في إعادة الاعتبار لتحرير فلسطين
قبيل شهور من طوفان الأقصى حاول الأسير المجاهد إبراهيم حامد عبر مقال خطه في زنزانته ، بعنوان إعادة الاعتبار لتحرير فلسطين ، أن يذكر بحقيقة هذا الصراع فهو ليس صراعاً من أجل إقامة دولة أو سلطة على رقعة من الأرض ، إنما هو صراع هدفه التحرر ، ليعيد رسم المسار بعدما أصبحت الوسيلة غاية في أعين البعض. وقتها، وحين خط ذلك المقال لم يكن ليتخيل أحد أننا على أعتاب أكبر المعارك مع العدو الصهيوني ، وأنه سيعاد الاعتبار حقاً لتحرير فلسطين، لنرى صبيحة السابع من أكتوبر زوال الكيان حقيقة قابلة للتحقق ولا تقبل الشك إذ تصورتها الأذهان حينها ، ورغم كل الخسائر العظيمة، ترسخ أن المسألة ليست إلا مسألة وقت لا أكثر وإن أمكن هذا فيمكن ما هو أعظم منه ، وما الزمان والوقت في هذه المعركة مع العدو إلا فرصة إضافية لأجيال جديدة لتنال شرف الانخراط فيها ، ليكون سؤال الوقت هو سؤال من يخشى أن يفوته قطار الالتحاق لا سؤال الموعد.
وكأني أنظر لصناع هذا الفعل الاستراتيجي الشجاع في لحظات إعداده الذي سُمي طوفاناً وبذلت فيه أعز التضحيات وأشرفها وبمداد من الدماء عبر مد الزمن حتى تلك اللحظة، يعلم صانعوه أنه سيُظلم وأن الناس لن تدركه بكليته، حينما لا ندرك أهميته وحقيقته إلا بعد مرور عشرات السنوات عليه لنقول وقتها نعم تلك هي اللحظة الفاصلة التي أنتجت كل هذه التحولات عندما تتشكل منطقة غير هذه المنطقة، تلك هي اللحظة التي صنعت كل هذا ، وقتها يمكن أن نوفيه حقه من الفهم، لتبدأ آثار الطوفان في أول لحظات سكونه إن سكن وعند انتهاء معركته الأولية، فالتفاعلات التي لا يتم إدراكها أكبر مما يمكن أن يدرك وما لا يمكن قياسه أعمق ،ليكون الطوفان هو الطوفان في النفوس أكثر منه في غيرها ليبعث في الإنسان من أبناء أمتنا إنساناً جديداً لم يكن ليتشكل بآلاف محاولات التعبئة والإقناع كأنه خلق جديد.
لنرى بوضوح أن هنالك عوامل ومفاعيل فوق ذلك تتدخل وتحيط بمسارات الأحداث ،رغم كل اختلالات موازين القوى بين المقاومة والعدو، ولا تدركها التحليلات ولا مراكز الدراسات والأبحاث ، لتتجلى في كل جزئيات هذه المعركة أنها معركة تديرها عناية إلهية فائقة وتصنعها على عين الله بعالم غيبي إلا أنه محسوس، يستشعره أهلها ويلتمسونه بل ويقاتلون به أكثر مما يقاتلون بالعتاد والعدد ، وهي حقيقة أخرى من يُحيِّدها لن يفهم معادلة هذه المعركة ولن يستطيع أن يفهم مقاتلاً من القسام بعد كل شهور الحرب، يُحاربُ بكل عتاد أهل الأرض وبمدد فوقه مدد من الإجرام لم تشهد البشرية مثله ، ممسكاً بإرادته ليقاتل كأنه يرى النصر مجرد المحاولة وكأن النصر هو الصبر بذاته أو محض الإرادة، هذا المشهد هو الخلاصة وهو كل الحكاية بكل ما فيها من تفاصيل، يتكرر هذا المشهد ويتكرر وسيبقى يتكرر ، فإن استشهد خرج آخرون بثوبه أو بأثواب أخرى أشد بأساً ليشتبكوا كأنها سنة ماضية لن تتوقف.
حتى تحرر فلسطين جاء الطوفان كفعل اجترح المستحيل جاء بكل ما يحمله ليذكرنا بحقيقة علينا أن نتذكرها في كل لحظة من لحظات المعركة مع العدو ،أننا نعرف نتيجتها النهائية المحتومة مسبقاً مهما تعددت جولاتها، أننا نعرف الطرف المهزوم حتماً والطرف المنتصر بلا شك، وأنه مهما تعرضنا لخسائر ومهما أخذ منا اليأس فالمآل لنا دون ريب، وما علينا إلا أن نلتحق دون تأخر.
هذه هي الحقيقة الكبرى في معركة تحرير فلسطين التي لا ينبغي أن تغيب عنا، أن نستحضرها في كل موقف وأن ندرك حقاً أن أي تراجع ليس إلا مرحلة مؤقتة ضمن القصة الكبيرة التي ستنتهي بالنصر والتحرر، ودون إدراك ذلك لا يمكن فهم هذا الصراع.