تكنولوجيا

تقنية الهولوجرام | هل يُمكن أن تنقذ حيوانات السيرك؟

في قلب أوروبا، وتحديدًا في ألمانيا، هناك قصة غير عادية بدأت تكتب فصولها منذ سنوات، قصة عن تحول جذري في عالم السيرك، حيث اختفى فيها صوت الخطوات الثقيلة للحيوانات الحقيقية، وحلّت مكانها أضواء سحرية تنبض بالحياة، تروي حكايات من نوع جديد. هذه القصة هي قصة سيرك رونكالي، الذي قرر أن يودع الحيوانات الحقيقية في عروضه ويستبدلها بتقنية الهولوجرام الحديثة، ليبدأ حقبة جديدة من الترفيه الأخلاقي والتكنولوجي.

كيف تعمل تقنية الهولوجرام؟

تعتمد على تسجيل وتمثيل كامل المعلومات الضوئية المنعكسة عن جسم معين باستخدام شعاع ليزر يُقسم إلى شعاعين: شعاع مرجعي وشعاع ينعكس عن الجسم، ثم يتداخلان على سطح حساس للضوء لتكوين صورة ثلاثية الأبعاد تظهر مجسمة أمام العين البشرية.

لماذا الهولوجرام؟

في عالم السيرك التقليدي، لطالما كانت الحيوانات الحقيقية نجوم العرض، من الفيلة العملاقة التي تؤدي حركات بهلوانية، إلى الخيول التي تجري في الحلبة، وحتى القرود التي ترقص وتلعب. لكن خلف هذه العروض الساحرة، كانت هناك معاناة حقيقية للحيوانات. فقد تعرضت الحيوانات لساعات طويلة من التدريب القاسي، ووسائل تأديب مؤلمة مثل السوط والأغلال، بالإضافة إلى ظروف نقل سيئة وأماكن ضيقة تحرمها من حريتها وراحتها.

السمعة السيئة لمعاملة السيرك للحيوانات

في ، سُجلت فيديوهات سرية تظهر مدير رعاية الحيوانات وهو يصرخ ويضرب الفيلة الآسيوية المهددة بالانقراض، مستخدمًا خُطاف البولهوك بطريقة قاسية، بالإضافة إلى استخدام جهاز حرق لإزالة شعر الفيلة، وحبس الحيوانات في أقفاص ضيقة مما سبب لهم اضطرابات نفسية.

قصة “آن” آخر فيل سيرك في بريطانيا، حيث ثبت أن مالك السيرك كان يعذبها، مما دفع السلطات لإدانة المسؤول عن سوء معاملتها، وأدى ذلك إلى تشديد القوانين ضد استخدام الحيوانات في السيرك هناك.

حالة “بيولا” الفيلة التي توفيت بعد معاناة طويلة من أمراض وألم في أقدامها، وكانت تعيش في الأسر والتقييد معظم حياتها، وقد وثق تجاوزات كثيرة من أصحابها تجاه رعايتها.

في أمريكا الجنوبية، نشطاء مثل جان كريمر وتيم فيليبس قضوا سنوات في جمع أدلة سرية على تعذيب الحيوانات في السيركات، حيث صُور ضرب الحيوانات، تعذيبها، وحتى حرقها، مما أدى إلى صدور قوانين تحظر استخدام الحيوانات البرية في السيرك في أكثر من 20 دولة.

ومع تزايد الوعي العالمي بقضية حقوق الحيوان، بدأ الجمهور يبتعد عن عروض السيرك التي تستخدم الحيوانات الحقيقية، وبدأت الحكومات تفرض قوانين صارمة تحظر أو تحد من استخدام الحيوانات في الترفيه. في هذا السياق، وجد سيرك رونكالي الألماني نفسه أمام تحدٍ كبير: كيف يحافظ على سحر السيرك ويجذب الجمهور دون أن يضر بالحيوانات؟

الحل جاء من عالم التكنولوجيا، تحديدًا من تقنية الهولوجرام، التي تتيح عرض صور ثلاثية الأبعاد نابضة بالحياة تبدو وكأنها حقيقية، ولكنها في الواقع مجرد أشعة ضوئية متقنة الصنع.

كيف يعمل الهولوجرام في سيرك رونكالي؟

في عام 2019، أعلن سيرك رونكالي عن إطلاق عرض جديد يعتمد بالكامل على الهولوجرام بدلاً من الحيوانات الحقيقية. وذلك عن طريق جهاز عرض ليزر (بروجكتور) موزعة بشكل دائري حول حلقة السيرك، لإسقاط صور ثلاثية الأبعاد مجسمة على سطح شفاف خاص مطور خصيصًا، يسمح برؤية بانورامية بزاوية 360 درجة للجمهور دون الحاجة لنظارات خاصة.

سيرك رونكالي الهولوجرافي – المصدر: BBC

كما يوجد سطح الإسقاط الشفاف والمرن الذي يعرض الهولوجرام، صُمم ليكون مقاومًا للكسر وأداءه عالي الجودة، مما يجعل الصور تبدو وكأنها حقيقية وتطفو في الهواء داخل الحلبة. بعد ذلك يأتي دور الرسوم المتحركة ثلاثية الأبعاد التي يصنعها الكمبيوتر بالحجم الطبيعي، تظهر حيوانات مثل الفيلة، والخيول، والقرود، وحتى الأسماك وكأنها تؤدي حركات بهلوانية على المسرح، مع تزامن صوتي وحركي يجعل التجربة واقعية جدًا.

وهناك تقنية أشعة الليزر التي تسجل الضوء المنعكس من مجسمات الهولوجرام، مما يعطي تأثير عمق وواقعية أكبر مقارنة بالصور التقليدية أو الفيديوهات العادية. ثم يبدأ دمج الصوتيات مع العرض البصري لتعزيز تجربة المشاهدة، بحيث يتزامن صوت خطوات وحركات الحيوانات الهولوجرافية مع صورها ليشعر الجمهور وكأن الحيوانات حقيقية.

وأخيرًا لابد من تحكم رقمي متقدم في كافة الأجهزة لتقديم عرض متكامل ومتناسق، حيث تُبرمج الحركات والتفاعلات بين الهولوجرام والفنانين على المسرح بدقة عالية. وكل ذلك في إطار تصميم قصة (Storyboard) للعروض، ثم تصميم تقني دقيق لاختيار نوع الهولوجرام المناسب، ثم إنشاء المحتوى الرقمي ثلاثي الأبعاد باستخدام برامج مثل Maya وHoudini، ثم برمجة تزامن الحركات مع الفنانين الحيين، مع إجراء اختبارات مكثفة لضمان سلاسة الأداء.

ومن جدير بالذكر أيضًا أن الهولوجرام يتفاعل في بعض العروض مع الفنانين الحقيقيين، مثل عروض السيرك التي يظهر فيها مهرج هولوجرامي يلعب ألعاب بهلوانية مع فنان حي، مما يخلق تفاعلًا مذهلاً بين الواقع والخيال.

هل الهولوجرام ينقذ الحيوانات فعلاً؟

الهدف الأساسي من استخدام الهولوجرام في السيرك هو حماية الحيوانات من سوء المعاملة التي كانت تتعرض لها في العروض الحية. من خلال استبدال الحيوانات الحقيقية بصور رقمية، وقُضي على الحاجة لتدريب الحيوانات بالقسوة، ونقلها في ظروف غير إنسانية، وحبسها في أماكن ضيقة.

وبالتالي، يمكن القول إن هذه التقنية تمثل خطوة كبيرة نحو عالم ترفيهي أكثر رحمة، حيث تستمتع العائلات والعشاق بالسيرك دون أن يكون هناك ضحية من الحيوانات. كما أن هذه الخطوة تلهم قطاعات أخرى في الترفيه لحذو حذوها، مثل المتنزهات وحدائق الحيوان، التي بدأت تفكر في استخدام تقنيات الواقع الافتراضي والهولوجرام لعرض الحيوانات بطريقة أكثر إنسانية.

لا يكتفي سيرك رونكالي بعرض الحيوانات الهولوجرافية فقط، بل يسعى لأن يكون منصة تعليمية توعوية. من خلال دمج قصص عن حماية الحيوانات والحفاظ على الأنواع المهددة بالانقراض، يعزز العرض وعي الجمهور بقضايا البيئة وحقوق الحيوان. كما أن جزءًا من إيرادات التذاكر يذهب لدعم منظمات حماية الحيوانات، مما يجعل تجربة المشاهدة ليست فقط ممتعة، بل ذات أثر إيجابي مباشر على العالم الحقيقي.

التحديات والآفاق المستقبلية

رغم كل هذه النجاحات، لا تزال هناك تحديات تقنية وفنية تواجه استخدام الهولوجرام في السيرك. من أهمها تكلفة الأجهزة المتطورة، والحاجة لفريق تقني متخصص لتشغيلها وصيانتها، بالإضافة إلى ضرورة تطوير البرمجيات لتجعل التفاعل بين الفنانين والهولوجرام أكثر سلاسة وطبيعية. لكن مع تقدم التكنولوجيا، من المتوقع أن تصبح هذه التقنيات أكثر انتشارًا وأقل تكلفة، مما يفتح الباب أمام المزيد من السيركات والعروض الفنية لاعتمادها.

هل الهولوجرام هو مستقبل السيرك؟

قصة سيرك رونكالي الألماني هي دليل حي على أن التكنولوجيا يمكن أن تكون حليفًا قويًا في حماية حقوق الحيوانات، وفي الوقت نفسه، تقديم تجربة ترفيهية جديدة ومبتكرة. لا يحل الهولوجرام محل الحيوانات الحقيقية فقط، بل يخلق عالمًا جديدًا من الإبداع والخيال، حيث يمكن للجمهور أن يعيش تجربة سيركية ساحرة دون أن يسبب أي ألم أو معاناة لكائن حي. لكن هل الجمهور مقتنع؟

ربما تتساءل عزيزي القارئ، هل الجمهور سيقبل بهذا النوع الجديد من العروض؟ وهل يمكن لتقنية الهولوجرام أن تحل مكان الحيوانات الحقيقية في خلق تجربة سيركية لا تُنسى؟ الإجابة جاءت من ردود فعل الجمهور التي كانت إيجابية للغاية. بعد عرض “Storyteller”، وهو البرنامج الذي يجمع بين الهولوجرام والعروض الحية، تلقى سيرك رونكالي أكثر من 20,000 رسالة إلكترونية، 95% منها أبدت إعجابها بالفكرة ودعمها لاستخدام التكنولوجيا بدلاً من الحيوانات الحقيقية.

كثير من الجمهور رحب بالفكرة باعتبارها خطوة إنسانية تحمي الحيوانات من سوء المعاملة التي كانت تتعرض لها في السيرك التقليدي، حيث عبروا عن سعادتهم برؤية عروض ممتعة دون تعذيب أو حبس الحيوانات. كما أشادوا بالتجربة البصرية الجديدة التي توفر متعة بصرية مذهلة، مع صور ثلاثية الأبعاد لحيوانات تبدو حقيقية جداً، مما جعل العرض مشوقاً ومختلفاً عن السيرك التقليدي.

ودعا بعضهم إلى أن تعتمد جميع السيركات هذه التقنية، خاصة بعد أن شهدوا حالات تعذيب الحيوانات في السيرك، معتبرين أن الهولوجرام هو مستقبل الترفيه الأخلاقي. كما رأى البعض أن هذه التقنية تتيح دمج خيال واسع، مثل إضافة حيوانات خرافية كالتنانين أو وحيد القرن، مما يفتح آفاقاً جديدة للإبداع في العروض.

ردود الفعل المعارضة

بعض عشاق السيرك التقليدي عبروا عن استيائهم من فقدان الحيوان الحقيقي في العروض، معتبرين أن الهولوجرام لا يمكن أن يعوض عن حضور الحيوان الحي وروحه التي تضفي سحرًا خاصًا على العرض. انتقد بعضهم أن التقنية قد تجعل التجربة أقل تفاعلاً وحيوية، حيث يفتقد الجمهور الإحساس بالتواصل المباشر مع الحيوانات الحقيقية. كما أبدى آخرون مخاوف من أن الاعتماد الكامل على التكنولوجيا قد يفقد السيرك جزءًا من جوهره التقليدي ويجعله مجرد عرض تقني بحت.

استخدام الهولوجرام في عروض أخرى

في 2023 و2024، أُقيمت عدة حفلات في مصر والمغرب باستخدام تقنية الهولوجرام لإحياء أغاني كوكب الشرق أم كلثوم، مثل حفل في مهرجان موازين بالمغرب وحفل في قصر الثقافة بالقاهرة، حيث ظهر صوت وصورة أم كلثوم ثلاثية الأبعاد وكأنها تغني على المسرح أمام الجمهور. كما نُظمت حفلات باستخدام الهولوجرام لإعادة إحياء صوت وصورة عبد الحليم حافظ، مما أتاح لجمهوره الاستمتاع بأغانيه بطريقة جديدة ومؤثرة.

حفل أم كلثوم بتقنية الهولوجرام

مبادرة “عالم دبي للهولوجرام”

في الإمارات، أُطلقت مبادرة تقدم حفلات موسيقية فنية باستخدام تقنية الهولوجرام لعرض أساطير الموسيقى والغناء العالمي، مما يدمج المحتوى المرئي والصوتي بتقنية متقدمة.

حفلات توباك شاكور ومايكل جاكسون

في 2012، قدم الهولوجرام عرضًا لتوباك شاكور في مهرجان كوتشيلا، وظهرت أيضًا عروض لمايكل جاكسون، مما أعاد إحياء نجوم رحلوا أمام جمهور جديد بطريقة مبتكرة. كما اُستخدم الهولوجرام في المسرحيات والعروض الفنية لإضافة بعد بصري جديد، مثل ظهور شخصيات مجسمة تتفاعل مع الممثلين على المسرح.

حفل مايكل جاكسون بالهولوجرام

مستقبل تقنية الهولوجرام في العروض والحفلات

دمج الذكاء الاصطناعي مع الهولوجرام سيجعل العروض أكثر تفاعلية، حيث يمكن للهولوجرام التفاعل مع الجمهور أو حتى التعديل في الوقت الحقيقي حسب ردود الفعل.

التجارب التفاعلية

في المستقبل، قد يتمكن الجمهور من التفاعل مع العروض الهولوجرامية عبر هواتفهم أو أجهزة الواقع المعزز، مثل الانضمام افتراضيًا إلى الفنان على المسرح أو التأثير في مجريات العرض.

انتشار التقنية في الحفلات الافتراضية

ستتيح الحفلات الهولوجرامية حضورًا عالميًا متزامنًا، حيث يمكن للفنان الظهور في عدة أماكن في الوقت نفسه، مما يوسع من نطاق الجمهور ويقلل من تكاليف السفر والتنقل.

مع تقدم التكنولوجيا، ستصبح أجهزة عرض الهولوجرام أصغر وأرخص، مع جودة صورة أعلى، مما يسمح باستخدامها في أماكن أصغر مثل النوادي والحفلات الخاصة.

التحديات والانتقادات البعض يرى أن الحفلات الهولوجرامية تفتقد “الروح الحية” والطاقة التي يضيفها الفنان الحقيقي أثناء الأداء، مما يجعل التجربة أقل أصالة. وهناك مخاوف أخلاقية حول استخدام صور الفنانين المتوفين، خاصة إذا لم يكن هناك موافقة مسبقة منهم أو من عائلاتهم.

?xml>