اخبار المغرب

مشروع سيد قطب رومانسي .. وفصل الجهاد عن الحرب فكرة المودودي

يحاول الأكاديمي والباحث وأستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة محمد الخامس بالرباط سابقاً محمد هاشمي في هذا الحوار مع هسبريس أن “يفكّر على غير المعتاد”، كما قال عنه الراحل محمد سبيلا، بحيث يُخضع “تصورات بالغة الحساسية” لما يشبه إعادة نظر جذريّة، خصوصاً التعاطي الذي ساد مع نصوص أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، وكيف استثمرت كتب الأخير من طرف تيارات دموية ظلت تشتغل على هذه النصوص كـ”مرجعية” تمنح الفعل الانتحاري “زخماً فكريا”.

هاشمي، في هذا الجزء الأول من الحوار، يشدّد على أنه طالع مشروع قطب كلّه، فلم “يجده يعتبر القتال حلاّ”، لذلك يذهب ضيف هسبريس إلى أن “مشروع قطب لم يكن قولاً شرعيا حربيا أو قتاليا بل هو مشروع رومانسي صيغ ببلاغة استثنائية خطيرة، ثم انقلب بعد ذلك إلى مادة قاتلة وكارثية”، مبرزاً أنه كان “تحدث عن بوار الحضارة الغربية بشقيها الاشتراكي والرأسمالي، ووجوب اضطلاع المجتمعات الإسلامية بتقديمها البديل الحضاري الذي لن يتحقق إلا بإعادة خلق القطيعة الحضارية الجذرية”.

وقال المحاور ذاته إن “الخطب السياسية والدينية التي تمتح مادتها العامة من مجملات النصوص، وتغرقها في فورة الانفعالات القاتلة والمحرضة والدموية، كانت هي ما يرسم معالم الطريق للإرهاب، وليس من النصوص ذاتها التي تشكلت غالبا بفعل قصدية مغايرة لا علاقة لها بمآلات هذه النصوص في معترك كواليس استعمالها من طرف مهندسي العنف الإيديولوجي بمختلف مشاربه”، معتبراً أن نص “معالم في الطريق” لسيد قطب هو “أحد شواهد هذا التحويل الحركي الانتهازي للنصوص التنظيرية الأصلية”.

نص الحوار:

– لديك قراءة فريدة لتراث أبو الأعلى المودودي؛ بحيثُ حاولتَ أن تقرأه بحسن نية، كما فعل جون راولز مع تراث توماس هوبز العنيف… في هذه القراءة اعتبرت المودودي قارئا جيداً للحضارة الغربية، أي لما عاشه من أوضاع قيمية متردية، كالحربين العظيمتين وانتعاش القوميات الشوفينية، إلخ. هل هي محاولة لتحرير المودودي من الاختزال؟.

لم أعتد أبداً أن أسيج نفسي مسبقا بخطاطات قراءات مبيتة ومرتبة، بحيث أوزع الأوسام الأيديولوجية أو الأخلاقية على الآخرين بشكل جاهز. إن سلوكا كهذا يحسم فعل القراءة قبل أن يبدأ، فيحوله إلى مجرد مناسبة لإعادة إنتاج صنافات مذهبية، هي في الواقع وليدة قناعات وانفعالات أكثر من كونها نتاجا لإعمالٍ حر للفكر. الحال أن هذا الأخير هو ذلك الجهد المستمر الذي ينبغي أن نبذله كي نعاند سطوة انفعالات النفس، في محاولة لجعلها تنضبط لمقتضيات النظر العقلي، وذلك ليس بالمهمة السهلة طبعا. إلا أن جهد مغالبة المسبقات والمعرفة الجاهزة هو ذلك التمرين الصعب الذي لا بدّ من أن نوطن أنفسنا لعَنَتِه وصعوباته، إذا ما رغبنا حقا في أن نجعل الفكر تجربة تتم خارج وصاية المألوف، والمعهود، والثنائيات المانوية التي هي نفسها التي تطالعنا بها نظرية الفسطاطين التي تشتغل في الواقع بالكفاءة نفسها لدى كل الجماعات الأيديولوجية بمختلف مشاربها؛ فالآلية هي نفسها، اللهم أن المواقع تختلف؛ ففي كل مرة يتحول شرير هذا الطرف إلى خيِّر الطرف الآخر، وهكذا دواليك.

-كأنك تقصد أن الأمر يشبه لعبة تبادل للأدوار؟.

بالضبط؛ وهي ما حاولت جهدي أن أتخلص منها. ولهذا كنت في الغالب بدون أعداء تقليديين ولا أصدقاء عقائديين، ولعل هذا ما سمح لي أن أتعامل مع كلّ النصوص على قدم واحدة، وربما بالجدية المطلوبة نفسها في عملية الإنصات للآخر، بل كنت أجد نفسي ملزما بأن أبذل جهداً أكبر حينما يتعلق الأمر بنصوص تعاند حساسيتي، وبأسماء هي من المفترض خارج ربعي الفكري. والمودودي كان أحد هؤلاء الأغيار الفكريين، بالإضافة إلى أسماء أخرى شبيهة ارتبطت في أذهاننا وعوائدنا التحليلية بالجماعات الإرهابية التي ما فتئت تحشر في خطابها الدموي الإجرامي والسطحي إحالات على أسماء معينة كنوع من التوشية الفكرية الزائفة واللاحقة، في محاولةٍ للظهور كما لو أنها تؤسس مواقفها العدميّة انطلاقا من خلفيات نظرية صلبة. هذا الوهم انطلى على كل من اكتفى بالمشهورات والخلاصات السائرة، فطفق يساجل المتطرفين والإرهابيين خارج أفقهم العدمي والإجرامي التافه.

في رأيي إن موجة الإرهاب التي ورثتها تيارات ما بعد الحرب العالمية الثانية، سواء في صورتها الحمراء أو الخضراء، أقصد إن بلبوسٍ يساري راديكالي أو إسلاموي سنيا كان أو شيعيا، هي الوريث الشرعي لما دعته حنا أرندت بتفاهة الشر. لقد تراجع الأيديولوجيون إلى الصف الثاني وراء الزعماء الحركيين، ونجوم الفرجة النضالية، ولهذا فإن الأسماء التي كانت تحرك الجموع الإرهابية لم تكن أبدا في واقع الحال الأسماء الفكرية التي أسست طرحا نظريا يمكن أن يناقش ويحاور ويفند، بل تعلق الأمر دائما بزعامات سياسية أو حركية أو عسكرية، حولت مجموعة من الأطروحات الصلبة في منشئها إلى شعارات جذابة وهشة في الوقت نفسه.

لقد كانت الخطب السياسية والدينية، التي تمتح مادتها العامة من مجملات النصوص، وتغرقها في فورة الانفعالات القاتلة والمحرضة والدموية، هي ما يرسم معالم الطريق للإرهاب، وليس من النصوص ذاتها التي تشكلت غالبا بفعل قصدية مغايرة لا علاقة لها بمآلات هذه النصوص في معترك كواليس استعمالها من طرف مهندسي العنف الإيديولوجي بمختلف مشاربه. ولعل نص “معالم في الطريق” لسيد قطب، لأن الشيء بالشيء يذكر، هو أيضا أحد شواهد هذا التحويل الحركي الانتهازي للنصوص التنظيرية الأصلية، حيث نجد أن الكثير من الحركات الإرهابية تحيل على “ظلال القرآن” وعلى كتاب “معالم في الطريق”، بل وتجعل هذه النصوص جزءا من منهاجها التكويني، مثلما نصادف مثلا في برنامج جماعة الجهاد المصرية. لكن في رأيي إن هذا النص الأدبي المتخفف إلى أقصى حد من المسوغات الشرعية، والمنفلت من ضوابط أقنمة السلف الصالح، الذي يختزله بالمناسبة إلى الجيل القرآني الذي يكاد يتشكل من الجماعة الإسلامية الأولى في صورتها البسيطة والرومانسية، على الأقل قبل فتح مكة والتحاق الطلقاء بهذه الجماعة، وهم أغلب ملإ قريش، والسفيانيون منهم على الخصوص. أولئك الذين سيشكلون نواة صناع المُلك الإسلامي، الذي نظر إليه قطب نفسه كنوع من حالة نسيان جماعي Amnesia للعهد النبوي الأصيل، هل فعلا كان هذا الكتاب كما هو بالفعل من تأثير مباشر في عصابات الإرهابيين الذين تشكلوا في احتكاك دائم مع قتلة احترافيين وبائعي أسلحة ومهربي وبائعي مخدرات، وقوادين في سوق نخاسة “داعش”، حيث بيعت الأزيديات كبضاعة حلال؟ هل يمكن لرجل لم يستعمل ولو مرة العبارات السائرة حول التكفير والارتداد والقعود والشغور والصائل والدفع والطلب، وكل هذا القاموس الحركي الذي ترسخ سنوات بعد ذلك، أن يؤثر في جماعات فيروسية توالدت عبر الانقسام الذاتي كما هي عادة الفيروسات، إلى غاية ظهور القاعدة، وبعدها “داعش” وكل هؤلاء الذين لا يحيلون على هذه الأسماء إلا في مناسبات نادرة، وبأسلوب مجتزئ ومتحفظ أحيانا على عقيدة قطب نفسه.

– لكن، هل الأمر نفسه ينطبق على نصّ الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج؟.

لمّا نعود إلى هذا النص بأسلوبه التجميعي ولغته الشرعية سنكتشف مدى البون الشاسع بين نص الظلال/ والمعالم/ والعدالة الاجتماعية في الإسلام مثلا، وهذه الورقات الحركية التي تحولت إلى برنامج عقائدي لدى جهاديي الرعيل الأول، الذين استلهموا في الواقع عقيدة الضباط الأحرار، حيث اعتبروهم خونة على مستوى العقيدة، نظرا لانقلابهم على حركة الإخوان بعد أن نسقوا معها أول الأمر، هذا بعد أن تبين أن ضرورات السياسة لهؤلاء الانقلابيين لا يمكنها أن تنسجم مع رومانسية شخص كسيد قطب، كان بمثابة المنظر الأعلى والمرشد الروحي لمجموعة الضباط الذين كانوا يتلقون منه دروساً في التعبئة الأيديولوجية إلى ساعات متأخرة من الليل، قبل أن يتحولوا إلى جلاديه مستقبلا.

هؤلاء الضباط الانقلابيون بشكل مزدوج، فمرة على الملكية وأخرى على رفاق الطريق، ظلوا نموذجاً مرجعيّا علي مستوى الأسلوب والمنهج للحركة الإسلامية؛ لأنهم رغم العناوين ينتمون إلى الفصيلة الأيدولوجية نفسها، وإن تباينوا في الملامح العرَضية.

إنه المنهج القائم على السعي إلى اختراق الجيش والقيام بعمليات انقلابية عبر الاغتيالات، وهذا ما نزّله الإسلامبولي وصحبُه على مستوى الواقع. أضف إلى هذا الولع العسكري ببرامج التدريبات القتالية والكارتيه الإسلامي، الذي تابعنا بعض عروضه في اعتصام ميدان رابعة، وتدريبات مخيمات الجهاديين على استعمال الأسلحة البيضاء، وبعد ذلك المتفجرات والمفخخات، ما يعد تقليدا سائدا لدى الحركات المسلحة والعصابات الإجرامية. لقد كان ذلك قِوام الجهاديين، سواء في مصر أو الجزائر أو أفغانستان، حيث تغول المهربون والقتلة بعيدا عن مُثل هذه النصوص الأدبية الأولى، على غرار مرتزقة الحروب القذرة وحرب الملييشيات التي سادت بعد الحرب العالمية. ما الذي تغير مقارنة بالجماعات الإيديولوجية الراديكالية في عملية تحويل حرب الميليشيات اليسارية إلى حركة جهادية؟ هل هي عبارات التكبير واستبدال كلمة الفدائي بالشهيد؟ لا شيء أكثر من هذا.

– المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز يعتبر أن حسن البنا أنتج فكراً سياسياً، بينما أنتج قطب بياناً سياسياً – قتالياً كان ذروة التعبير عنه كتابه معالم في الطريق…

في رأيي إن مشروع قطب لم يكن قولاً شرعيا حربيا أو قتاليا بل هو مشروع رومانسي صيغ ببلاغة استثنائية خطيرة، ثم انقلب بعد ذلك إلى مادة قاتلة وكارثية. هو يتحدث عن بوار الحضارة الغربية بشقيها الاشتراكي والرأسمالي، ووجوب اضطلاع المجتمعات الإسلامية بتقديمها البديل الحضاري الذي لن يتحقق إلا بإعادة خلق القطيعة الحضارية الجذرية. هذه القطيعة كان صاحب معالم في الطريق يعتقد أنها كانت سرّ قوة وفتوة الإسلام في سنواته الأولى، وهو يرسخ ما يدعوه بتعبيد الناس لله عوض تعبيد الإنسان للإنسان كما هو ديدن الحضارة المعاصرة، التي تتقاطع مع حقبة الجاهلية في هذا الميل. الجاهلية بهذا المعني لم تكن هي الكفر بالمعنى الشرعي، بل إن شئنا القول هي كفر حضاري، ونسيان لعقد “ألست بربكم” الذي يتضمن أن لكل كائن بشري تعاقداً سابقاً مع الإله في عالم الغيب.

من هنا إن التغيير يكون بالجهاد، وليس بالحرب المقدسة، ولا بحدود الردة وما شابهها من الحدود الشرعية التقليدية، هذا ما لم تستطع حركات الكارتيه الإسلامي والبطوليات الخرقاء أن تستوعبه. إن فصل الجهاد عن الحرب هي فكرة المودودي، وهي التي جعلت سيد قطب ينظر إليه كملهم؛ بحيث أصبح الجهاد هو الجُهد الحضاري العام في تأسيس البديل الذي يمكنه تحرير الإنسان من الاعتباط والمادية العدمية. وهي أمور لا يمكن للعنف المادي أن يحسمها. نص المودودي لغرابة الصدف كان ردا على تهمة أطلقها المهاتما غاندي، صاحب مبدأ الأهمسا أو اللاعنف، في حق الإسلام الذي حسب رأيه انتشر بالسيف وبالغصب. وهو تصريح جرى في سياق راديكالي يزاوج ما بين إيقاظ القوميات الوطنية في صورة عصبيات عرقية وثقافية من خلال حركة الهيندوتافي hindutavi كانت ضرورية لمواجهة الغطرسة الاستعمارية لبريطانيا التي كانت تدبر حينئذ مستعمراتها على أساس تفوق الرجل الأبيض الذي يمثل الإنسانية في أعلى تجلياتها، مقابل السكان الأصليين الملونين الذين نُظر إليهم ككائنات محجورة.

أبو الأعلى المودودي تحدث عن خطر العصبيات القومية، وأدان مبادئ الحضارة الغربية الدستورية والسياسية والقيمية، فهو كان يخوض معركته الخاصة والمشروعة حيال حركة اجتثاثيّة. لقد كانت مدرسة لاهور تحت تأثير الفيلسوف والشاعر محمد إقبال الذي تبنى لوقت ليس بالقصير أبا الأعلى المودودي، ذلك الشاب العصامي حينئذ الوارد من حيدر أباد، محاولا إدماجه في خضم المشروع النقدي الكبير الذي كان يجريه إقبال نفسه على الحضارة الغربية، وهو العارف بتفاصيلها، والمطلع كذلك على أفانين الفكر الإسلامي، الصوفي منه على الخصوص، إلى درجة أنه خُصّ بشرف نصب في حديقة الأرواح في مقام مولانا جلال الدين بقونيا.

هذا الرجل كانت له معرفة أكاديمية تامة بالفكر الألماني، حيث حضر رسالة الدكتوراه، ونحن نعلم بوجود أسماء كثيرة ضمن هذا الفكر، جعلت من الأدوار الحضارية موضوعها الأساس في مرحلة دراسة إقبال، أستاذ المودودي بألمانيا. ولعل أوزفالد شبنجلر هو أحد الوجوه الأساسية في ما دعيت بالثورة المحافظة Konsrvative Revolution التي وقفت موقفا نقديا سواء من الفكر الاشتراكي أو الفكر الليبرالي.

إنه التيار المضاد للأنوار في صورتها الثورية والليبرالية التقدمية الذي تشكل من سلسلة طويلة من المفكرين الذين توجهوا بالنقد العميق والحاد إلى المنقلب الفرداني للأنوار، اسم من هذا القبيل خصوصا بمنهجه الارتدادي، وكذلك بنبوءته حول أفول الغرب، لا بد وأنه طبع المناخ الفكري الذي تشبع به المودودي في مدرسة لاهور؛ وهو ما أعطاه هذا النفس في النظر إلى الحراك الوطني ومقاومة الاستعمار باعتبارهما مواجهة حضارية كونية؛ ولهذا حينما يتحدث عن “الانقلاب الشامل” مثلاً فهو لا ينظر إليه بالدلالة العسكرية التي ستترسّخ لاحقا مع الضباط الأحرار الذين لا علاقة لهم بمثل هذه الأنفاس الفكرية الأكاديمية، بل يقصد به نوعا من شمولية النسق القيمي الإسلامي في قدرته على التعويض الشامل والكامل لنسق المستعمِر.

-هل تقصد أن هذه المؤثرات الفكرية الألمانية المحافظة ستتسرب إلى أعمال سيد قطب ومن معه؟.

أجل، مثلا أعمال محمد أسد المستشرق الألماني صاحب كتاب “الإسلام على مفترق الطرق” لديه تأثير مباشر على سيد قطب في كتابه “الإسلام والسلام العالمي”. وأضف إلى هؤلاء واحدا مثل محمد البهي الخولي، وهو من الجيل نفسه، وقد حضر أطروحته في الثلاثينيات بألمانيا ونقل الكثير من المفاهيم المحافظة للمشهد الثقافي وهو يقدم تاريخ “الفكر الإسلامي في صلته بالاستعمار الغربي”. ما أود أن ألفت إليه النظر من خلال تقديم هذه الحيثيات هو على الخصوص أن فتح هذه الآفاق التحليلية بعيدا عن السجالات المذهبية، ومن ثم عن الكثير من النصوص التي استعملت لاحقا بانتهازية رخيصة، هو ما دعوته بالقصدية المنسية للمودودي.

إن هذه النصوص الأصولية قدمت قراءة نصف فكرية نصف شاعرية للإرث الحضاري الإسلامي، وكانت فعلا حاملة للكثير من المفاهيم الخطرة، إلا أنها لم تكن أبدا بالرخاصة التي ستنجم عن التأويل الحركي الزائف لها؛ إنها نصوص تُقرأ في سياق نقد العقل الغربي، على خلاف النصوص والرسائل اللاحقة للفكر الإرهابي بالدلالة الضيقة للكلمة التي هي في العمق مجرد أسلمة تافهة للفكر الإرهابي الغربي، دموية الفوضويين والتروتسكيين واللينيين نفسها.

في رأيي إن جماعة الجهاد المصرية هي أقرب ما تكون إلى عقلية الألوية الحمراء اليسارية منها إلى أعمال المودودي أو قطب، وكلاهما ستُعاد صياغتهما بلغة شرعية، الأول من خلال المكونات الديوبندية للجماعة الإسلامية بباكستان، والثاني من خلال جماعة الأزهريين المارقين.

لهذا أنا على استعداد لقراءة المودودي وقطب ومناقشتهما كشخصيتين محافظتين يمينيتين، فلهما في ظني الحد الأدنى من عناصر المطارحة الفكرية، بينما يصعب علي شخصيا أن آخذ النصوص الحركية للجماعات الإرهابية مأخذ جد على المستوى الفكري؛ فأنا لا أناقشها أبدا بشكل مباشر، وإنما أتعامل معها كتشوه مرضي يحلَّل بمنطق السميولوجيا المرضية باعتباره عرضا وليس طرحا، لهذا يمكن القول إن ما رُمته من موقفي الذي أشرت إليه هو بالضبط التمييز بين الأصولية المحافظة وقصدياتها الأولى المرتبطة بسياقات تاريخية وثقافية خاصة، وبين الحركات الإرهابية في شَرانيتها التافهة، وبهذا نتجنب إلقاء الرضيع مع مياه الاستحمام كما يقول المثل. لقد كنت أفهم أن مهمة الفلسفة ليست هي تصفية مذاهب واستبدالها بأخرى، وإنما محاولة توفير مبادئ منهجية لتحقيق ما دعاه رولز بالتوافق التقاطعي؛ ومحاولة خدمة المجتمع التعددي عوض السعي لتجاوزه بمنطق كَمَالي Perfectionist، مهما كان مضمون القيم التي تتأسس عليها هذه النزعة الكمالية.

يتبع…