في وداع الأديب التونسي حسونة المصباحي.. مُحب المغرب فارس حقيقي

زيارتان اثنتان للبلد المغاربي تونس كانتا كافيتين لأرتبط وجدانيا بهذا البلد الجميل أهله، الطيبة أرضه، الباهية شواطئه والعريقة حضارته، لدرجة أن كل ما يحدث في هذا البلد الجميل أصبح يهمني بشكل كبير. لقد أشعرتني الإقامة بين الشعب التونسي، وخاصة بين أدبائه، بأنني لم أغادر بلدي المغرب نهائيا، وكانت نتيجة إحدى هاتين الزيارتين كتاب رحلي، اخترت أن أعنونه بـ”ربيع تونس رحلة الإنسان والأدب” سجلت فيه تفاصيل جولتي في هذا البلد، وعبرت عن مشاعري نحوه. كما أن هاتين الزيارتين وثقتا صلتي بكثير من أدباء هذا البلد، ومنهم الرئيس السابق لاتحاد الكتاب التونسيين محمد البدوي، الذي تبادلت معه الزيارات لبلدينا.
كما كان هناك تعاون وثيق بيننا ثقافيا، وترسخت كذلك علاقة طيبة لي بالشاعرة نجاة المازني ومحمد شكري ميعادي، وللأسف غادر كل هؤلاء دنيانا في أوج عطائهم، وكأنهم اتفقوا على ذلك انتقاما من صلف الحياة ولاعقلانيتها، وقد ظلت وشائج المحبة تربطني بالأديب كمال الرباحي، الذي أتابع بشغف كتاباته وشغبه الجميل، وبعلاء الدين السعيدي المثقف والمترجم التونسي المقيم بفرنسا، الذي كان قد وجه لي مشكورا دعوة كريمة لحضور معرض الكتاب العربي بباريس.
لكل ذلك ففقدان أحد أعمدة الأدب التونسي الحديث في حجم الكاتب حسونة المصباحي لا بد أن يترك أثرا قويا في النفس. هذا الكاتب الذي أحب المغرب بحق، وظل يزوره باستمرار، ويكتب عنه بتواتر يثير الإعجاب، حتى أن هناك من يظنه كاتبا مغربيا، هو الذي لم يكد يترك مكانا في المغرب إلا زاره وكتب عنه، وقد كنت حريصا على متابعة مقالاته، التي بقدر ما كانت قاسية وجدالية في عمومها، فقد كانت كذلك تزخر بالمتعة والفائدة، وبالعمق، وهي مصاغة بأسلوب قوي في الكتابة، يزخر بالدلالات وظلال المعاني التي تخلفها في ذهن القارئ ونفسه.
لهذا لم أستغرب أن يهتم المغاربة بهذا الكاتب العميق، الذي غادرنا فجأة دون أن يعدنا لذلك بإشارة منه، فنعوه وبكوه كما يبكون واحدا منهم، وربما فعلوا ذلك أكثر حتى من التونسيين أنفسهم، حتى أن كاتبا من طينة كمال الرياحي عاب على التوانسة أن يتباطؤوا في نعي الكاتب، في الوقت الذي سارع فيه المغاربة للقيام بذلك لحظات فقط بعد إعلان موته المفجع.
وإذا كانت هذه المناسبة الحزينة تتطلب منا كثيرا من الصبر، والتذكير بمناقب الكاتب الفقيد، فإن من المناسب كذلك أن نذكر أن المثقفين التونسيين، وخاصة الأدباء منهم، هم أكثر محبة للمغرب من غيرهم، وهم كذلك أكثر ارتباطا بكتابه ومؤسساته الثقافية.
وقد لمست عن كثب أنهم مناصرون لقضايانا الوطنية حتى وإن لم يعلنوا عن ذلك، بل يعتبرون المغرب الحليف الحقيقي الذي يجب التشبث به، وإقامة علاقة طيبة معه، ويكفي في هذا الصدد الإنصات بتمعن للأديب والسياسي التونسي الصافي سعيد، الذي لا يفوت فرصة دون أن ينوه بالوشائج القوية التي تربط البلدين الشقيقين، ويؤكد أن التحالف الحقيقي لتونس مع أي بلد كان لن ينجح إلا إذا أخذ بعين الاعتبار عمقه المغاربي، خاصة بإقامة شراكة حقيقية وعقلانية ومنتجة مع المغرب، الذي لا يكف عن وصفه بالبلد الشقيق.
وإذا كانت الظروف السياسية الحالية للبلد الشقيق تونس تعاني من الضبابية وفقدان البوصلة، فإن ذلك لا يمكن أن ينسينا أبدا أن هناك في ذلك البلد الجميل أشقاء حقيقيين، خاصة من المثقفين والأدباء، الذين يحبون بلدنا ويتمنون له كل خير، وقد كان في مقدمتهم صديق المغرب الكبير فقيد الأدب التونسي والعربي الكاتب حسونة المصباحي، الذي يعتبر موته خسارة حقيقية لنا جميعا. لذا نتمنى أن يلقى التكريم الذي يستحقه في بلده الثاني المغرب، الذي لم يبخل عليه بقلمه المعطاء، وإبداعه الزخم، وكلماته الراقية.
فلتنم بسلام أيها الفارس الذي ترجل فجأة عن فرس الإبداع، وغادر بغتة قطار الحياة، بعد أن ترك لنا أجمل ما يمكن للإنسان أن يتركه هدية لأحبته، والمتمثل في إبداعه الجميل، الزخم والمتجدد، وكلماته الطيبة في حق بلدنا الحبيب.