تاجر الكراهية

في زمنٍ لم تعد فيه الكلمات تُكتب لتُفهم، بل لتُشارك؛ ولم تعد تُقال لتُنير، بل لتُلهب… أصبح الكلام تجارة، والمشاعر سوقًا مفتوحًا، والغضب سلعةً تُباع بالدولار واليورو والدرهم.
كل ما كان يومًا مقدسًا: الحقيقة، الحُجّة، المهنية، صار يُمزق بالصوت والصورة.
ليس هذا عصر “ما قيل”، بل عصر “كم مرة شُوهد”. لم يعد المهم أن تكون الكلمة عادلة، بل أن تكون صادمة. لم يعد السؤال: “هل هذا صحيح؟” بل: “هل سيحصل على تفاعل؟”
في هذا الزحام، خرج من بيننا من فهم اللعبة مبكرًا، لا ليصلحها، بل ليركب موجتها.
هؤلاء ليسوا صانعي محتوى… بل وحوش تتغذى على الغضب، تُهرول خلف التفاعل كما يهرول المفترس خلف الدم، وكلما اشتعلت الكراهية، انتفخت جيوبهم.
أدركوا أن المنصات لا تكافئ من يقول الحقيقة، بل من يُتقن تسويق الألم والغضب. حين يصبح الاتهام أسرع من البرهان، والمشاهدات أهم من الضمير، والمنصة أقوى من المحكمة.
في هذا السياق، لم تكن ظاهرة “تاجر الكراهية” استثناءً مفزعًا، بل تجليًا صريحًا لعصر انهارت فيه ثلاث ركائز كانت تحفظ المعنى العام: الأخلاق التي تهذب القول، والمهنة التي تضبط الأداة، والقانون الذي يرسم الحدود.
هشام جيراندو، الذي أُدين بخمس عشرة سنة بتهمة التحريض الإرهابي، لم يكن سوى مظهر من مظاهر هذا الانهيار. لم تتم إدانته لأنه عبّر عن رأيه، بل لأنه شوّه معنى الرأي ذاته. حوّل المنصة إلى مدفع، والغضب إلى وقود، والكلمة إلى فخاخ تُزرع في العقول.
الخطير أن ما قاله لم يكن أشد من الطريقة التي قيل بها. لم يعد الجوهر هو ما يهم، بل النبرة، الإيقاع، العنوان المثير، التوقيت المناسب. الهدف لم يعد إقناع الجمهور، بل تحريكه، واستثماره، وتحويله إلى كتلة تفاعلية تنفع في الابتزاز وتدرّ الأرباح.
المنصات الرقمية لم تكن شاهدة بريئة، بل كانت هي السوق، والمسرح، والمُخرج. خوارزمياتها صُمّمت لتكافئ من يوقظ الغضب، لا من يطفئ الفتنة. لأن الغضب يبيع، والاشتعال يُشارك، والفضيحة تنتشر، والهدوء لا يحقق دخلًا.
الجمهور نفسه، اللاهث وراء الإثارة وهتك الأعراض، صار شريكًا في الجريمة الرمزية: يضغط، يُعلّق، يُشارك، ويمنح “تفاعلًا مجانيًا” لصنّاع السموم.
أما البث المباشر فقد تحوّل إلى محكمة بلا قضاة، وميدان للتحريض الفوري، حيث تُطلق الأحكام بلا أدلة، ويُمارس القتل الرمزي في وضح النقرات.
الحكم على جيراندو، مهما كانت قسوته، لا يكفي. لأنه عاقب الفرد، ولم يلمس المنظومة. المنصات ما تزال تحصد الأرباح، والخوارزميات لم تتغير، والمعلنون السريون لا يزالون يموّلون خطاب الكراهية، لأن السوق قائمة ومزدهرة.
ما نحتاجه اليوم يتجاوز الردع. نحتاج إلى تجفيف منابع الكراهية، لا فقط مطاردة وجوهها. أن تُصادَر أرباح السم، كما تفعل دولٌ أوروبية. أن تُكشَف شبكات التمويل، وتُعاد برمجة الخوارزميات لتخفض ترتيب الخطاب المحرّض، وترفع من قيمة المحتوى المهني.
نحتاج إلى مناعة مجتمعية تبدأ من المدرسة، حيث يتعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، ويشكّ قبل أن يُشارك، ويعرف أن الكلمة قد تقتل كما قد تُنقذ.
نحتاج إلى مبادرات مدنية تُعلّم الناس طرح السؤال الصحيح: من يربح من هذه الضجة؟ من يدفع ثمنها الحقيقي؟ ومن صمّم المسرح أصلًا؟
الصحافة نفسها مطالبة بأن تستفيق. لا يكفي أن تُدين الكراهية، بل يجب أن تُنافسها. أن تستعيد سرعتها، وأن تنزل إلى الساحة بأدوات العصر دون أن تفقد جوهرها. أن تُقابل الإشاعة بالتحقيق، والتحريض بالحُجة، والخطاب السام بحقائق موثقة.
لأن الفرق بين الصحافي وتاجر الكراهية ليس في عدد المتابعين، بل في المبدأ.
الصحافي يُحوّل الغضب إلى سؤال، والسؤال إلى تحقيق، والتحقيق إلى وعي.
أما تاجر الكراهية، فيُحوّل الغضب إلى عدوان، والعدوان إلى مشاهدات، والمشاهدات إلى مال.
المعركة ليست فقط قانونية، بل ثقافية وأخلاقية أيضًا.
والنصر لا يكون حين يُسكت الصوت المسموم، بل حين لا يعود أحد يصغي إليه.
حين تصبح كلمة الحق أعلى من كل ضجيج… حتى ضجيج المشاهدات.