فاقدو السمع والبصر ينادون المؤسسات الإعلامية بتوفير الثقة والإدماج المهني

في زحمة الخطابات الموسمية، حيث تتردد عبارات الإدماج وتُرفع شعارات تكافؤ الفرص، يبرز سؤال عميق لا تُسعفه الضوضاء ولا تخفيه المجاملات: متى يصبح حضور الأشخاص في وضعية إعاقة سمعية أو بصرية جزءا طبيعيا من النسيج المهني داخل المؤسسات الإعلامية، لا استثناء يُروى، ولا حالة تُستعرض؟.
بمناسبة اليوم الدولي للأشخاص في وضعية إعاقة سمعية وبصرية، الذي يصادف السابع والعشرين من شهر يونيو من كل سنة، تعود هذه الأسئلة لتطفو على سطح النقاش العمومي، مشحونة بالحاجة إلى إجابات فعلية تتجاوز الإطار الاحتفائي نحو تفكير مؤسساتي في سبل الإدماج المهني العادل.
واقعيا، لم تخلُ الساحة من محاولات كُسرت بها العزلة الصوتية والبصرية، خاصة في مجال التنشيط الإذاعي، كما في تجارب الراحل عزيز البحر ورشيد الصباحي وتوفيق البوشيتي ومصطفى الهردة؛ غير أن هذه التجارب، رغم إشعاعها، لم تُترجم إلى حضور فعلي داخل غرف التحرير أو فرق إعداد الأخبار، وهو ما يفتح الباب لقراءة فوارق عميقة بين التمثيل الرمزي والتمكين المهني.
في الصحافة الإلكترونية، تُسجّل تجربة ذات دلالة لحارث بن والي، الصحافي السابق بجريدة هسبريس الإلكترونية، الذي كان يُعاني من ضعف البصر، وتمكّن من تقديم برامج إعلامية وتحقيقات بصيغة احترافية. ولدى الاخبار السعودية معه لاستقاء رأيه حول الموضوع، اعتذر نظرا لظرف عائلي طارئ، مشيرا فقط إلى أن هسبريس وفّرت له منذ البداية بيئة مهنية منصفة، مكنت تجربته من أن تنمو بثقة واستقلالية.
في المقابل، تبرز تجارب مهنية متقدمة في دول عربية، حيث لم تعد الإعاقة عائقا أمام الولوج الفعلي إلى المؤسسات الإعلامية. من بين هذه النماذج يبرز الزميل راشد الربابعة الذي يقدم نشرات الأخبار على شاشة التلفزيون الأردني، ومعاذ الكعبي الذي يقود تجربة إعلامية استقصائية من خلال برنامج مبسّط بعنوان “مبصرون” يُبث على التلفزيون العراقي. وهي، حسب مهتمين بالشأن الإعلامي، تجارب لم تُبنَ على أساس الخصوصية الجسدية، بل على الكفاءة المهنية والقدرة على أداء المهام بجودة عالية؛ ما جعل من أصحابها صحافيين فاعلين في مؤسساتهم.
أما في المغرب، فعلى الرغم من الإصلاحات القانونية والمؤسساتية في مجال حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فإن البلاد، كما يرى متابعون، لم تعرف بعد انتقالا فعليا في هذا الاتجاه. إن الإعلام الوطني، الذي يُنتظر أن يكون في مقدمة القطاعات الداعمة للإدماج، لا يزال في حالات كثيرة يعكس ترددا في التعامل مع هذه الكفاءات ويُظهر ممانعة ضمنية في إدماجها، خصوصا داخل مقاولات الإعلام الخاصة.
تجربة مهنية
عثمان محسن، صحافي رياضي كفيف لدى إحدى الجرائد الإلكترونية المغربية سابقا، أكد أن أول عائق يواجه الأشخاص في وضعية إعاقة بصرية عند الولوج إلى المقاولات الإعلامية هو انعدام الثقة.
وقال محسن، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، إن العديد من المؤسسات “تبدأ بالتشكيك في قدراتك المهنية، خاصة في الشهر الأول، حيث تكون العلاقة محكومة بالحذر والتردد”، مضيفا أن التجربة تُثبت لاحقا أن الشخص قادر على العطاء بكفاءة قد تتجاوز التوقعات، إذا ما تم توفير الشروط اللازمة.
وأبرز المتحدث ذاته أن اشتغال هذه الفئة داخل المؤسسات الإعلامية يظل رهينا بالطاقة التي يظهرها الشخص وقدرته على التكيّف؛ لكنه شدد، في حديثه لهسبريس، على أن التغطية الميدانية تشكل أحد أبرز العوائق، خاصة في المجال الرياضي، حيث يتطلب الحصول على التصريحات متابعة اللاعبين والمدربين خارج الملاعب؛ وهو أمر يصعب على الكفيف حتى في حال مرافقة مصور.
وأكد الصحافي المتخصص في الشأن الرياضي أن هذه الإكراهات تدفع بعض المؤسسات إلى التردد في تشغيل صحافيين مكفوفين، مشددا على أن المؤسسات الإعلامية الخاصة لا يمكن إلزامها بالإدماج؛ لأنها تشتغل بمنطق السوق، وتقوم بتقييم الصحافي بناء على الإنتاجية والعائد.
وأوصى محسن، في ختام تصريحه، بضرورة مواكبة هذه الفئة ودعمها عبر التوصية من لدن المعهد العالي للإعلام والاتصال، والتعريف بكفاءاتها المهنية؛ ما قد يسهم في كسر الصورة النمطية ويفتح الباب أمام فرص مستحقة.
صوت مزدوج
بهيجة الخميسي، صحافية مغربية تشتغل عن بُعد مع إذاعة أجيال وتقدّم برامج ثقافية عبر تلفزيون القاهرة، أفادت بأن تجربتها الإعلامية في مصر شكّلت تحولا نوعيا في مسارها المهني، بعدما كانت تجد في المغرب صعوبة في إقناع المؤسسات بقدرتها على العمل، بسبب إعاقتها المزدوجة التي تجمع بين ضعف السمع والبصر.
وأوضحت الخميسي، ضمن تصريحها لهسبريس الإلكترونية، أن القاهرة فتحت لها أبوابا ظلت موصدة في وجهها لسنوات، حيث تعاملت المؤسسة الإعلامية التي تحتضنها بمنطق الكفاءة وليس الشفقة؛ فتم تكييف بيئة العمل التقنية والبشرية وفق خصوصياتها، وتم تكليفها بإنتاج مضامين نوعية في مجالات الثقافة والمجتمع.
واعتبرت الصحافية المغربية سالفة الذكر أن هذا الوضع ما جعلها تشعر للمرة الأولى أن الإعاقة لا تُقصي؛ بل تكشف جوهر الإمكانيات حين يُؤمن بها الآخر.
وأبرزت المتحدثة عينها أن الإدماج الحقيقي يبدأ من الإرادة المؤسساتية، لا من عبارات التضامن، مشددة على أن إدماج ذوي الإعاقة داخل المقاولات الإعلامية هو اختبار لمستوى نضج هذه المقاولات واستعدادها لتوسيع تمثيلية الكفاءات المغربية في الإعلام العربي والدولي بعيدا عن الحواجز الصامتة أو الصور النمطية.
وأضافت الخميسي أن المؤسسات الإعلامية في المغرب لا تزال تتعامل مع الصحافي في وضعية إعاقة بنوع من التحفظ، رغم التقدّم المسجل على مستوى القوانين والمبادئ الدستورية.
وشددت الصحافية بإذاعة أجيال وتلفزيون القاهرة أن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على الإنسان لا على الإمكانيات؛ فمهما توفرت الشروط التقنية والمرافقة، فإن غياب الثقة في الكفاءة الفردية يفرغ كل تلك الإمكانيات من معناها.
وفي هذا الصدد، سجلت المتحدثة عينها أن التردد في منح الفرصة لذوي الإعاقة لا يحرمهم فقط من الاندماج؛ بل يحرم الإعلام المغربي من طاقات نوعية قادرة على إغناء الخطاب العمومي، انطلاقا من تجربة إنسانية عميقة ومن حساسية خاصة تجاه قضايا العدالة الاجتماعية.
وخلصت الخميسي إلى أن المؤسسات التي تنفتح على هذا التنوع لا تربح فقط مهنيا؛ بل ترسّخ صورتها كمقاولات مواطنة تؤمن بالتعدد وتستثمر في الكفاءات، لا في الصور النمطية.
وأكدت المصرحة لهسبريس أن المؤسسة الإعلامية المغربية التي تُعلن، بكل وضوح، إدماج صحافي فاقد للبصر أو السمع بشكل كلي داخل غرف التحرير أو في إعداد وتقديم “البودكاست” ستحقق صدى استثنائيا ليس فقط على المستوى الوطني، بل أيضا في المشهد الإعلامي العربي، خاصة أن التجربة ستكون سابقة من نوعها وتحمل بعدها المهني والإنساني معا.
وأضافت أن ما حققته بعض القنوات العربية، مثل تجربة قناة أردنية استقبلت مذيعا كفيفا لتقديم النشرات الإخبارية، يؤكد أن الرهان على الكفاءة يثمر تحوّلا إيجابيا في صورة المؤسسة ويعزّز موقعها التنافسي؛ وهو ما يمكن أن يتحقق أيضا في المغرب إذا تخلّت المؤسسات عن ترددها، وقرّرت الانفتاح على تنوع القدرات.
وفي نهاية المطاف، أوردت مقدمة البرامج التلفزيونية والإذاعية أن المطلوب ليس إدماجا شكليا، ولا تعاملا خاصا؛ بل أن تتعامل المؤسسة الإعلامية مع الشخص في وضعية إعاقة كأي صحافي آخر: إذا كانت لديه الكفاءة، يُدمج ويُمنح الفرصة، وإذا لم تكن يُعامل وفق نفس معايير المهنة. الإدماج الحقيقي، وفق تعبير المتحدثة عينها، هو احترام الإنسان لكفاءته لا لصفته.
وتزامنا مع كتابة هذه السطور، تخوض جريدة هسبريس الإلكترونية تجربة منح فرصة تدريب لشخص من فاقدي البصر الكلي، مع توفير جميع الإمكانيات المتاحة لضمان اشتغاله في بيئة مريحة ومناسبة، تُتيح له إنتاج محتويات إخبارية وصحافية تستوفي المعايير المهنية المعتمدة داخل المؤسسة؛ وذلك التزاما منها بما تدعو إليه من قيم إدماج وتكافؤ الفرص، وتجسيدا عمليا لما تسهم به من جهود تحسيسية في هذا المجال.