رحلة البحث عن الذات وسط الأصوات المتداخلة

في عالمٍ تتعدد فيه الأصوات، وتتزاحم فيه التوقعات، تعيش المرأة كأنها واقفة أمام مجموعة من المرايا، كل واحدة منها تعكس صورة مختلفة لها، صورة ليست دائمًا صادقة، بل مشوهة أحيانًا، ملتبسة في أحيان أخرى. وفي هذه الرحلة بين المرايا، تبدأ المرأة في طرح الأسئلة الكبرى: من أنا؟ من أريد أن أكون؟ وما الذي يعكس حقيقتي وسط كل هذا الضجيج؟
المرآة الأولى: صوت المجتمع “النجاح” كما يُراد له أن يكون
حين تنظر المرأة في أولى مراياها، ترى انعكاسًا لما يتوقعه المجتمع منها: امرأة ناجحة، مثالية، قوية، متفانية، وأنيقة دومًا. يُرسم لها قالب جاهز لما يجب أن تكونه، وتُقاس وفقه، لا بما هي عليه فعلًا.
يُقال لها إن النجاح يعني أن تجمع بين عمل متألق، وأمومة مثالية، ومظهر لا تشوبه شائبة، وعلاقة عاطفية مستقرة. لكنها لا تُسأل أبدًا إن كانت تختار كل ذلك بحرية، أم أنها فقط تحاول النجاة من أحكام الآخرين. هكذا تتحول الصورة النمطية إلى سجن أنيق، يضيّق الخناق كلما حاولت أن تكون على سجيتها.
المرآة الثانية: المرأة العاملة من التحقّق إلى الإنهاك الصامت
في المرآة الثانية، ترى المرأة نفسها في مشهد لا يخلو من الفخر والإنهاك معًا. تقود الاجتماعات بثقة، تتخذ قرارات مصيرية، توازن بين مهام متزاحمة، وتثبت نفسها في عالمٍ لم يُصمَّم أصلًا ليشملها.
لكن خلف هذا الإنجاز، يقبع تعبٌ مسكوت عنه، وتوق دفين إلى الاعتراف بالحاجة للراحة. فالمرأة العاملة ليست بطلة خارقة، رغم ما يُفرض عليها من سرديات تمكين لا تعترف بالتعقيد. كثير منهن لم يخترن العمل شغفًا فقط، بل بحثًا عن أمان مادي، أو هروبًا من التبعية، أو حتى محاولة لاكتشاف ذواتهن الضائعة.
ومع كل هذا، يلاحقهن شعور خفي بالذنب، كأن النجاح في الخارج يجب أن يُعاقَب بتقصير في الداخل. هل يمكن أن تكون كافية في كل الأدوار دون أن تدفع الثمن بصمت؟
هل التحقّق المهني يكفي؟
ورغم النجاح، يلوح في الأفق سؤال وجودي: هل أنا ما أفعله؟ هل ما أنجزه يكفي لتعريف من أكون؟ أحيانًا تكون الوظيفة مهربًا نبيلًا من الأسئلة الأعمق، لكن وحده الاتصال بالمعنى الداخلي للعمل هو ما يصنع الفرق الحقيقي.
حين تتحرر المرأة من ضغط الأداء، وتبدأ في السؤال: “ما الذي يمنحني الشعور بالحياة؟”، تبدأ النقلة من السعي إلى الوعي. فتضع حدودًا تحميها، وتعيد تعريف النجاح وفقًا لمقاييسها الخاصة، لا وفقًا لمقاييس السوق أو المجتمع.
المرآة الثالثة: الأمومة التكثيف والتشظي في آنٍ واحد
حين تصبح المرأة أمًا، تنكسر كل المرايا وتُعاد صياغتها من جديد. الزمن يختلف، الأولويات تتبدل، والجسد يتغير. فجأة لم تعد حياتها ملكًا لها فقط، بل لطفلٍ يحتاجها بكل ما فيها.
تكتشف المرأة في الأمومة أبعادًا لم تكن تدري بوجودها: طاقة حب خارقة، وصبر لا حدود له، لكنها تكتشف أيضًا مناطق مظلمة: شعور بالضياع، حنين إلى الذات القديمة، وشعور بالذنب إن هي تمنت لحظة صمت.
الأمومة ليست مجرد دور، بل تحوّل جوهري في الكيان. لكنها تُختزل أحيانًا في صورٍ ترويجية مثالية، تُنكر على الأم حقها في التعب، أو الشك، أو حتى الغضب. الصراع الحقيقي ليس مع الأمومة، بل مع الصورة التي تُفرض على الأم لتبدو دائمًا قوية، متزنة، ومتفانية.
المرآة الرابعة: الجسد المساحة المُراقَبة
جسد المرأة لم يكن يومًا شأنًا خاصًا بها وحدها. منذ نعومة أظفارها، تتعلم كيف يُنظر إلى جسدها، كيف يُقيَّم، ويُراقب، ويُحكم عليه. تُطلب منها النحافة دون جهد، والأنوثة دون ابتذال، والجمال دون تصنّع، والشباب الدائم رغم عبء الزمن.
ومع كل مرحلة في حياتها من المراهقة إلى الحمل والولادة، ومن العشق إلى الشيخوخة يتغير جسدها، لكنه يُطالَب بأن يبقى ثابتًا، كأن لا يحق له أن يكون مرآة لحياتها المتغيرة.
التحرر الحقيقي يبدأ حين تسكن المرأة جسدها لا كمجرد صورة، بل كمساحة للوجود، كأرشيف حيّ لتجربتها، بكل ما فيها من ندوب وقوة وتحوّلات.
المرآة الخامسة: الصوت من التخفّي إلى الظهور
وأخيرًا، تأتي المرآة التي لا تعكس مظهرًا، بل جوهرًا: الصوت. ذلك الصوت الذي طالما طُلب منها أن تخفضه، أن تلطفه، أن تخفي به اعتراضها. لكنه في الأعماق لا يصمت، بل ينتظر لحظة الخروج.
تبدأ المرأة بالتحوّل حين تتوقف عن التكيّف مع كل ما حولها، وتبدأ في الظهور كما هي. حين تكتب لا لتُرضي، بل لتُعلِن. حين تتحدث لا لتُقنع، بل لتقول “أنا هنا”. إن الإصغاء للصوت الداخلي هو أولى خطوات الشفاء، والظهور هو أولى علامات التحرر.
إعادة ترتيب المرايا: رحلة العودة إلى الذات
ليست كل المرايا كاذبة، لكن كثيرًا منها مشوّه. وعندما تبدأ المرأة بإعادة ترتيب هذه المرايا حين تختار ما يعكس جوهرها، وتكسر ما يُشتّتها تبدأ في رؤية ذاتها الحقيقية.
امرأة ليست ظلًا لتوقعات، ولا انعكاسًا لأي أحد، بل كيانٌ حيّ يتغير، ينمو، ويقرر من يكون.
هي لا تبحث عن نسخة مثالية من نفسها، بل عن نسخة صادقة.
وتلك هي البداية الحقيقية.