كيف يمارس الاحتلال حرباً نفسية عقب كل اغتيال وهل ينجح بها؟
خاص شبكة قدس الإخبارية: منذ نشأة الكيان الصهيوني على أراضي فلسطين المحتلة وزرعه في قلب المنطقة العربية والإسلامية، دأبت أجهزته الاستخباراتية والعسكرية على اغتيال كل من يحمل فكرة مقاومة الاحتلال وإنهاءه، فمنذ الشهور الأولى لحرب النكبة وفي خضم قتالٍ عنيف استطاعت العصابات الصهيونية قتل قائد الجيش المقدس الشهيد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل، فيما ظنت هذه العصابات التي ستتحول إلى كيان أو دولة بان الهدف المنشود تحقق دون أي مواجهة قادمة.
وفي الحقيقة، حمل الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده ومن مختلف أطيافه الفكرية والمجتمعية عاتق المواجهة والكفاح لاستعادة أرضه عبر المقاومة المسلحة لا سواها، فيما تأثرت بعض التيارات العربية في المنطقة بهذا النهج وسارت به، تخلل هذه المسيرة عمليات اغتيال إسرائيلية استهدفت روادها والمشاركين بها.
ولا يقف الإجرام الصهيوني عند حد القتل والتصفية فحسب، بل يُكمل ذلك بسيلٍ إعلامي ضخم ليعزز من أثر إنجازاته المزعومة أمام جمهور الاحتلال أولاً، ثم في إطار حربٍ نفسية يكثفها ضد قوى المقاومة وجمهورها لمحاولة إحلال الهزيمة النفسية والتحطيم المعنوي، وخلق فكرةٍ مفادها أن لا جدوى من المقاومة أمام واقع الهيمنة الصهيوأمريكية، نستعرض في هذا التقرير ماهية الحرب النفسية التي يشنها الاحتلال عقب كل عملية اغتيال، ومدى تاثير هذه الحرب على المقاومة وجمهورها.
الحرب النفسية ومنظورها العلمي
تقوم الحرب النفسية على قاعدة اختلاق المعلومات أو التهويل من حجم حقائق وقعت بالفعل، ثم ضخها في سياق إعلامي، يخدم مصالح الاحتلال وفق اعتبارات سياسية وجماهيرية وحتى عسكرية، فيما يتم توجيه هذا السياق للطرف المقاوم للاحتلال، ويتم هذا التوجيه إما من خلال التسريبات التي يقوم بها الإعلام العبري أو من خلال الخطاب المباشر لجيش الاحتلال في اللغتين العربية والعبرية على حدٍ سواء.
ويعول الاحتلال على اساليب الحرب النفسية في الأحداث البارزة أو ذروة المواجهة كما يدور منذ عام في خضم معركة طوفان الأقصى، فيما يستخدمها الاحتلال لمحاولة رفع معنويات جمهوره وجبهته الداخلية من خلال نسج رواية إعلامية تقلل من أثر الفعل المقاوم توجه على لسان ناطقي جيش الاحتلال باللغة العربية كـ”أفخاي أدرعي”.
وتستخدم وسائل إعلام الاحتلال عدة نظريات إعلامية لإرساء قواعد حربها النفسية منها نظرية بناء المعنى والتي تلعب بشكلٍ أساسي على نسج رواية جديدة تتناسب مع رغبة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ويخلق هذا المعنى الجديد فوضى وآثار نفسية داخل جمهور المقاومة وحتى عناصرها عبر تضليلهم بسيل المعلومات الكاذبة والتي تحرف الأنظار إلى حيث يريد الاحتلال.
ويستخدم الاحتلال في هذه الحالات المعلومات النصية وتصريحات من قادة جيشه وحكومته، ولربما يلجأ لفبركة مشاهد عبر الوسائط المتعددة.
الحرب النفسية وتوظيفها في عمليات الاغتيال
في الواقع تتكثف عمليات الاغتيال الإسرائيلية في إطار تصاعد الفعل المقاوم، كإجراء انتقاميٍ من المقاومة، وكردة فعل دموية بعد العجز عن تحقيق أي إنجازٍ استراتيجي في ميدان المواجهة.
وأطلقت حكومة الاحتلال الاغتيالات بشكلٍ موسع ضد قيادات وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية فترة السبعينيات والثمانينات، بعد فشل الاحتلال في خلق حالة من الأمن لمستوطنيه داخل فلسطين وخارجها بشكلٍ أكبر، بعد أن حققت عمليات المجال الخارجي لفصائل المقاومة النجاح تلو النجاح، بمهاجمة أهداف الاحتلال وأعوانه على مدار العالم.
خلال تلك الحقبة كانت رسائل قادة الاحتلال بمثابة الحرب النفسية بأوضح تجلياتها، توجهت إلى الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة تحذرهم من أي نشاطٍ مقاوم، فيما كانت الرسالة الأخبث أن الأجهزة الاستخباراتية للاحتلال قد استطاعت القضاء على قادة المقاومة في الدول العربية المجاورة، فيما تضمنت الحرب النفسية في أعقاب الاغتيالات عملية كي وعيٍ لتطويع العقل الفلسطيني على تقبل الاحتلال، أو مواجهة القتل والدمار، وقد تجلى ذلك في تعليق رئيسة وزراء الاحتلال آنذاك غولدا مائير على حادثة اغتيال الشهيد الصحفي غسان كنفاني حين قالت: “اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح”.
ولعل تصريح غولدا حول اغتيال غسان، يوضح عمق نظرة الاحتلال وخشيته من الصحافة الفلسطينية الوطنية التي تعزز الوجود الفلسطيني وتذكره بأرضه المحتلة، وتواجه مزاعم وأكاذيب الصهيونية العالمية، ورغم اغتيال غسان، استمر عددٌ لا بأس به من رواد الإعلام الفلسطيني في نشر الحقيقة ليكون مصيرهم الشهادة وتعزيز روايتهم لا هزيمتها من قبل الاحتلال.
الحرب النفسية واغتيالات الانتفاضة والطوفان
كانت الاغتيالات سلاح الاحتلال الأبرز منذ الشهور الأولى لانتفاضة الأقصى عام 2000، صعدت حكومة الاحتلال برئاسة آرائيل شارون في حينها من هذه السياسة، بل اتخذها شارون وقائد جهاز الشاباك آدي ديختر، كالوسيلة الأبرز لإنهاء الانتفاضة وإلحاق الهزيمة السياسية والعسكرية في الشعب الفلسطيني.
وطالت الاغتيالات في تلك الفترة قيادة الصف الأول وحتى الثاني من الفصائل الفلسطينية بشقيها العسكري والسياسي، بينما روج شارون في خطابه أن حكومته استطاعت إنهاء العمل المقاوم، وبالمحصلة كانت الهزيمة له بالانسحاب من قطاع غزة وبعض مستعمرات شمال الضفة الغربية.
وبعد كل عملية اغتيال، كان شارون يتوجهه بخطابه إلى مجتمع الاحتلال، ويزعم إنهاء قدرات المقاومة، ليتفاجئ بعد الخطاب بأيام قليلة في أكثر من عملية بعمق الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 أو الضفة وغزة، ليكون خطاب شارون محض حربٍ نفسية انعكست عليه في نهاية الانتفاضة.
ومع بدء معركة طوفان الأقصى في تشرين أول/أكتوبر 2023، دخلت قوى المقاومة مرحلة المواجهة الأطول ضد الاحتلال منذ تأسيسه، فيما كانت ردة فعل وزراء الاحتلال منذ أولى أيام المعركة، بالمطالبة بتفعيل الاغتيالات في كل مكان، بمحاولةٍ لإلحاق الهزيمة في حماس وحزب الله بالدرجة الأولى وباقي قوى المقاومة.
وكما هي العادة، أعقب نتنياهو الاغتيالات بحرب نفسية ارتكزت على الخطاب الإعلامي، ولكن على صعيدٍ عالمي وليس فقط محلي، تجلى ذلك في أعقاب المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة، وزعم بها اغتيال قادة المقاومة كمجزرة المواصي التي زعم بها اغتيال قائد أركان المقاومة محمد ضيف، والترويج لإلحاق الهزيمة الأكبر للمقاومة في غزة، فيما تستمر المقاومة بعملياتها العسكرية حتى يومنا هذا وبعد شهور من الادعاء الصهيوني.
أما اغتيال الشهيدين صالح العاروري وإسماعيل هنية، فقد استخدم ذات الأسلوب، فيما أشار نتنياهو عقب الاغتيالين إلى مفهوم “تسكير الحساب”، أو إنهاء الوجود الساسي الخارجي لحماس، فيما تستمر الحركة بإثبات وجودها على صعيدٍ إقليمي.
وعقب اغتيال قادة حزب الله بمراحل مختلفة كفؤاد شكر وإبراهيم عقيل والأمين العام حسن نصر الله قبل يومين، والغارات الجوية العنيفة التي يشنها سلاح جو الاحتلال على لبنان منذ أسبوع، يروج الاحتلال إلى تفكيك حزب الله وإنهاء قدراته الصاروخية، واستهداف منصات إطلاق الصواريخ بشكلٍ يومي، فيما تطرق الحرب النفسية إلى الإصرار الإسرائيلي لـ”إنهاء خطر حزب الله” وتأمين الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، ولكن أثبتت مجريات المعركة أكاذيب الاحتلال باستمرار العمليات العسكرية لحزب الله، والناظر بتاريخ الحزب أو الفصائل الفلسطينية، فأنها خسرت قياداتها ومؤسسيها باغتيالات إسرائيلية، في حين زادتها هذه الاغتيالات كفاءةً وإصراراً على المواجهة وبناء القوة على مدار سنوات خلت.