اخبار فلسطين

“إبادة الحضارة” .. الاحتلال يقتل شهودًا عاشوا مئات السنين

غزة خاص قدس الإخبارية: على مدار عام من حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة، سعى جيش الاحتلال لتدمير كافة مظاهر الحياة في القطاع، مستهدفا البشر والشجر وحتى الحجر، لتكتمل أركان جريمة العصر المرتكبة هناك، بمحاولة مسح الوجود الفلسطيني كلياً، وحتى آثره.

وكما تروي كتب التاريخ عن جرائم المغول في المشرق الإسلامي، التي عاثت الفساد والخراب بكل شيء، يتكرر هذا المشهد اليوم على مرأى ومسمع العالم أجمع، فبدلاً من أن نروي التاريخ ونقرأه، بتنا نعيشه ونشاهده في كل ساعة، بسبب عدوٍ قد بدأ بتنفيذ جريمة تطهير عرقي موسعة منذ عام دون رقيب.

ولطالما ركزت وسائل الإعلام على صور القتل اليومية التي يمارسها الاحتلال، والتي زاد عدد ضحاياها على 41 ألف شهيد، ومئات الآلاف من الجرحى والمنكوبين، بينما لم يُسلط الضوء على حربٍ أخرى تفتك بتراثٍ وحضارةٍ بأكملها، يصل عمرها إلى آلاف السنين، وضربت جذورها عميقاً في ثرى البلاد لتجسد هويتها العربية والإسلامية التي يحاول الاحتلال جاهداً طمسها كل يوم، فما الذي يدور في غمار هذه الحرب؟.

حربٌ على الآثار والتاريخ

يضم قطاع غزة في صفحات رماله الآلاف من المواقع الأثرية، كسائر أراضي فلسطين التاريخية التي احتضنت الحضارات على مدار التاريخ، ولربما لا يعرف كثيرون أن في قطاع غزة مناطق أثرية عديدة تضم ثروة هائلة من الآثار التاريخية تمتد لقرون مضت، ليبلغ عددها 22 موقعاً أثرياً وتاريخياً على امتداد القطاع.

وتنوعت هذه المواقع لتكون شواهد على حُقبٍ تاريخية متنوعة مرت على غزة، من حكم الفراعنة والإغريق والرومان والبيزنطيين وصولاً إلى العهد الإسلامي، وتركت تلك الحقب آثارها المعمارية إلى يومنا هذا، فيما يمارس الاحتلال إبادة حقيقية ضدها.

وتتنوع هذه المواقع بين مساجد وكنائس وأديرة، وقلاع أثرية، وحمامات وبيوت وحتى أسواق، طال أغلبها الدمار الكلي أو الجزئي جراء غارات الاحتلال عنيفة، والتي تشنها الطائرات بأطنان من المتفجرات.

أبرز الآثار المدمرة

المسجد العمري الكبير

يُعد المسجد العمري الكبير من أقدم مساجد القطاع وأعرقها، بل وحتى من أقدم مساجد فلسطين، وقد تم تأسيسه في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد الفتح الإسلامي لفلسطين عام 634 م، ويعد ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجد الأقصى المبارك ومسجد أحمد باشا الجزار في مدينة عكا المحتلة.

وقبل الفتح الإسلامي لفلسطين، كان المسجد معبداً رومانياً ثم كنيسةً في العهد البيزنطي، ليصبح أضخم مسجدٍ في قطاع غزة، ويقع المسجد في مدينة غزة القديمة المعروفة اليوم بـ”البلد” في حي الدرج جنوب شرق ساحة فلسطين بجوار سوق القيسارية (سوق الذهب)، وسوق الزاوية الأثري، ويتربع على مساحة مقدارها حوالي 4100 متر مربع، وبلغت مساحة فنائه 1190 مترا مربعاً، ويتسع لأكثر من 3 آلاف مصل، فيما كانت تُقام به الصلوات وحلقات العلم الشرعي، ومجالس تحفيظ وسرد القرآن الكريم، وصلاة قيام الليل والتهجد في ليالي شهر رمضان مبارك.

ويحمل بناء المسجد 38 عموداً من الرخام ليعكس طرازاً من الفن المعماري القديم، وتحيط به أقواس دائرية، وتتوسطه قباب مرتفعة، وله 5 أبواب تخرج لشوارع وأزقة عريقة، وأطلق عليه اسم “الجامع العمري” تكريما للخليفة عمر بن الخطاب، و”الكبير” لأنه من أكبر مساجد قطاع غزة

وخلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 تعرض لمسجد لغاراتٍ إسرائيلية، ولكنه تعرض لقصف عنيف من سلاح جو الاحتلال في يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2023، أدى إلى تدميره بشكل شبه كلي، وبقاء بعض جدرانه وأقواسه قائمةً تشهد بتاريخ البلاد وتاريخ أصحابها.

مسجد عثمان قشعار

على بُعد بضعة أمتار، من المسجد العمري الكبير يقع مسجد عثمان القشعار، ويعد من أقدم المساجد في قطاع غزة، ويعود تاريخ تأسيسه إلى 27 من شهر رجب من عام 620 للهجرة في العصر العثماني، وترجع تسميته إلى الشيخ عثمان قشقار الذي اشتهر بأنه من العجم الأتراك.

 وبُني المسجد على الطراز العثماني التركي، ودفن داخله جثمان الشيخ، وفصل القبر عن المسجد والبناء حوله، ورمّم المسجد في عام 1990 من أجل توسعته.

وقبل تدمير المسجد العمري بيوم واحد فقط أي يوم 7 كانون أول/ديسمبر 2023، شنت طائرات الاحتلال أحزمة نارية مكثفة استهدفت المسجد والمنازل المحيطة به، ما أدى لتدميره بشكلٍ كلي وارتقاء عدد كبير من الشهداء في المكان.

كنيسة القديس بريفيريوس

تُعد كنيسة بريفيريوس ثالث أقدم كنيسة في العالم، وتقع في حي الزيتون بمدينة غزة، وشن سلاح جو الاحتلال في 19 تشرين أول/أكتوبر 2023 غارة عليها، وأدت لوقوع مجزرة كبيرة بحق المدنيين الفلسطينيين وانهيار مبنى وكلاء الكنيسة بالكامل، في حين كان يؤوي مجمع الكنيسة آنذاك مئات النازحين بالتزامن الغارة الجوية، ممن لجؤوا إلى هذا المكان منهم راهبات ومدنين احتموا بالكنيسة اعتقاداً منهم بعدم قصف الاحتلال لها كونها أحد الأماكن المقدسة بالقطاع.

دير القديس هيلاريون (تل أم عامر)

يُعتبر دير هيلاريون من أقدم المواقع الأثرية في منطقة الشرق الأوسط، ويعود تاريخه إلى القرن الخامس للميلاد، وشكل في حينها أول مجمع رهباني في المنطقة، ويقع الدير في منطقة تسمى “أم التوت” جنوب قطاع غزة، وكانت على تقاطع طرق رئيسة للتجارة والتبادل بين قارتي آسيا وأفريقيا، وكان مركزاً للتبادل الديني والثقافي والاقتصادي، مقدماً بذلك مثالاً على الأديرة الصحراوية التي انتشرت في العصر البيزنطي.

تعرض الدير لغارة جوية إسرائيلية، في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023 على جنوب مدينة غزة خلال حرب الإبادة، وأدرج بعدئذ الدير على قائمة اليونسكو للتراث العالمي المعرض للخطر.

قلعة برقوق

تقع القلعة التاريخية في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، وشيدت بالقرن الرابع عشر في عهد السلطان المملوكي برقوق مؤسس دولة المماليك البرجية، وكانت تعد حصنا للتجار المتنقلين بين القاهرة ودمشق، وتعرضت القلعة لغاراتٍ جوية أدت لتدمير أجزاء كبيرة منها.

سوق القيسارية

يقع سوق القيسارية في حي الدرج بالبلدة القديمة لمدينة غزة وهو أقدم أسواق غزة الأثرية، وأبُني عند افتتاح المدخل الجنوبي لمصلى الجامع العمري، في عهد السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون بواسطة الأمير تنكز الناصري، وكان ذلك في شهر محرم من عام 730هـ/1329م، وفق التأريخ.

ويعد السوق الوجهة التجارية والتاريخية الأبرز، إذ يمتد عمره إلى حوالي 500 عام، وقد يكون آخر الآثار الباقية من العصر المملوكي، إضافة للعديد من المباني التاريخية المُحيطة لتشكل رمزاً إضافيةً من رموز الإصالة في القطاع.

دمرت إحدى الغارات الإسرائيلية السوق، وحولته إلى ركام وألحقت مزيدًا من الدمار بالمسجد العمري الكبير الذي قصفه الاحتلال عدة مرات منذ بداية العدوان.

بيت الغصين الأثري

هو أحد الأماكن الأثرية في قطاع غزة، ويعود تاريخ بناؤه إلى العصر العثماني في أواخر القرن الـ18 الميلادي، وكان مقرًّا للقنصل الإنجليزي خلال الانتداب البريطاني على فلسطين 19201948. 

يقع بيت الغصين الأثري في البلدة القديمة بغزة، شمالي المسجد العمري، ويمثّل البيت واحداً من القصور الفلسطينية التاريخية ضمن البناء الحضري القديم في غزة، التي تعود للعهد العثماني.

ويُعتبر البيت كمعلم ثقافي يزوره الباحثون بالتاريخ والتراث، كما كانت تقام فيه فعاليات ثقافية مختلفة، مثل عروض الأفلام والأمسيات الشعرية والورش الموسيقية والمعارض التراثية الخاصة بغزة، حتى أصبح البيت أثراً بعد عين جراء الغارات الإسرائيلية المدمرة على القطاع.

 هذه أبرز المعالم الحضارية والتاريخية التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه الهمجي على قطاع غزة، إضافة للعديد من المعالم البارزة التي شكلت إرثاً ثقافياً وعلمياً وتاريخياً في القطاع على مدار عقودٍ طويلة من الزمن، إضافة للعديد من الأماكن الغير موثق تدميرها حتى يومنا هذا، مع استمرار العدوان منذ عامٍ كام