لماذا فشلت استخبارات الاحتلال في فهم عقل حماس؟
فلسطين المحتلة خاص شبكة قُدس: “فشلنا في أهم مهمة لنا”، اختصر رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي اللواء أهارون حليفا الذي قدم استقالته، الفشل الاستراتيجي الذي وقع فيه المجتمع الاستخباري الإسرائيلي أمام فهم عقل حركة حماس الذي قاد عملية “طوفان الأقصى”، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ودمر معه كل التصورات الأمنية والاستراتيجية والسياسية متعددة الأبعاد التي بنى مداميكها ضباط وباحثون ومستويات مختلفة في دولة الاحتلال حول تصورات الحركة للمستقبل واتجاهاتها للتعامل مع الواقع الفلسطيني، وفي قطاع غزة خاصة.
مع بدايات المشروع الاستعماري في فلسطين المحتلة الذي وصل إلى قيام “إسرائيل”، بعد حرب النكبة على الشعب الفلسطيني، في 1948، اندفع قادة الحركة الصهيونية نحو بناء أجهزة استخباراتية تعمل على فهم “العقلية العربية” وتركيبة المجتمع المستهدف، لتوفير مادة تساعد في عملية اتخاذ القرارات وبناء نسق يسمح بإحباط أي عمل عسكري أو سياسي عربي وفلسطيني لإحباط مساعي إقامة دولة صهيونية في البلاد، بالإضافة لأهداف أخرى تتعلق باختراق المجتمع المعادي وتحييد طبقات منه عن الصراع.
قام المجتمع الاستخباري في دولة الاحتلال على عدة أجهزة توزعت بينها المهام في العمل الداخلي والخارجي، وفي ملفات مختلفة تنافست أو تشاركت في المهمات، واشتركت مع أجهزة سياسية وأمنية في وزارة الخارجية والجيش في إدارة العمل خاصة على مستوى تقدير الموقف، وتقييم حالة الدول خاصة في المحيط العربي والإسلامي، وإقامة العلاقات السرية منها أو العلنية مع الحكومات والجماعات وغيرها من الاختصاصات التي يتداخل فيها الاستراتيجي مع السياسي والأمني.
ضمت الاستخبارات الإسرائيلية بمختلف أجهزتها ضباطاً وكوادر من مختلف التخصصات، بينها حملة شهادات و”خبراء” في الشؤون العربية والفلسطينية، ووصل بعضهم إلى معرفة عميقة بهذه المجالات، وحاولت استغلال هذه المعارف التي راكمت جزءا منها خلال فترة الاحتلال للمجتمع الفلسطيني ودول عربية في المحيط، في عمليات التقييم وبناء تقديرات الموقف، وتضاف إليه مراكز الأبحاث الاستراتيجية والسياسية المستقلة أو تلك التابعة للدولة أو الجامعات، التي تعمل منذ سنوات على تحليل المحيط والداخل وتصدير تحليلات مختلفة عن الواقع والمستقبل.
الفشل الاستخباري في معرفة نوايا حركة حماس، ثم منع هجوم “طوفان الأقصى”، لا يقف على عجز في قراءة المعلومات المتوفرة بين يدي أجهزة أمن واستخبارات الاحتلال، وخاصة جهاز الاستخبارات العسكرية المسؤول الأول عن توفير إنذار أمام المستوى السياسي عن نوايا الجهات المعادية شن هجوم أو عملية عسكرية، بل يتعلق بنسق عميق في تحليل وفهم وبناء تقديرات الموقف عن حركات المقاومة والقوى المعادية أو الحليفة لدولة الاحتلال في المنطقة.
معرفة العرب في خدمة الاستخبارات
كل فلسطيني خضع للتحقيق في مراكز مخابرات الاحتلال، أو الاستجوابات من قبل ضباط “الشاباك” المنتشرين على الحواجز والمعابر البرية بين فلسطين والخارج أو داخلها، يتذكر مشهد الضابط وهو يبتسم ابتسامة “صفراء” يحاول فيها إعطاء نفسه انطباع “الداهية” الذي يعرف المجتمع الفلسطيني، ويطلق الأمثال العربية بين كل جملة وأخرى.
تشتغل أجهزة استخبارات الاحتلال على تطوير قدرات كوادرها وضباطها وتزويدهم بمعارف تساعدهم في الحرب على المجتمع الفلسطيني، وبعض الضباط حاصل على شهادات عليا في الدراسات العربية والفلسطينية والإسلامية، واستفاد عدد منهم من عملهم الميداني في المناطق المحتلة في التعرف على أسماء العائلات والعشائر والطبائع الاجتماعية والمناطق والتقسيمات الجغرافية والمصالح الاقتصادية والنشطاء على المستوى السياسي والاجتماعي.
لا يمكن إنكار مراكمة أجهزة استخبارات الاحتلال على مدى هذه العقود لمعارف بعضها عميق، حول الفلسطينيين والعرب، وأن الطابع التشغيلي والتنظيمي لها كمؤسسات يتيح لها في الغالب الاستفادة من تراكم عمليات الهجوم والرصد والتحليل الاستخباري، لكن القراءة التاريخية لأحداث الصراع المستمر تشير إلى ثغرات منهجية في الاستدلالات و التحليل والرؤية العامة خاصة فيما يتعلق بحركات المقاومة وخاصة الإسلامية منها.
يحمل العقل السياسي والبحثي والاستخباري الإسرائيلي نظرة للعرب والفلسطينيين، لا تختلف في كثير من تفاصيلها عن نظرة بعض المستشرقين والاستشراق الأوروبي عن المنطقة، عن عادات العرب الدينية والاجتماعية وثقافتهم، هذه الرؤية الأحادية التي لا تلفت في كثير من الأبحاث والتقييمات إلى التعقيدات والتنوعات والتاريخ الكبير في المنطقة، والتنوع داخل التجمع والطائفة الواحدة، وإلى الشعوب العربية والإسلامية ككتلة حضارية عاشت بكل تنوعاتها في منطقة واحدة، ويعمل بشكل دائم على مشاريع لتفكيك المنطقة إلى أعراق وطوائف وأقليات لتسهيل السيطرة عليها.
هذه التركيبة المعقدة من معارف عن المنطقة والشعب الفلسطيني، مع الجهل بتفاصيل مهمة، تضاف إليه الرؤية النمطية، تجعل من تعامل أجهزة المخابرات في دولة الاحتلال مع المقاومة والحركات الإسلامية شديد التعقيد أيضاً، وينطلق في أحكامه من رؤية كل جهاز للصراع وشبكة المفاهيم التي رسخها الضباط الذين تعاقبوا عليه والإدارة العليا، بالإضافة للمسار السياسي والأمني الذي يراه الأصلح للتعامل مع الفلسطينيين.
منذ انطلاقة حماس والجهاد الإسلامي من جذور اجتماعية ودينية وفكرية راسخة في المجتمع الفلسطيني، وخلفيات أيديولوجية تتعلق بالامتدادات في المنطقة وخاصة في مصر، أصبح ملف الحركتين رئيسياً داخل أجهزة استخبارات الاحتلال، وفي تقارير تقدير الموقف، والاستراتيجيات للتعامل مع الساحة الفلسطينية. على المستوى الذهني والفكري تعامل أمن واستخبارات الاحتلال مع الظاهرة التي بدأت تكبر منذ الثمانينات ووصلت إلى تشكيل “تهديد استراتيجي” على الاحتلال، من منطلقات أمنية قمعية في المقام الأول، وتقييم لها ينطلق من الرؤية الغربية العامة للحركات الإسلامية خاصة التي تقاوم الاحتلال على أنها “تنظيمات إرهابية”، التعامل معها منطلق من أدوات ما تسميها “الحرب على الإرهاب”، ثم تأتي محاولات الاحتواء في المقام الثاني، دون الالتفات غالباً إلى السياق الاجتماعي والسياسي الكبير الذي انطلقت منه، والمسار التاريخي الذي ينتج هذه الحراكات في المجتمع الفلسطيني والعربي، وهو استمرار الاحتلال والاستعمار.
مراكز واستخبارات الاحتلال صاحبة إصدارات كثيفة عن الواقع الفلسطيني والعربي، وفي تحليل الشخصيات والأحزاب، بعضها يخرج إلى النور والآخر يبقى حبيس المداولات السرية، بالإضافة إلى الأعمال ذات الطابع الصحافي، ولا يمكن لأحد الادعاء أنه قادر على الاطلاع عليها كاملة وتكوين صورة عن كل عمل، لكن بالإمكان تقديم ملاحظة عامة هي أنها تحمل اتجاهات مختلفة بعضها يجنح إلى الموضوعية وتقديم قراءة مهمة، وفي بعضها المنحى التعميمي الذي يصل إلى استنتاجات غير منطقية، والآخر يغرق في بعض التفاصيل التي تقدم على الجوهر المهم في الملف المبحوث، وفي نسبة من الإصدارات يظهر الجهل حتى بأساسيات عن الشعب الفلسطيني والدول العربية وهذا يظهر كثيراً في الأعمال الصحفية.
هذه القراءة أو المقدمة لإعادة دراسة إصدارات الاحتلال عن العرب والفلسطينيين قد تساعد أيضاً في فهم نظرة العقل الاستخباري الإسرائيلي لحركات المقاومة وبينها حماس، هل طور نظرة تفصيلية لتنظيم شديد التعقيد والتداخل والارتباط بالمجتمع الفلسطيني وله علاقات في الإقليم؟ أم أنه محكوم لنظريات شديدة العمومية؟ هل يملك قدرة على دراسة تفاصيل حركات المقاومة بكل ما فيها من تنوع؟ هل يطغى البعد الأمني على الرؤية العامة التي ترى مجتمعاً ما زال يخضع للاحتلال والأفق السياسي منعدم أمامه؟
الضياع في “المفهوم”
في مداولاتها وتحقيقاتها والتقارير الصادرة عنها أشارت لجنة “أغرانات” التي شكلتها حكومة الاحتلال الإسرائيلي لفحص أسباب الفشل في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، أشارت إلى مصطلح رافق مجتمع الأمن الإسرائيلي خاصة جهاز الاستخبارات العسكرية، وهو “المفهوم”.
يشير “المفهوم” إلى التصورات وتقديرات الموقف التي بلورتها استخبارات الاحتلال، في الفترة ما قبل الهجوم المصري والسوري على المناطق المحتلة، بناء على تقييمات وبناء ذهني واستنتاجات توصل إليها من التحليل والتجسس وقراءة التصريحات المصرية والسورية وتقدير القوة لدى الطرفين والأداء في حرب 1967 ونقاط الضعف والقوة لديهما.
بلورت استخبارات الاحتلال قبل الحرب تقديراً للموقف يقوم على أن مصر وسوريا لن تشن حرباً على “إسرائيل”، قبل أن تتوفر لديها قدرات صاروخية عالية وسلاح جو يكسر التفوق الإسرائيلي، وأصبح هذا “المفهوم” هو الحاكم لتصوراتها، قبل أن تستيقظ على أصوات المدافع في الجبهة في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973.
سال حبر كثير منذ أكتوبر 73 حول أسباب الفشل الذي حملت مسؤوليته الأساسية لجهاز الاستخبارات العسكرية، وتبنت الرواية الرسمية أن الجهاز هو المسؤول الأول عن الإخفاق، وداست على الأصوات التي خرجت من المؤسسة وأشارت إلى مسؤولية تتحملها الحكومة ووزير الجيش حينها موشيه دايان.
وبين أكتوبر 1973 وأكتوبر 2023 بقي “المفهوم” هو الحاكم لتصورات استخبارات الاحتلال في مواجهة “الأعداء الجدد”، الذين تصدروا ساحة المواجهة معها، بعد دخول مصر والدول العربية في حالة “سلام” مع “إسرائيل”.
في السنوات الماضية خاصة بعد معركة “سيف القدس”، في أيار/ مايو 2021، تبنى جهاز الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال وبقية الأجهزة الأمنية والعسكرية تقدير موقف بشكل حاسم يقول إن حركة حماس تسعى إلى حالة من “الهدوء الطويل” في قطاع غزة، لصالح محاولة تحسين الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة المنهك بالحصار، والحصول على مقعد في أية تسوية مستقبلية في المنطقة، وعدم الدخول في مواجهة في المدى المنظور وحتى البعيد.
واعتقدت أجهزة استخبارات الاحتلال أن حماس وجهازها العسكري تعرضوا لــ”ضربة”، في معركة “سيف القدس”، دفعتهم إلى اختيار عدم الدخول إلى جانب حركة الجهاد الإسلامي في جولات القتال التي خاضتها في الشهور السابقة على انطلاق “طوفان الأقصى”.
الهزة التي ضربت أجهزة استخبارات الاحتلال والمستويات السياسية والعسكرية العليا فيه، بعد هجوم “طوفان الأقصى”، ونجاح خطة حماس وكتائب القسام في “الخداع الاستراتيجي”، دفعت نتنياهو والمحسوبين عليه لتسريب بعض الوثائق بين فترة وأخرى، لإحراج قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية وخاصة المسؤولين عن تقديرات الموقف، وإبعاد الاتهامات عن نفسه.
الوثائق التي سربها نتنياهو وتحدث مقربون منه عنها تشير إلى أن جهاز الاستخبارات العسكرية، و”الشاباك”، ومستويات أمنية وعسكرية أخرى جزمت له خلال الشهور ما قبل الحرب أن حماس لا تريد الحرب، وقد يكون من الأجدى بحث عقد اتفاق طويل الأمد معها.
ستكون السنوات المقبلة حافلة بالتسريبات ولجان التحقيق والشهادات والمقابلات مع الشخصيات التي كانت تقف على رأس أجهزة أمن واستخبارات الاحتلال، صباح يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، مع ما ستفصح عنه المقاومة من أسرار الهجوم ومراحل التحضير له و”الخداع الاستراتيجي” الذي أتقنته في صراع “الأدمغة”، ومع هذه العملية المستمرة من التحليل والبحث قد ينكشف لماذا عجزت الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية عن فهم العقل الحمساوي، لكن التحليل الحالي يشير إلى أنها بنت المفهوم الذي ثبت فشله دون الأخذ بالاعتبار التعقيدات السياسية والعسكرية والأيدلوجية التي تحملها حركة حماس وتبلورت معها في تاريخها الممتد منذ انطلاقتها مع أول أيام الانتفاضة الأولى.
نامت استخبارات الاحتلال على تقدير الموقف الذي يقول إن حماس لا تريد الحرب وجنحت إلى تسوية طويلة الأمد، ولم تلفت إلى طبيعة الشخصيات التي تقف على أجهزة الحركة السياسية أو العسكرية، وتفكيرها الذي يميل إلى مواجهة استراتيجية نوعية، وتجنب إلى حد بعيد المواجهات القصيرة في مراحل متقاربة، بالإضافة إلى البيئة الاجتماعية التي تعمل فيها وتعيش على فكرة المقاومة المستمرة والسعي إلى “إزالة إسرائيل” من الوجود.
رتبت حركة حماس عملية “خداع استراتيجي” لدولة الاحتلال ضللتها فيها وصدمتها في عملية “طوفان الأقصى”، عبر الإيحاء أنها اختارت “الهدوء” مقابل تحسين الوضع الاقتصادي القاسي في غزة، ورغم ذلك بقيت تحذر طوال الشهور السابقة على المعركة القوى الدولية والإقليمية من أن استمرار الحصار والاستيطان والهجوم “الصهيوني الديني” على المسجد الأقصى، قد يقود إلى انفجار واسع على مستوى المنطقة.
العودة إلى تصريحات قائد الحركة في غزة، يحيى السنوار، وقيادات أخرى على مستوى المكتب السياسي والأقاليم تشير إلى أن خيار تنظيم هجوم واسع على دولة الاحتلال يربك المعادلات التي حاولت “إسرائيل” والقوى التطبيعية في المنطقة إقامتها على صدر الفلسطيني لخنقه وقتل قضيته، وارد، إلا أن استخبارات الاحتلال اختارت تقدير موقف يقول إن حماس “مردوعة”.
التكنولوجيا: هل قتلت الإبداع؟
انصب غضب النقاد في دولة الاحتلال ومن المهتمين والباحثين في شؤون الاستخباراتية في تحليل أسباب الإخفاق الاستراتيجي لجهاز الاستخبارات العسكرية وبقية أجهزة أمن الاحتلال، في منع أو كشف هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، على المسار الذي دخلت فيه هذه الأجهزة منذ عقود وهو تفضيل واتخاذ الوسائل التكنولوجية ركيزة أساسية على حساب أدوات أخرى كانت الاستخبارات لها تاريخ فيها، مثل التحليل الاجتماعي والميداني.
تسوق دولة الاحتلال لنفسها في العالم بوصفها قاهرة ما تسميه “الإرهاب”، وأنها “واحة التكنولوجيا” خاصة في المجالين العسكري والاستخباري، وانطلقت منها نحو بناء علاقات مع دول وأجهزة على المستوى الإقليمي والدولي، ووصل التفاخر بالتفوق التكنولوجي على الأعداء العرب والفلسطينيين المحرومين لأسباب مختلفة من امتلاك التكنولوجيا المتقدمة، أن تعتقد أنها غير قابلة للاختراق أو التعرض لضربة استراتيجية نوعية.
داخل جهاز الاستخبارات العسكرية و”الشاباك” و”الموساد” وحدات تجسسية تمتلك قدرات تكنولوجية فائقة، ومع السنوات اتجه قادة هذه الأجهزة إلى التكيف مع فكرة أن ما لا تحله التكنولوجيا يحل بمزيد من التطور التكنولوجي، لكن الواقع قال إن قادة المقاومة وعلى رأسها كتائب القسام نجحت في ظروف بالغة التعقيد بالتعاون مع حلفائها في المنطقة، تطوير مناعة إلى حد بعيد تقلل من فارق القوة والتكنولوجيا في سياق “الحرب اللامتكافئة”.
أمام الاعتماد الفائق على التكنولوجيا في عمل الاستخبارات تراجعت أدوات أخرى تقوم على حزمة من فهم المجتمع، والأعداء، والميدان، ورغم أن أجهزة الاحتلال ادعت خلال شهور الحرب أنها امتلكت تصوراً عن خطط حماس لاقتحام مستوطنات “غلاف غزة” والسيطرة عليها، وأن أجهزة التنصت فيها كان لديها قدرات الاختراق، إلا أن الواقع يقول إن الحركة نجحت في عملية التضليل والخداع وفي تنفيذ العملية بالاعتماد على سلوك سياسي وأمني معقد، وأجهزة استخبارات طورتها رغم ظروفها الصعبة.
التركيبة الاجتماعية لأجهزة الاستخبارات في دولة الاحتلال غالباً من خلفية الطبقات النخبوية التي تمتلك الموارد لمنح أولادها قدرات علمية وتكنولوجية وغيرها للعمل في مواقع حساسة، مثل الأمن والمخابرات والتجسس و”السايبر” وغيرها، تضمن لهم بعد نهاية الخدمة العسكرية مواقع في شركات التكنولوجيا التي تعتبر ركيزة هامة في الاقتصاد الإسرائيلي.
لا تتوفر دراسات كافية عن طبيعة النظرة والعقل الذي تحمله هذه الطبقات للصراع مع الفلسطينيين، أو لحركة حماس، لكن التحليل الأولي يشير إلى أنها حملت معها طبيعتها الاجتماعية إلى العمل الاستخباري، خاصة لجهة التحليل والتقدير وبناء الموقف.
شهادة من الأماكن المغلقة
في دراسة صدرت خلال الحرب، قدم المتخصص في علم النفس عوفر غروزبرد الذي عمل مع الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال ملاحظات جوهرية تشير إلى جوانب لا تظهر عادة عن طبيعة التشكيل التنظيمي والكوادر في هذه الجهاز. وكشف في مقال على صحيفة “هآرتس” أن الجهاز خاصة في قسم الأبحاث من شبان صغار قادمين من خلفية اجتماعية متجانسة تعتقد غالباً نفس الأفكار.
وقال في معرض نقده للجهاز وفشله في عدة محطات بينها حرب 1973، وانتفاضة الأقصى، وفي الحروب على لبنان، وأخيراً “طوفان الأقصى” إن التفكير الإبداعي شبه منعدم وأن التراتبية التنظيمية شديدة الانضباط تمنع التفكير الحر خارج النسق المفروض، داخل المؤسسة، وهو ما يعرقل بلورة تصورات خارج المألوف أو تقرأ العدو من جوانب أخرى.
مع الوقت أصبح الاعتماد شبه المطلق هو على التحليل البياني الذي يعتمد على عمليات التجسس والتكنولوجيا الفائقة، وتقنيات الذكاء الصناعي، وأصبحت عمليات التحليل الاجتماعي والمعرفة بالأعداء عن قرب وتشغيل الموارد البشرية والتحليل الميداني في المرتبة الثانية.
هل تفوق العقل الاستخباري للمقاومة؟
وفي جانب آخر، فإن حركات المقاومة نجحت مع الوقت رغم ضراوة المعركة الأمنية والاستخباراتية، وافتقارها للموارد التي تملكها دولة الاحتلال، في الحفاظ على نمط متقدم إلى حد بعيد من العمل السري، حرم الاحتلال من بناء معلومات واضحة عن قدراتها ثم الوصول إلى تقدير موقف سليم لها، ورغم معرفة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بطبيعة تشكيلات المقاومة على المستوى التنظيمي ومجالات اهتمامها، إلا أن الجهود التي بذلتها مجموعات المقاومة طوال سنوات الصراع جعلت من الصعب التنبؤ بدقة بسلوكها أو قدراتها التفصيلية والعملانية.
ويمكن هنا الإشارة إلى التقدير الخاطئ الذي قدمته استخبارات الاحتلال لحكومة شمعون بيريز، في عدوان نيسان/ إبريل 1996، على لبنان، حينها قالت إن كميات الصواريخ التي يمتلكها حزب الله ستنفد خلال أيام وهو ما سيقود إلى وقف عمليات القصف تلقائياً، ويسجل انتصارًاً إسرائيلياً على الحزب، لكن ما حصل هو العكس واستمر في ضرب مستوطنات ومواقع الاحتلال وتوسع في المساحة الجغرافية المستهدفة حتى نهاية الحرب التي كتبت باتفاق سمح للمقاومة الاستمرار بتنفيذ العمليات ضد العسكريين مع حماية المدنيين في قرى الجنوب.
وقبل انطلاق معركة “سيف القدس”، في رمضان 2021، اعتقد جهاز الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال أن رد القسام على العدوان في المسجد الأقصى سيكون بإطلاق رشقات صاروخية على مستوطنات “غلاف غزة”، ومع ساعات عصر يوم الهجوم على المصلين كانت المفاجأة بضرب الكتائب لمدينة القدس المحتلة برشقة صاروخية.
وتتنوع الأمثلة على تجارب الفشل الاستخباري الإسرائيلي في فهم حركات المقاومة، في ظل واقع معقد تملك فيه دولة الاحتلال تكنولوجيا متقدمة وأجهزة ومراكز مختلفة، لا يمكن الاستهانة بها، لكن الانبهار التاريخي بقدراتها أدى إلى حرمان العرب والفلسطينيين على مستوى الجامعات والأفراد والباحثين من فرصة تفكيكها وفهمها كما هي، أجهزة لها تصورات قد تكون في أحيان مغلوطة وفي بعض الملفات لا تملك سوى رؤية تعميمية عن الواقع الفلسطيني والعربي.
في العصر الذي أصبحت المعلومات هي سمته الأساسية، تصبح ذات السمة هي إشكاليته الأساسية خاصة أمام أجهزة الاستخبارات، التي قد يشكل تدفق البيانات عليها مصدر تشويش يقودها إلى فشل قد يصل إلى رتبة “الاستراتيجي”، وهذا الواقع يعيشه مجتمع المخابرات في دولة الاحتلال الذي قد يبرع في الاستخبارات التكتيكية التي تتعلق بإحباط عمليات أو اعتقال نشطاء أو اغتيالات، لكنه يتعثر دائماً على مستوى استراتيجي في تقدير الموقف السليم، وقد تكون أهم حكمة في عمل الاستخبارات هي: التحديق باستمرار إلى النقطة المهمة في البحر المتلاطم.