“أُم الفضائح” وحرب “إسرائيل” على المستشفيات
لا يمكن وصف ما جرى في مستشفى الشفاء في قطاع غزّة إلا بأنه أُم الفضائح، إذ صوّر جيش الاحتلال ذلك المستشفى بأنه مركز القيادة الأعظم لحركة حماس، وأنه مخزن كبير للسلاح والمتفجّرات، وأن مئات المقاتلين يتحصّنون فيه ويتخذون المدنيين دروعاً بشرية، وأن أسرى إسرائيليين عديدين محتجزون فيه. وقد صوّر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وقادة جيش الاحتلال، التقدّم نحو المستشفى بالدبابات بعد قصفه بالطائرات بأنه اقتحام لقلعة المقاومة الكبرى، وكأنه مبنى البوندستاغ في ألمانيا النازية، ثم تمخّض الجبل فولد فأراً، بل لم يلد حتى فأراً، فلا وجدوا أسرى في المستشفى، ولا مركز قيادة، ولا مقاومين ولا مخازن أسلحة. لم يجدوا إلّا أطفالاً في حالة نزاع لحاجتهم للحاضنات التي قصفوها، وللأكسجين الذي دمّروا الجهاز الذي يولّده، وجرحى ومرضى في قسم العناية المكثفة يتوفّون الواحد تلو الآخر، لتعطّل أجهزة التنفّس الاصطناعي، وضحايا قصف طائراتهم الهمجي يئنون لاستحالة علاجهم بسبب غياب الكهرباء عن غرف العمليات الجراحية وأجهزتها، ومرضى بحاجةٍ لغسل الكلى في أجهزة توقّفت عن العمل، بسبب قصف الاحتلال ومنع الوقود والكهرباء عن المستشفيات، وجثامين شهداء لم يستطع أحد الوصول إليها لدفنها، بسبب قصف الدبابات الإسرائيلية ورصاص القنّاصين الذين لا يقيمون وزناً للحياة الإنسانية.
حاول المحتلون من قبل التستّر على فضيحة ادّعاءاتهم في مستشفى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي للأطفال، بفبركة صور وادّعاءات لم تنطلِ على أحد، ومنها روزنامة مكتوبة بخط اليد فيها أسماء الأيام والتواريخ، وادعوا أنها جدول مناوبة للمقاتلين لحراسة أسرى لم يكن لهم وجود، ولم يستطيعوا إيجاد دليلٍ واحدٍ على وجودهم.
وفي مستشفى الشفاء، وبعد 24 ساعة، لم يجدوا خلالها شيئاً، أمعنوا في عمليات الهدم والتدمير لمرافق المستشفى، ثم حاولوا فبركة وجود أسلحة ثبت قطعاً، بالصورة والأشرطة، انها حُملت من جنود الاحتلال أنفسهم إلى المستشفى، ولم تقنع ادّعاءاتهم أحداً، حتى المنحازين لهم، إذ نفتها صحف الواشنطن بوست ونيويورك تايمز ومحطتا CNN الأميركية وBBC البريطانية. وتحوّلت ادّعاءات حكام إسرائيل، والناطقين باسم مجلس الأمن القومي الأميركي ووزارة خارجية بلينكن الذين أكّدوا الادّعاءات الإسرائيلية، بأن مصدرها أجهزة الاستخبارات الأميركية أيضاً، إلى مصدر إحراج لا سابق له، ليس فقط لإسرائيل، بل للمتورّطين في تكرار أكاذيب حكّامها من الأجهزة الأميركية.
وأصبح واضحاً أن للهجوم الإسرائيلي المتوحش على المستشفيات واستباحتها في خرق فاضح لكل القوانين الدولية، ثلاثة أهداف: أولاً، إظهار أن حكّام إسرائيل لا يقيمون وزناً لأي قانون دولي، ولا يتورّعون عن ارتكاب أي محرّمات. وكما قال نتنياهو، لا يوجد مكان لن نستطيع الوصول إليه. ولا يثير هذا الأمر أي استغرابٍ من جيشٍ يمارس ثلاث جرائم حرب في وقت واحد: الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعقوبات الجماعية.
ثانياً، شلّ جميع المستشفيات، والمؤسّسات والمراكز الصحية والتعليمية، في جميع مناطق شمال قطاع غزة ومدينة غزّة، وتدميرها، في إطار عملية التدمير الشامل لتلك المناطق وبنيتها التحتية، لجعلها غير قابلة للحياة، وتقييد إمكانية عودة أهلها للعيش فيها. وتأكد ذلك عندما أجبر جيش الاحتلال الطواقم الطبية والمرضى والمواطنين على مغادرة مستشفى الشفاء صباح يوم أمس (18/11/2023)، تحت تهديد السلاح والدبّابات، ولم يعبأوا بأن عدداً كبيراً من الجرحى والمرضى عاجزون عن الحركة، وأن كثيرين منهم لن يعيشوا دون أجهزة دعم الحياة.
الهدف الثالث الجوهري، تنفيذ التطهير العرقي بترحيل عشرات الآلاف من سكّان مدينة غزّة وشمالها الذين لجأوا إلى المستشفيات، مثل الشفاء والقدس والرنتيسي، وكان ترحيل المصابين والجرحى وإجبارهم على الخروج مشياً على الأقدام، أو على أسرّة محطمة، كيلومترات طويلة من أسوأ المشاهد التي تمثل إدانة كاملة لحكّام جيش الاحتلال وقادته، عندما يساقون إلى محكمة الجنايات الدولية في يوم مقبل.
عطّلت إسرائيل 26 مستشفى من 36 تعمل في قطاع غزّة بالقصف والتدمير والحصار، وقطع الوقود والكهرباء والمياه والأدوية والمواد الطبية، ودمّرت أكثر من 40 سيارة إسعاف، وقتلت ما لا يقلّ عن مائتي طبيب وطبيبة وممرضة وعامل صحي، ودمّرت 56 مركزاً صحّياً، منها مستشفى الشفاء، وهو الأكبر في فلسطين، ويحرم تدميره 2.3 مليون فلسطيني من الخدمات السريرية في المستشفيات، ومن كثير من تجهيزاتها التي لا يوجد بديلٌ لها في كل قطاع غزّة. وقد أكّدت حكومة إسرائيل نهجها الخطير ضد المستشفيات والقطاع الصحي بهجومها قبل يومين على مستشفى ابن سينا في مدينة جنين في الضفة الغربية أيضاً.
لم تكن مصادفة أن تبادر مستشفياتٌ كثيرة في العالم وأطبّاؤها، من رام الله، إلى كندا وبريطانيا وايرلندا، إلى تنظيم تظاهرات ووقفات تضامنية مع الأطباء والعاملين الصحيين الفلسطينيين، وهذه بداية الغيث. وسيكون الحساب عسيراً لكل من شارك في تنفيذ هذه الجرائم، أو في التخطيط لها، أو أصدر الأوامر بتنفيذها. وإن غداً لناظره قريب.