تكنولوجيا

ابتهال أبو سعد تكشف دور مايكروسوفت في دعم جيش الاحتلال

في عالم يصمّ آذانه عن الحقيقة، وقفت شابة عربية وحدها في وجه آلة عملاقة، لتقول ما عجز كثيرون عن قوله:

“أنتم تجار حرب. كيف تحتفلون بينما تُستخدم تقنياتكم لقتل الأطفال؟”

بهذه الكلمات، دوّت صرخة المهندسة المغربية ابتهال أبو سعد في قاعة احتفال الذكرى الخمسين لتأسيس شركة مايكروسوفت، لتقطع خطاب المدير التنفيذي لقسم الذكاء الاصطناعي، مصطفى سليمان، وتضع الشركة في مواجهة أخلاقية أمام العالم بأسره. 

لحظة الشجاعة: شاهد بالفيديو: تداولت وسائل التواصل الاجتماعي هذه اللحظة بكثافة، واعتبرها كثيرون نقطة تحوّل في النقاش حول مسؤولية كبرى شركات التكنولوجيا

كان مصطفى سليمان يلقي كلمته حين قاطعته ابتهال، متهمةً مايكروسوفت بالتربح من الحرب، ومحمّلة إياه مسؤولية أخلاقية مباشرة. سليمان، بريطاني من أصل سوري، وُلد في لندن عام 1984، وهو من أبرز الأسماء في عالم الذكاء الاصطناعي، شارك في تأسيس شركة “ديب مايند” التي استحوذت عليها جوجل لاحقًا، ثم انضم إلى مايكروسوفت في مارس 2024 كمدير تنفيذي لقطاع الذكاء الاصطناعي، ويقود تطوير منتجات مثل “كوبايلوت” ودمجها في تجارب المستخدمين.

صرخت ابتهال قائلة:

“مصطفى, عارٌ عليك. أنت تزعم أنك تهتم باستخدام الذكاء الاصطناعي للخير، لكن مايكروسوفت تبيع أسلحة ذكاء اصطناعي للجيش الإسرائيلي. خمسون ألف إنسان قُتلوا ومايكروسوفت تمكّن هذه الإبادة في منطقتنا”.

ثم ألقت بالكوفية الفلسطينية على خشبة المسرح، في لحظة رمزية جابت العالم. أُخرجت من القاعة وسط دهشة الحضور، بينما اكتفى سليمان بالقول:

“شكراً على احتجاجك، لقد سمعتك”.

ابتهال أبو سعد أثناء مقاطعتها لمصطفى سليمان وإخراجها من القاعة.

لاحقًا، قاطعت موظفة أخرى تُدعى فانيا أغراوال جزءًا آخر من الحفل، أثناء ظهور بيل غيتس وستيف بالمر وساتيا ناديلا سويًا – وهو أول ظهور علني مشترك لثلاثة من رؤساء مايكروسوفت منذ عام 2014. وتكرر المشهد الاحتجاجي، بينما كانت فعاليات الحدث تُبث مباشرة على الهواء.

رؤساء مايكروسوفت السابقون غيتس (يسار) وبالمر (وسط) والحالي ناديلا في أول تجمع لهم منذ عام 2014 (رويترز)

في فبراير الماضي، طُرد خمسة موظفين من اجتماع داخلي مع ناديلا بعد احتجاجهم على العقود مع إسرائيل. لكن احتجاج ابتهال كان علنيًا، مباشرًا، ومؤثرًا، في لحظة رمزية حضر فيها الماضي والحاضر والمستقبل التقني للشركة.

وقد أكدت ابتهال أنها لم تتلقَّ أي رد من الشركة، لكنها فقدت إمكانية الوصول إلى حساباتها بعد الحادث، في خطوة اعتبرها كثيرون فصلًا غير مباشر من العمل.

ما فعلته ابتهال لم يكن مجرد مقاطعة، بل كان فعلًا مدروسًا ومتكاملًا. فبعد دقائق من إخراجها من القاعة، أرسلت بريدًا إلكترونيًا إلى آلاف الموظفين داخل مايكروسوفت عبر القوائم البريدية الداخلية، شرحت فيه خلفيات ما قامت به:

“أنا ابتهال، مهندسة برمجيات في قسم الذكاء الاصطناعي منذ ثلاث سنوات ونصف. تحدثت اليوم لأنني علمت أن عملي يساهم في إبادة شعبي في فلسطين. لم أجد خيارًا أخلاقيًا آخر. لقد رأيت كيف سعت الشركة لإسكات أي معارضة، وفصلت زملاء لمجرد إقامتهم وقفة.

عملنا في مايكروسوفت يُستخدم في مراقبة المدنيين، تسجيل مكالماتهم، تحليل تحركاتهم، واستهدافهم. نشارك بشكل مباشر في بناء بنك أهداف الجيش الإسرائيلي وسجل السكان الفلسطيني، ونساعد في جعل قصف غزة أكثر دقة ودموية.

بحسب تحقيق وكالة أسوشيتد برس، ارتفع استخدام إسرائيل لتقنيات مايكروسوفت بنسبة 200٪ بعد هجوم 7 أكتوبر. كما تضاعفت كمية البيانات المخزنة على Azure إلى أكثر من 13.6 بيتابايت.

هل هذا هو الإرث الذي نريد تركه؟ هل يمكننا أن نخبر أطفالنا أننا عملنا على أسلحة ذكاء اصطناعي تُستخدم في الإبادة؟ الصمت تواطؤ.

مقتطف من رسالة إلكترونية بعثتها ابتهال أبو سعد إلى زملائها في مايكروسوفت بعد الاحتجاج، وفقًا لما نقله موقع “The Verge”.

من هي ابتهال أبو سعد؟ من الرباط إلى مايكروسوفت

وُلدت ابتهال أبو سعد عام 1999 في العاصمة المغربية الرباط. منذ سنواتها الأولى، برزت شغفها العميق بالتكنولوجيا، لا كغاية مهنية فقط، بل كوسيلة لتغيير العالم. في صيف 2016، التحقت ببرنامج TechGirls المدعوم من وزارة الخارجية الأمريكية، وزارت فيه مختبرات ومراكز تقنية في الولايات المتحدة، لتعود بعين جديدة على إمكانات التكنولوجيا وأبعادها الإنسانية.

لقطات للمغربية ابتهال أبو سعد من مؤتمر ميكروسوفت

بعد حصولها على شهادة الثانوية من ثانوية مولاي يوسف، نالت منحة مرموقة للدراسة في جامعة هارفارد، حيث تخصصت في علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي. هناك، شاركت في مبادرات عديدة لدعم التعليم الرقمي وتمكين الفتيات في مجتمعاتهن من تعلّم البرمجة. كما شاركت في مشاريع تقنية لخدمة اللاجئين، وشاركت في تطوير منصة رقمية لحفظ السجلات الطبية للمشردين والنازحين.

في عام 2022، انضمت إلى مايكروسوفت كمهندسة برمجيات ضمن فريق الذكاء الاصطناعي، لتعمل على خدمات Microsoft Azure، وبالأخص في سيناريوهات النسخ الصوتي والتحليل البياني. كانت ترى في عملها فرصة لتقديم أدوات ذكاء اصطناعي تخدم الإنسانية، في مجالات الترجمة، الإتاحة، والعدالة الرقمية.

لكن كل هذا تغير عندما علمت أن هذه التقنيات تُستخدم من قبل الجيش الإسرائيلي في عمليات المراقبة والتجسس والاستهداف. بالنسبة لها، لم يعد الأمر مجرد مشروع تقني، بل قضية أخلاقية. فاختارت أن تتحوّل من صمت البرمجيات إلى صرخة الضمير.

غزة: حيث تتحول الخوارزميات إلى أدوات للقتل

غزة ليست مجرد مدينة محاصرة، بل أصبحت جرحًا مفتوحًا في ضمير الإنسانية. منذ السابع من أكتوبر 2023، تحولت هذه البقعة الصغيرة من الأرض إلى مسرح لجريمة إبادة جماعية موثقة بالصوت والصورة. وفق وزارة الصحة الفلسطينية، تخطى عدد الشهداء 50,000، بينما تشير تقديرات رسمية في القطاع إلى أن العدد الحقيقي يفوق 61,700 نتيجة آلاف الجثث التي لا تزال تحت الأنقاض.

ليس الحديث عن أرقام فقط، بل عن أطفال محترقين تحت الركام، أمهات تنتحب في مشاهد تفطر القلوب، أطباء قُتلوا داخل غرف العمليات، ومسعفين أُعدموا ميدانيًا ودفنوا في الرمال، كما كشفت تقارير ميدانية. لا كهرباء، لا ماء، لا اتصالات، فقط موت منظم تُديره خوارزميات باردة.

وهنا يكمن التحوّل المرعب في طبيعة الحرب: لم يعد العقل المدبر بشريًا فقط، بل بات خوارزمية. ذكاء اصطناعي، مُطور في مختبرات شركات كبرى مثل مايكروسوفت وOpenAI وMeta، يُستخدم الآن ضمن ما يُعرف باسم “جيش الخوارزميات“، لتحديد أهداف القصف، ورسم خريطة القتل.

تحقيق نشرته وكالة أسوشيتد برس أكد أن إسرائيل تعتمد على نماذج الذكاء الاصطناعي التي طورتها مايكروسوفت في اختيار أهدافها في غزة ولبنان. أحد ضباط الاستخبارات الإسرائيليين صرّح بأن الجيش يستخدم Azure لتخزين بيانات ضخمة وتحليلها، تتضمن تسجيلات لمكالمات، رسائل، وتحركات، يتم نسخها وترجمتها آليًا، ثم تُدمج مع أنظمة التهديف العسكرية.

بعبارة أخرى: خوارزمية تقرر من يبقى حيًا ومن يُمحى من الوجود.

ألم هذه الحقيقة هو ما دفع ابتهال أبو سعد للحديث، للاحتجاج، وللكشف. لم تستطع أن تكون جزءًا من هذا النظام، ولو بالصمت. لقد أدركت أن البرمجيات التي تكتبها ليست محايدة، بل تتحوّل، حين تُسلَّم للأقوياء بلا شروط، إلى سلاح.

ألمُ هذه الحقيقة كان دافع ابتهال لتكسر جدار الصمت.

كيف تدعم مايكروسوفت آلة الحرب الإسرائيلية؟

في الوقت الذي تؤكد فيه مايكروسوفت على “أخلاقيات الذكاء الاصطناعي” و”الالتزام بحقوق الإنسان”، تكشف الوثائق والتقارير الاستقصائية أن الشركة منخرطة بعمق في دعم المجهود الحربي الإسرائيلي، من خلال العقود المباشرة، والبنية التحتية السحابية، وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي، بل وحتى تقديم الدعم التشغيلي والتقني للجيش.

1. عقد ضخم مع وزارة الدفاع الإسرائيلية

بحسب تحقيق موسّع نشرته وكالة أسوشيتد برس في فبراير 2025، وقعت مايكروسوفت عقدًا مباشرًا مع وزارة الدفاع الإسرائيلية بقيمة 133 مليون دولار. الهدف المعلن هو “تطوير وتوسيع البنية التحتية السحابية والاستخباراتية” باستخدام منصة Microsoft Azure.

تضمنت الصفقة توفير سعة تخزين ضخمة للجيش، حيث كشفت الوكالة أن البيانات المخزنة على خوادم Azure الخاصة بإسرائيل تضاعفت من أكتوبر 2023 حتى يوليو 2024 لتصل إلى 13.6 بيتابايت، أي ما يعادل أكثر من 3 ملايين ساعة من الفيديو عالي الجودة. هذه البيانات تشمل:

  • ملفات استخباراتية.
  • تسجيلات صوتية ومكالمات هاتفية.
  • بيانات تحركات سكان غزة.
  • صور ومقاطع من طائرات بدون طيار.

كل ذلك يُستخدم لتغذية أنظمة تحليل واستهداف تُدار بواسطة الذكاء الاصطناعي.

2. تشغيل “بنك الأهداف” الإسرائيلي بالذكاء الاصطناعي

وفقًا لتحقيق نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، فإن مايكروسوفت تلعب دورًا رئيسيًا في تطوير وتشغيل أدوات تحليل بياني تستند إلى الذكاء الاصطناعي تُستخدم ضمن منظومة تُعرف باسم “بنك الأهداف”، وهي قاعدة بيانات ديناميكية تُحدث لحظيًا.

تعتمد المنظومة على مصادر متعددة:

  • تنصّت على المكالمات الهاتفية.
  • مراقبة الرسائل النصية وتطبيقات التواصل.
  • تحليل البيانات الحية من الأقمار الصناعية والطائرات.

ثم يقوم الذكاء الاصطناعي بترشيح الأهداف البشرية والعسكرية، والتي تُرسل مباشرة إلى وحدات القصف الجوي والبري. المثير للقلق أن هذه التقنية لا تضمن التحقق البشري الكامل قبل التنفيذ، ما يُفسر العديد من الضربات الخاطئة التي استهدفت مدنيين.

3. أدوات مراقبة وتجسس على المدنيين

ذكرت ابتهال في رسالتها الداخلية أن مايكروسوفت، من خلال تقنيات النسخ الصوتي والترجمة الآلية، تُمكّن الجيش الإسرائيلي من مراقبة المدنيين الفلسطينيين بشكل واسع.

بحسب أحد ضباط الاستخبارات الذين تحدثوا إلى أسوشيتد برس، يتم تجميع مكالمات واتصالات السكان وتحليلها عبر خوارزميات التعرف على الأنماط، لتحديد احتمالات التهديد أو الحركة. تشمل عمليات الرصد:

  • مكالمات الأطباء وعمال الإغاثة.
  • رسائل الطوارئ والمساعدات.
  • حتى محادثات الصحفيين المحليين والدوليين.

هذه الممارسات تمثل انتهاكًا واضحًا لاتفاقيات جنيف، ولقواعد الحماية للمدنيين في مناطق النزاع، وخصوصية الأفراد.

4. دعم تقني مباشر للوحدات العسكرية

توضح وثائق حصلت عليها صحيفة الغارديان أن مايكروسوفت لا تكتفي ببيع المنتجات، بل تقدم أيضًا استشارات تقنية ودعمًا مباشرًا للوحدات القتالية في الجيش الإسرائيلي، وبخاصة:

  • وحدات النخبة في سلاح الجو.
  • القوات الخاصة في البحرية.
  • القيادة المركزية للمخابرات العسكرية.

في ذروة الهجمات على غزة، سجلت مايكروسوفت ارتفاعًا بنسبة 200٪ في استخدام أدواتها من قبل الجهات العسكرية الإسرائيلية، ما يؤكد أن تقنياتها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من العمليات اليومية في الحرب.

كما ظهر اسم مايكروسوفت ضمن قائمة أولويات المقاطعة لحملة BDS، التي اعتبرت الشركة شريكًا مباشرًا في تكنولوجيا الإبادة الجماعية، إلى جانب شركات مثل Google وAmazon.

إن هذه التفاصيل لا تترك مجالًا للشك: مايكروسوفت ليست مجرد مزوّد تقني، بل لاعب محوري في الحرب الدائرة، ومساهم مباشر في تطوير الأدوات التي تُستهدف بها حياة الأبرياء.

في وجه الجبروت: ابتهال أبو سعد وتاريخ لا يُنسى

ما فعلته ابتهال أبو سعد لا يُقاس بزمن الاحتجاج ذاته، بل بالثمن الذي قررت أن تدفعه لتكون على الجانب الصحيح من التاريخ. في وقت صمت فيه كبار التنفيذيين، وارتبك فيه القادة السياسيون، تقدّمت ابتهال وحدها لتفضح الحقيقة من داخل أسوار واحدة من أكبر شركات التكنولوجيا في العالم.

هي لم تبحث عن بطولة، بل عن ضمير. لم تطلب شهرة، بل حاولت إنقاذ ما تبقى من قيم العدالة في صناعة تحكم العالم.

في زمن تلوّثت فيه المصطلحات وامتزجت فيه التكنولوجيا بالموت، رفعت ابتهال صوتها عاليًا لتقول: لا. لا للقتل باسم الخوارزميات. لا للتربّح من معاناة المدنيين. لا لصناعة مستقبلٍ مغموس بدماء الأطفال.

ورغم كل ما خسرته — وظيفتها، حساباتها، استقرارها المهني — ربحت شيئًا لا يمكن لأي شركة أن تنتزعه: الكرامة.

اليوم، اسم ابتهال أبو سعد يُكتب في السجلات التي لا تُمحى: سجلات من تكلّموا عندما ساد الصمت. من وقفوا حين جلس الجميع. من قرروا أن الإنسانية ليست شعارًا في مؤتمر، بل موقف في لحظة صدق.

هذه ليست فقط قصة موظفة تمردت على مؤسستها. هذه قصة جيل عربي جديد بدأ يفهم أن الكود الذي نكتبه، والقرار الذي نتخذه، قد يكون فرقًا بين حياة وموت.

فهل نكون على قدر هذه اللحظة؟ أم نسمح للتاريخ أن يمر من أمامنا ونحن مكتفون بالصمت؟

?xml>