهوى والرياء .. لكن للأسف حوّلتها بعض العقول المأسورة إلى مشقة ملبدة بالطقوس .. وموسماً تُباع فيه الغفرانات على أرصفة الاجتهادات .. ويُستبدل فيه نداء الرحمن بنداءات السوق والمظهر والمصلحة .

إذ ينادي الشرفاء الحمادي في الناس :  مهلاً يا أمة محمد .. دعونا نخلع عنّا غبار الموروث .. دعونا نُزيح الستار عن الحقيقة كما أنزلها الله .. لا كما صاغها المفسرون والبائعون باسم الدين .. دعونا نُعيد بوصلة الفهم إلى مصدرها النقي ” القرآن الكريم ” .. ففيه وحده تتجلى مقاصد الحج الكبرى بعيداً  عن الرواسب الفقهية التي كبّلت النص الإلهي بسلاسل التأويل .. وأغرقت العبادة في بحر من التعقيد والتنطع .

الحج  في جوهره القرآني ليس طقساً جماهيرياً .. ” هكذا ينادي علي الشرفاء الناس في كتاباته ومشروعه الفكري  ” .. الحج ليس مناسبةً للمباهاة بل رحلة داخلية تُجرد الإنسان من كبريائه .. ثم .. ثم تُلبسه رداء التواضع والطاعة لـ رب السماء والطارق .. ففي حضرته يتساوى الجميع في لباس أبيض بسيط .. لا فضل فيه لـ عربي على أعجمي .. ولا غني على فقير .. ولا سيد على عبد .. إذ يقول الله سبحانه وتعالى : ” وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ” .. صدق الله العظيم .. إنها دعوة مشروطة بالاستطاعة لا بالإلحاح الاجتماعي .. ولا بتأنيب الضمير الشعبي .. ولا بحمى الاستعراض التي تحول العبادة إلى منصة إعلامية .. والمشاعر المقدسة إلى مسرح عبثي .

.. و . و المؤلم أن ما يُمارَسه كثير من الناس اليوم من شعائر .. بات في أحياناً كثيرة غريباً عن جوهر الخطاب الإلهي .. فالناس يُحملون ما لا يطيقون .. ويُساقون إلى التكاليف بدافع الرياء الاجتماعي .. ويُحاسَبون على فرائض لم تُفرض أصلاً .. فالتدين الموسمي الذي يظهر فجأة في موسم الحج .. لا يمثل روح الإسلام .. إنه مجرد قشرة تُغلفها نوايا الاستعراض .. وتخلو من عمق اليقين وصفاء النية .. أليس من العجب أن تصبح الفريضة طريقاً للوجاهة لا للنجاة .. وموسمًا للصور لا للغفران ؟

لذا يدعو علي الشرفاء الناس إلي فك الأرتباط بين العبادة والاستغلال .. فما أحوجنا اليوم إلى ثورة روحية لا تحمل السيف بل تحمل الآية .. ثورة تبدأ من التحرر من أسر الفتاوى المتراكمة وتعود بنا إلى القرآن .. إلي المرجع الأول والأخير لفهم الحج بوصفه ” نداءً للسكينة والتقوى ” .. لا رحلةً تجاريةً تدار بتصاريح وبعثات وفنادق الـ  خمس نجوم .. فالله سبحانه وتعالي لم يجعل من الحج وسيلة للتفاخر .. ولا لتبادل الألقاب والامتيازات .. ولا حلبةً لصراع الطوائف والمذاهب .. بل جعله موعداً لـ خلع الأنا وتحقيق التقوى والانعتاق من كل سلاسل الاستعباد البشري .. ليبقى الإنسان وحده في حضرة خالقه .

وهنا علي الشرفاء لا يكتفي بالتنظير .. بل يطرح منهجاً عملياً للعودة إلى الطريق القويم .. منهجاً يقوم على قراءة القرآن دون وسطاء ولا مفسرين يُقيدون النص بحبال فكرهم .. وعلي التمييز بين الثابت الإلهي والمتغير الفقهي .. منهجاً يرفض تحميل الفريضة دلالات شكلية تُفرغها من مضمونها .. منهجاً يواجه الاستغلال السياسي والديني للشعائر المقدسة ” .

علي الشرفاء يكشف في مقالاته أن التشدد في الفتاوى .. كإلزام الفقراء بالأضحية أو التضحية بدجاجة لتسكين الضمير ليس من الله في شيء .. لأن الله رحيم عليم ويقول في محكم تنزيله : ” لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ” .. صدق الله العظيم .. وهذه الآية وحدها كفيلة بإسقاط عشرات الفتاوى التي شقّت على الناس .. ورفعت سوط الإثم فوق رؤوسهم دون رحمة .. ويُذكّر الشرفاء الحمادي بحقيقة ناصعة وهي أن الله لا يريد أن يُثقلنا بل أن يرحمنا .. فهناك فرق دقيق وعميق بين الاستقامة التي ألزمنا بها الله .. وبين الطاعة التي نشق بها على أنفسنا دون أمر منه .. لأن الحج الحقيقي لا يُؤدى بالأقدام فقط بل بالقلوب أيضاً .

الحج ليس كما يتوهم البعض مجرد ذهاب إلى البيت العتيق .. بل هو رحلة إلى الذات .. ووقفة مع النفس .. وتحرير للعقل من أصنام التقاليد .. فالحج يُقرأ في القرآن لا في دفاتر الفقه .. ويُفهم بروح الرحمة لا بعصا التشدد .. ويُمارَس بالإخلاص لا بالاستعراض .. فمن أراد أن يحج بحق فليحج بقلبه قبل قدميه .. وليرتدي لباس التواضع قبل الإحرام .. وليرفع نداء التوحيد من أعماق قلبه وصميم وجدانه :

لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك ” .. نداء لا يقبل الزيف ولا يُسمع إلا من قلب وعقل تحرّر من كتب التراث .. اللهم اني قد بلغت .. اللهم فاشهد .