اخبار فلسطين

لماذا يهاجم المستوطنون وجيش الاحتلال بعضهم بعضا؟ 

ترجمة خاصة قدس الإخبارية: لا يمكن النظر إلى إحراق الموقع العسكريالأمني التابع لجيش الاحتلال بالقرب من مستوطنة بيت إيل، الليلة الماضية، على يد مجموعة من المستوطنين، كحدث جنائي أو أمني عابر. بل هو تجلٍ خطير لشروخ عميقة تتسع في قلب الجمهور الإسرائيلي، إذ يكشف عن التناقض القائم بين الصهيونية الدينية المشيحانية وبين مؤسسات الكيان، وفي مقدمتها جيش الاحتلال. هذا الجيش، الذي يُفترض أنه أنشئ لحماية الكيان والمستوطنين في الضفة الغربية، وجد نفسه هذه المرة هدفًا لهجوم من داخل معسكره الأيديولوجي نفسه.

وفي بيانه الرسمي، أدان جيش الاحتلال هذه الجريمة، التي أسفرت عن أضرار جسيمة في أنظمة تكنولوجية متقدمة يفترض أنها صممت لحماية المستوطنات ومواجهة عمليات المقاومة الفلسطينية. أما المراسل العسكري لإذاعة جيش الاحتلال، دورون كدوش، فقد وصف منفذي الهجوم بـ”الإرهابيين اليهود”، مؤكداً أن ما فعلوه الليلة تجاوز في خطورته ما لم تتمكن من تحقيقه الصواريخ الإيرانية أو هجمات المقاومة الفلسطينية. هذا الحدث، الذي شمل إحراق مركبات عسكرية وكتابة شعارات تحريضية على جدران الموقع، يفضح التناقض البنيوي داخل هذا الشتات المسمى “مجتمع إسرائيلي”.

منذ نشأتها، اعتبرت تيارات الصهيونية الدينية، التي يتأثر بأفكارها غالبية مستوطني الضفة الغربية، أن “الدولة” ليست غاية بحد ذاتها، بل مجرد محطة ضمن مسار الخلاص المزعوم وبناء “مملكة إسرائيل” التوراتية. وفق هذه الرؤية، الدولة وجيشها ليسا إلا أدوات بيد “الرب” لتحقيق السيادة اليهودية الكاملة على كامل أرض فلسطين التاريخية. فمثلا حين تخلي الأذرع العسكرية للاحتلال بؤرة استيطانية، يتحول الجيش و”أجهزة الدولة”” في نظر هؤلاء المستوطنين من شركاء إلى أعداء، ومن أدوات للخلاص إلى معرقلين للمشروع الإلهي كما يتصورونه.

خلال العقود الثلاثة الماضية، شهد جيش الاحتلال نفسه زيادة ملحوظة في نسبة الضباط والجنود المنتمين إلى التيار الديني الصهيوني، وخاصة في الوحدات القتالية والقيادية. وُلدت هذه الظاهرة من خليط بين القناعة الدينية بوجوب القتال “لتحرير الأرض”، وبين السعي لتشكيل هوية الجيش وصبغها بالطابع الديني القومي. لكن هذه السيطرة الجزئية على الجيش تخلق في الوقت ذاته أزمة عميقة: فحين يُطلب من هؤلاء الضباط أو الجنود تنفيذ أوامر مثل إخلاء بؤر استيطانية، يقفون أمام صدام قيمي بين الولاء للجيش وبين الولاء للمشروع الديني الذي نشأوا عليه.

وتُمثل عصابات “فتية التلال” النموذج الأكثر تطرفًا لهذا التناقض. هؤلاء المستوطنين لا يعترفون بشرعية “الدولة” ولا بسلطة جيشها إذا ما عارضت مشاريعهم التوسعية. هم يرون في كل قيد على الاستيطان أو أي محاولة لضبط سلوكهم تهديدًا للمشروع التوراتي، ما يبرر بنظرهم التمرد على الجيش وحتى استخدام العنف ضده. 

ولا يمكن قراءة هذه الظواهر بمعزل عن صمت أو تواطؤ قادة اليمين الاستيطاني في حكومة الاحتلال، أمثال بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. هؤلاء القادة يعتمدون على أصوات هذه القواعد المتطرفة، ولذا يمتنعون عن إدانة واضحة وصريحة لما يحدث، بل وفي أحيان كثيرة يبررون أفعالهم أو يتحدثون عن “أخطاء فردية” أو “إحباط مشروع”. 

ويرى باحثون وكتاب إسرائيليون أن المساس بالبنى الأمنية التي وضعها جيش الاحتلال لحماية المستوطنات لا يُضعف فقط قدرته على مواجهة المقاومة الفلسطينية أو أية تهديدات خارجية، بل يوجه رسالة إلى أعدائه بأن الكيان في حالة تصدع داخلي خطير. كما يضطر الجيش إلى تحويل جزء من جهده وموارده للتعامل مع التهديدات الداخلية بدل التصدي لما يسميه “الخطر الخارجي”، ما يؤدي إلى استنزافه على أكثر من جبهة. إضافة إلى ذلك، تتسرب هذه الأزمة إلى داخل صفوف الجيش نفسه. عندما يُطلب من جندي ينتمي إلى الصهيونية الدينية تفكيك بؤرة استيطانية، يواجه صراع ولاء قد يقوده إلى العصيان أو حتى الانشقاق الفكري أو العملي عن جيش الاحتلال.

في المحصلة، تكشف هذه الأحداث المتكررة عن مأزق وجودي عميق في بنية كيان الاحتلال: إلى أي مدى تستطيع الدولة مواصلة التظاهر بأن مشروعها الاستيطاني يمكن أن يتعايش مع حكم القانون، ومع محاولة الحفاظ على جيش منضبط يحمي الجميع؟ وإلى متى يمكنها التهرب من مواجهة حقيقة أن هناك في قلب مشروعها الاستيطاني مجموعات باتت ترى في “الدولة” ذاتها عدوًا لمشروعها؟.

ما جرى في بيت إيل ليس إلا عرضًا لمشكلة أعمق بكثير: التناقض البنيوي بين هوية الدولة الإسرائيلية ككيان استعماري يحاول الحفاظ على مظهر القانون والنظام، وبين تيار استيطاني ديني يرى أن القانون الحقيقي هو المنظور الديني القومي. وكلما استمرت المستويات الأمنية والسياسية لدى الاحتلال في تجاهل هذا التناقض، زاد خطر الانفجار الداخلي الذي سيقوض ما تبقى من مشروعها الاستيطاني ومن جيشها الذي طالما اعتبرته أداة السيادة والسيطرة.