حين يُطلب من الضحية أن تُسلم رقبتها.. تأملات في معنى نزع السلاح

في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، يبرز مجددًا على السطح طرح نزع سلاح المقاومة كخيار يُطرح عند كل منعطف حرج في المنطقة، يعود هذا المطلب بقوة، مدفوعًا من قبل الولايات المتحدة، والاحتلال الإسرائيلي، وبعض الأنظمة العربية التي ارتضت خيار المهادنة السياسية، والارتهان لخطابات “التسوية” و”الاستقرار”.
يُطرح نزع السلاح بذريعة “السيادة الواحدة” أو “سلطة الدولة”، وكأن السيادة تُبنى من طرف واحد فقط، وكأن استقرارًا دائمًا يمكن أن يقوم على تجريد الشعوب من أدوات الدفاع عن وجودها. إنها سردية استسلامية في ثوب قانوني، تُروّج لا لسلام، بل لإخضاع طويل الأمد، وتكرّس منطقًا يرى أن الاستسلام هو الثمن الوحيد المقبول للعيش “بسلام” في نظام عالمي غير عادل.
لكن المعضلة الحقيقية في هذا الطرح لا تتعلق فقط بالجانب العسكري أو الأمني، بل بالأبعاد الفلسفية والسياسية التي تتجاوز اللحظة الراهنة. إذ أن نزع السلاح لا يُطرح كتفصيل فني، بل كإعادة تعريف لدور الشعوب في حماية أوطانها وتقرير مصيرها.
السلاح كحق وجودي لا خيار ظرفي
الطرح الظاهري لنزع السلاح يوحي بأنه نقاش أمني أو سياسي، لكنه في عمقه سؤال وجودي: هل يمكن تصور فلسطيني أو لبناني حر دون سلاح مقاوم؟ في هذا السياق، السلاح ليس بندقية أو صاروخًا فحسب، بل تجسيد مادي لإرادة البقاء والصمود. فحين يغيب السلاح، تعود العلاقة إلى صيغة “سيد وعبد” لدى الفيلسوف هيغل، وتُفرغ مفاهيم السيادة والكرامة الوطنية من جوهرها. لقد أثبتت التجربة التاريخية، من الجزائر إلى فيتنام، ومن جنوب إفريقيا إلى نيكاراغوا، أن السلاح كان العامل الحاسم في قلب المعادلات الاستعمارية.
السلاح هنا هو رد طبيعي على حالة عدوان مستمر، وليس وسيلة لخلق الفوضى أو تجاوز الدولة. بل هو حماية لجوهر الدولة حين تعجز مؤسساتها الرسمية عن حماية مواطنيها. ولعل عبارة “السلاح لا يحميه إلا السلاح” تلخص فلسفة متجذرة في تجارب شعوب قاومت الإلغاء الممنهج، من النكبة إلى العدوانات المتكررة في لبنان وغزة.
تجربة لبنان: من دحر الاحتلال إلى الردع المستمر
في لبنان، لم يكن سلاح “حزب الله” مسألة داخلية أو ترفًا أيديولوجيًا، بل ضرورة فرضها واقع الاحتلال والعدوان المتواصل. منذ تحرير الجنوب عام 2000 وحتى كسر العدوان الإسرائيلي عام 2006، أثبت هذا السلاح فعاليته ليس فقط عسكريًا، بل في صناعة توازن ردع حقيقي أجبر العدو على التفكير ألف مرة قبل الإقدام على أي مغامرة جديدة.
لقد فشل العدو في فرض شروطه رغم تفوقه التقني، لأن السلاح هنا لم يُستخدم لمغامرات عشوائية، بل بوعي سياسي وعسكري استراتيجي، جعل من المقاومة فاعلًا حقيقيًا في معادلة الإقليم. ومع ذلك، فإن السجال اللبناني الداخلي، لا يزال يحمل صدى الضغوط الخارجية التي تروّج لنزع السلاح كمدخل لحل الأزمة الوطنية سواء لنزع سلاح حزب الله أو الفصائل الفلسطينية، دون أن تقدم بديلاً واقعيًا يحمي لبنان من تكرار سيناريوهات الاجتياح والعدوان.
فلسطين: المقاومة تفرض المعادلات رغم اختلال الموازين
أما في فلسطين، فإن مشهد المقاومة المسلحة شكّل دائمًا الكابح الوحيد أمام تمدد الاحتلال. فبالرغم من اختلال ميزان القوة تقنيًا وعسكريًا لصالح الاحتلال، إلا أن المقاومة استطاعت فرض معادلات ردع سياسية وميدانية، وخلقت واقعًا جديدًا لا يمكن تجاوزه في أي مفاوضات مستقبلية.
تجربة قطاع غزة، رغم الحصار والدمار، أظهرت كيف يمكن للمقاومة أن تُعيد الاعتبار لقضية كادت أن تُهمّش دوليًا. في المقابل، فإن نزع السلاح في الضفة الغربية كان تجربة حيّة على الفشل والانكسار، حيث تحولت الأجهزة الأمنية إلى أدوات تنسيق أمني، بينما تُركت غزة وحدها تحمل عبء الدفاع، بكل ما فيه من تضحيات جسيمة، ومآسٍ إنسانية يدفع ثمنها الأبرياء يوميًا.
نزع السلاح… مطلب يخدم الاحتلال وحده
حين يُطرح نزع سلاح المقاومة، لا يكون ذلك ضمن خطة شاملة لنزع أسلحة كل الأطراف، بل كمطلب أحادي يخدم الاحتلال فقط. إنه طرح لا يسعى إلى “سلام” حقيقي، بل إلى تفريغ المنطقة من أي قدرة على الردع، وتحويل المقاومة إلى مجرّد ذكرى رومانسية تُحكى في كتب التاريخ.
الأطراف التي تدعو إلى نزع السلاح—من أنظمة سياسية إلى منظمات دولية—لا تملك في معظمها قرار الحرب أو السلم، بل تنطق باسم قوى كبرى تسعى لإعادة صياغة المنطقة وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية. هذه الأطراف تتجاهل أن المقاومة لم تكن خيارًا عدميًا، بل ضرورة فرضتها الظروف الميدانية والإخفاقات السياسية المتراكمة.
القوة في نظر المركز الإمبريالي: احتكار ناعم
فلسفيًا، الطرح يعكس تصورًا استعلائيًا عن “من يستحق القوة”. القوى الإمبريالية ترى أن القوة حكرٌ على المركز، وأن امتلاك الشعوب المهمشة للسلاح يُعد تهديدًا للنظام العالمي القائم. ومن هنا، يصبح نزع السلاح وسيلة لنزع الإرادة أولًا، والكرامة ثانيًا. فالسلاح، في هذه القراءة، هو آخر أدوات الإنسان الحر أمام منظومة دولية تعتبره “غير ناضج”، “غير عقلاني”، و”غير مؤهل” لامتلاك أدوات الردع.
هنا، يصبح الحديث عن “احتكار الشرعية” أداة ناعمة للتطويع، يتم من خلالها إعادة هندسة مفهوم الدولة الوطنية، لا كإطار لحماية السيادة، بل كجهاز وظيفي يدير مصالح المركز الاستعماري ويضمن استمرار تبعية الأطراف.
السلاح كعنصر ثابت في معادلة التحرر
إن السلاح ليس تفصيلًا في مشروع التحرر، بل العنصر الثابت في ظل استعمار لا يزال فاعلًا ومؤسسيًا. يتغير شكل المعركة، وتتبدل أدوات الخطاب السياسي، لكن الاحتلال لا يزال موجودًا، والقمع لا يزال يمارس بأحدث التقنيات العسكرية الغربية. لذلك، لا يمكن الدفاع عن مشروع وطني بدون قوة تحميه.
الحديث عن “حسن النوايا الدولية” أو “التوازن الإقليمي” ليس أكثر من وهم ناعم، يُراد به تمرير مشاريع إقصاء المقاومة من معادلة الصراع، وتهيئة الرأي العام لقبول سلام الأمر الواقع، الذي يُبقي الاحتلال، ويُفرغ السيادة من معناها.
من غزة إلى الجنوب: دروس السلاح والكرامة
ما حدث في غزة بعد تجريد الضفة من السلاح، وما حدث في جنوب لبنان قبل تحريره، يُظهران بوضوح المعنى الجوهري للسلاح. فحين يغيب السلاح، يُمنع الشعب من القتال، وتصبح القرى والسكان تحت رحمة المحتل، وأحيانًا تحت رحمة أدوات أمنية محلية تقوم بدور الوكيل الأمني.
التجارب التاريخية تُثبت أن المقاومة، رغم ثمنها الباهظ، تحفظ للناس حدًّا أدنى من الكرامة والسيادة. أما نزع السلاح فيُفضي إلى الذل والانصياع والتطبيع الإجباري مع واقع الاحتلال، ويحوّل قضايا التحرر إلى ملفات بيروقراطية تفاوضية، تخضع لحسابات المصالح الكبرى، لا للعدالة والحق.
السلاح كشرط وجود لا خيار تكتيكي
في هذه اللحظة المفصلية، ومع تصاعد الصراع في أوكرانيا، وصعود قوى الجنوب العالمي، لم يعد ممكنًا التسليم بمعادلة أحادية للقوة. إن سلاح المقاومة بات شرط وجود، لا مجرّد خيار تكتيكي. فالمعركة لم تعد على قطعة أرض فقط، بل على المعنى الكامل للسيادة، وعلى هوية الشعوب في مواجهة عالم يُعاد ترتيبه بقواعد قديمة وأدوات جديدة.
المقاومة اليوم ليست مجرد فعل عسكري، بل موقف حضاري في وجه عقلية استعمارية تعيد إنتاج ذاتها تحت شعارات جديدة. والسلاح في هذا السياق، هو رمز البقاء، وصوت من لا صوت لهم في المحافل الدولية.