هل اللغة العربية متحيزة ضد المرأة؟ ” الجزء الثاني “
حاورها : محمد كريزم بيروت خاص بـ ” “
في الجزء الأول من حوارنا مع الدكتورة والأديبة اللبنانية دورين سعد الخبيرة في الّلغة العربيّة وآدابها، وإختصاصية النقد في جامعة القديس يوسف(معهد الآداب الشرقيّة) في بيروت إستعرضنا معاً ما إذا كانت اللغة العربية متحيزة ضد المرأة ، وأسهبت الدكتورة دورين في الشرح والتفاصيل ،وكانت إجاباتها بمثابة وثيقة تاريخية تثري الثقافة العربية، وكشفت كثير من الحقائق التي كانت مجهولة للإنسان العربي.
اليوم ” “ تنشر الجزء الثاني من الحوار ونستعرض فيه ما إذا كانت حقول الأدب العربي تدعم المرأة ، أم تهمشها وتضعها في مرتبة أقل من الرجل.
الدكتورة دورين ترد على أسئلة ” ” بإجابات عميقة ومسهبة وفيما يلي نص الجزء الثاني من الحوار:
* ما عوامل نجاح الإقلاع والانطلاق في فضاء الأدب لخدمة قضايا المرأة؟
إنّ مباشرة المرأة الكتابة، ليست معطاة سلفًا، وإقبال النّساء العربيّات على الكتابة يتزايد، وما كان نادرًا في فترة ما بين الحربين بات اعتياديًّا في النّصف الثّاني من القرن العشرين.
ولو تيسّر للمرأة أن تكتب تاريخ الزّمان والأحداث وتولّت بنفسها صياغة التّاريخ، ولم يكن ذلك حكرًا على الرّجل وحده، لكنّا قرأنا تاريخًا مختلفًا عن فاعلات ومؤثّرات وصانعات للأحداث.
لذلك، الأمر ليس سهلًا، والتّغيير لا يكون بين ليلة وضحاها، ولا يحدث بضربة سحريّة. إنّه يحتاج إلى عمل شاق لا شكّ أنّ المرأة قد خبرته وعانته. فقد حاولت أن تفصح عن نفسها عبر الحكاية وجعلت السّرد نصًّا مؤنّثًا.
وقد دخلت إلى عالم اللّغة بوجهها المكتوب، وحين وجدت الرّجل قد احتلّ الموقع وأحكم سيطرته على المكان، راحت مي زيادة تفتح أبواب المكان بأن أقامت صالونًا كانت سيادته مؤنّثة. وتجدر الإشارة إلى أنّنا بدأنا نشهد بعض التّغيّرات في العصر الأندلسيّ، حيث كان لولّادة بنت المستكفي مجلسًا مشهورًا في قرطبة يؤمّه الأعيان والشّعراء ليتحدّثوا في شؤون الشّعر والأدب بعد زوال الخلافة الأمويّة.
والواقع، وراء ذلك معاناة مع الذّات والآخر، وعلى المرأة أن تؤسّس قيمة إبداعيّة للأنوثة، تكون عبر كتابة تحمل سماتها وتقدّمها في النّصّ اللّغويّ، لا على أنّها تابعة أو خاضعة للرّجل، وإنّما بوصفها قيمة إبداعيّة. ولو أخذنا من التّاريخ صورة شهرزاد، لأدركنا أنّها جاءت في ألف ليلة وليلة على أنّها امرأة تحكي وتقصّ، وهذا يتضمّن صورة التّحدّي والصّراع من أجل بقاء الذّات وبقاء الجنس جسديًّا ومعنويًّا.
ويبقى أن نقول إنّ الانطلاق في فضاء الأدب لخدمة قضايا المرأة يحتاج إلى وعي على الصّعيد الاجتماعيّ. وهذا يقتضي من الكتابة النّسائيّة دورًا مزدوجًا، منه، أوّلًا، تأسيس كخطاب أدبيّ أنثويّ حقيقيّ الأنوثة، حيث تصبح اللّغة أنثى تتكلّم بلسان المرأة وتكتب بقلم المرأة.
من هنا تصبح كتابة المرأة ليست مجرّد عمل فرديّ من حيث التّأليف أو من حيث النّوع، إنّها بالضّرورة صوت جماعيّ. فتكون الكاتبة، وكذلك اللّغة، وجودين ثقافيّين فيهما تظهر المرأة بوصفها جنسًا بشريًّا، ويظهر النّصّ الأدبيّ بوصفه جنسًا لغويًّا، وتكون الأنوثة حينئذ فعلًا من أفعال التّأليف والإنشاء ومن أفعال القراءة والتّلقّي.
كما تحتاج اللّغة إلى امرأة تناضل من أجل أنوثة النّصّ وأنوثة قلم الكاتبة، يحتاج الأدب إلى وعي ثقافيّ جماعيّ يقدّر المرأة ويحترمها. فالكتابة النّسويّة سوف تحقّق حرّيّتها وانطلاقها كلّما تيقّنت المرأة من قوّتها.
* إلى أيّ حدّ يبدو الأدب والفكر وممارسته القائمة اليوم في العالم لغة عالميّة، وما هي التّخوم التي تفصل بين ما هو عالميّ وما هو عربيّ؟
إنّ علاقة الأدب بالمجتمع علاقة جدليّة تفرضها مقوّمات النّشأة والتّطوّر داخل هذا الوسط، وقد فرضت الظّروف والمتغيّرات والتّحوّلات المجتمعيّة ظهور نوع جديد من الالتزام المحدّد بالأوضاع الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تتحوّل وتتغيّر باعتبارها صيرورة وجوديّة إن سلبًا أو إيجابًا، والمقصود هنا بالالتزام انصهار الأديب في مجتمعه وانشغاله بقضاياه التي تُعدّ جزءًا من يوميّاته الطّبيعيّة.
من هذا المنطلق، فإنّ الكاتب مدعوّ إلى متابعة هذه الصّيرورة وإلى معايشتها وتأريخها أدبيًّا وشعريًّا، فلا يمكن أن نصوّر إنتاجًا أدبيًّا ما، من دون أن يكون متّصلًا اتّصالًا وثيقًا بالمسألة الثّقافيّة، ومن دون أن يكون على ارتباط بالمجتمع. وبفعل العولمة، وتحويل العالم إلى قرية كونيّة صغيرة، ما عاد الأدب منعزلًا في بيئة أو مجتمع، بل بات منفتحًا على كلّ الآداب العالميّة. وقد أدّت التّرجمة دورًا بارزًا في عمليّة نقل الآداب.
والأديب في كلّ المجتمعات يعيش وعيًا شقيًّا كما قال سارتر، “لأنّه يكتب في مجتمع تسوده الفوارق من كلّ نوع، وتنتصب داخله العراقيل أمام ممارسة النّاس لتحرّياتهم”. وبالتّالي، يصبح دور العمل الأدبيّ دورًا متميّزًا داخل المجتمع ووعي الأفراد به باعتباره وسيلة من وسائل بثّ الوعي الفكريّ والجماليّ بوظيفته المزدوجة: المتعة والمنفعة.
غير أنّ الأسئلة التي تطرح: ما هي درجة حضور الأدب العربيّ في المشهد الثّقافيّ العالميّ؟ وما نسبة قراءة الكتب العربيّة، وخصوصًا الرّوايات، المترجمة إلى اللّغات العالميّة، وبشكل خاصّ الإنكليزيّة والفرنسيّة؟
يعتبر الأدب العربيّ جزءًا من منظومة الآداب العالميّة، يتأثّر بها ويؤثّر فيها. وطالما هناك تأثّر وتأثير، من الصّعب أن نعزل الأدب العربيّ عالميًّا. ومن المفترض أن يتحقّق ذلك التّواصل المنشود من خلال وسيط أساسيّ وهو “التّرجمة”، ولكن المشكلة تكمن في القيّمين على الأدب واللّغة في كلّ أنحاء الوطن العربيّ.
وكما ذكرت سابقًا، ففي ظلّ العولمة والتّداخل الثّقافيّ بين أنحاء العالم المختلفة، والتّطوّر الهائل في وسائل الاتّصال بين المجتمعات والدّول، إنّنا نشاهد زحفًا حضاريًّا أدّى إلى ترقّي كلّ اللّغات والثّقافات إلى مستوى بالغ الأهمّيّة. فعمليّة المثاقفة لا تعني تبادلًا ثقافيًّا حرًّا، بل هي نتاج عمليّة إخضاع تفرض حوارًا بين الحضارات يعترف بوجود التّفاوت بين الآداب. وهذا يتطلّب خروجها من حدودها القوميّة.
وكما ذكر الدّكتور محمّد غنيمي هلال: إنّ عالميّة الأدب تعني خروجه من نطاق اللّغة التي كُتب بها إلى أدب لغة أو آداب لغة أخرى.
في الواقع، إنّ هذه العالميّة هي ظاهرة عامّة بين الآداب في عصور معيّنة، ويتطلّبها الأدب المتأثّر في بعض العصور بسبب عوامل خاصّة تدفعه إلى الخروج من حدود قوميّته، إمّا للتّأثير في الآداب الأخرى، وإمّا نشدانًا بما به يغني ويساير الرّكب الأدبيّ العالميّ.
ولا ننكر أنّ الأدب المكتوب بالعربيّة في حالة تطوّر وارتقاء، مقارنة بآداب أخرى في لغات أخرى كثيرة، لكن هناك عدم تنسيق بين الجماعات الثّقافيّة، فالنّاشر لا يحرّك ساكنًا، وليس ثمّة سعي وراء النّشر أو المشاركة من فعاليّات عالميّة. وليس ثمّة مبادرات سوى من عدد قليل من المؤسّسات مثل مركز التّرجمة التّابع للجامعة الأميركيّة، وهو يهتمّ بعناوين بعينها.
كلّ هذه العوائق جعلت الأدب العربيّ ينعزل ويبتعد عن السّاحة العالميّة. في المقابل، نحن نتلقّف ما يفيدنا من الغرب ونقبل على ترجمته والأخذ منه من دون تردّد.
وتبقى الأسئلة المطروحة: ما هي الآليّات لكسر هذه العزلة؟ وكيف يمكن أن ننهض بأدبنا العربيّ ونخلق له موقعًا فاعلًا في الآداب العالميّة؟
أعتقد أنّ كلّ أديب، من موقعه، هو صوت فاعلٌ في العالم، هو ناقل للثّقافة والمعرفة، يؤدّي دورًا بارزًا في عمليّة المثاقفة.
وتظلّ العمليّة الإبداعيّة عمليّة تأسيسيّة تنطلق من الواقع، مهما كان نوعه، باعتباره مرجعيّة أساسيّة ومنطلقًا بديهيًّا، كما تستمرّ في نسج شبكاتها في الآفاق التي يستشرفها المبدع باعتباره النّاطق باسم الوعي الجماهيريّ في المجتمع الذي ينتمي إليه، وباعتباره حاملًا لرؤية أو رؤى، ومستندًا إلى مرجعيّة ثقافيّة ومخزون فكريّ. فالأديب، وكلّ آثاره وأعماله، ثمرة قوانين حتميّة عملت من القديم، وتعمل في الحاضر، وتظلّ تعمل في المستقبل. وعلى عاتقه تقع الكثير من المسؤوليّات، لأنّ الأدب انفتاح وليس انغلاقًا.
فإلى أيّ مدى يمكنه التّحليق في أقاصي السّماء؟
* كثيرًا ما نجد الشّعر العربيّ إمّا شعرًا غنائيًّا أو قصصيًّا قلّما نجد الشّعر المسرحيّ فلماذا؟
الشّعر المسرحيّ هو لون من ألوان الفنون الأدبيّة، ظهر في العصر الحديث، ولم يكن معروفًا في الأدب العربيّ قديمًا. ويطلق عليه في بعض الأحيان المسرح الشّعريّ أو الدّراما الشّعريّة أو المسرحيّة الشّعريّة أو الشّعر الدّراميّ.
ويستطيع الكاتب من خلاله أن يوصل أفكاره ومغزى قصّته للنّاس من خلال أفعال شخصيّات المسرحيّة وتحرّكاتها على مرأى الجمهور.
إنّ الشّعر المسرحيّ يرتبط بالعالم الغربيّ ارتباطًا وثيقًا وقديمًا، على سبيل المثال مسرحيّة “السّيد” لكورناي و”أندروماك” لراسين و”هارناني” لفكتور هوغو. وقد ظهر هذا الشعر في العالم العربيّ عام 1847. ويُعَدّ مارون نقّاش رائد هذا الفنّ في مسرحيّته “البخيل” ثمّ “أبو الحسن المغفّل أو هارون الرّشيد” وآخرها “السّليط الحسود”، وقد غلب الشّعر في هذه المسرحيّات، أو الرّوايات كما كانت تدعى. وبعده ظهرت أسماء عديدة أبرزها أمير الشّعراء أحمد شوقي الذي تأثّر بالأدب الفرنسيّ، ومن أشهر مسرحيّاته “مجنون ليلى، عنترة، مصرع كليوبترا”… كما طال الشّعر الزّجليّ المسرح، على سبيل المثال مسرحيّة “المرأة الهائلة” للشّاعر يوسف كريم غنيمه، و”هند وجميل” للشّاعر خليل روكز، وسواهما.
لكنّ هذا النّوع من الشّعر خفت صوته أوّلًا لصعوبته، حيث يقوم على تعدّد الأصوات، ما يحتاج إلى تقنيّات عالية ومختلفة لم يعهدها الشّاعر العربيّ من قبل، وثانيًا لأنّ الشّعراء باتوا منشغلين بعوالمهم الذّاتيّة، فخفّ في قصائدهم صدى ما يحدث من حولهم.
فنحن لو عدنا إلى تاريخ آداب العالم لعاينّا صحّة فكرة “فاوست”؛ فهوميروس اليونانيّ تخطّى كل العصور، لذا ما تزال العودة إلى “الأوديسة” و”الإلياذة” قائمة حتّى اللّحظة ليكون أبطاله حاضرين في الذّاكرة الإنسانيّة على مرّ العصور.
ونورد في هذا السّياق جيمس جويس الذي جعل من أوليس، بطل “الأوديسة”، رمزًا للإنسان الحديث التّائه في مدنيّة كبيرة تعجّ بالتّناقضات والصّراعات. وقد يكون أوليس مجسّدًا لهجرات زمننا حيث تُرغم المجاعات والحروب والأنظمة الاستبداديّة الفاسدة أعدادًا وفيرة من النّاس على ترك أوطانهم.
لا يمكننا أن نُنكر أنّ الكثير من الشّعراء قد أخذوا على عاتقهم القضايا الوطنيّة والاجتماعيّة، وصارت القصيدة معهم لسان المجتمع، وحاول بعضهم الآخر فتح القصيدة على تقنيّة المسرح، لكنّ هذه اللّفتة ما تزال خجولة.
ومع ظهور قصيدة النّثر، بدأنا نتبيّن قابليّة النّصّ الشّعريّ للانفتاح على أجناس أدبيّة مختلفة. فالشّاعر شربل داغر يكتب مجموعة شعريّة تحمل عنوان ترانزيت، هي أقرب إلى الشّعر المسرحيّ منها إلى الشّعر العاديّ، إذ يضمّنها أصواتًا متعدّدة تؤدّي وظائف مختلفة. وقد سبقه محمّد الماغوط في كتابة نصوصٍ فيها بعض تقنيّات المسرح، لا سيّما أنّه كاتب مسرحيّ من الدّرجة الأولى، والأمثلة كثيرة لا يتّسع السّياق لذكرها.
الواقع أنّ توجّه الشّاعر إلى الغنائيّة أو القصّة في الكتابة، يعود إلى أنّ القصيدة باتت خيارًا في يد الشّاعر، وصار المضمون هو الذي يحتّم اختيار الشّكل. فالشّعر الحديث أنزل القصيدة الحديثة من سماء الحنين الرّومنسيّ إلى أرض الحفاة والعراة والجائعين، من البلاغة إلى الاعتياديّة، من التّركيب المعقّد إلى البساطة، من اللّغة المجرّدة إلى اللّغة اليوميّة. فما عادت المضامين خياليّة أو رومنطيقيّة، وليست روائيّة، بل إنّ النّوع الأدبيّ الذي يحكم القصائد الجديدة بات خليطًا من قصص حُبِكَت بعضها ببعض بشكل سرديّ حكائيّ يوظّف فيه الشّاعر شخصيّاته، وينوّع في قصصه، كما بتنا نلاحظ وجود هويّة مزدوجة للأنا بين الشّاعر والمتكلّم ضمن أطياف تعبر التّلفّظ أو تتملّكه في علاقات شديدة الالتباس، حيث أُنزلت الأنا من مكانة العنجهيّة إلى مستوى الشّوارع والتّسكّع.
كلّ هذه التّغييرات حتّمت انفتاح القصيدة الحديثة على تقنيّات مختلفة، بما فيها الشّعر المسرحيّ، وإن ما زال خجولًا.
* ما تفسيرك لاختفاء الأديبات والشّاعرات في سنّ متقدّمة من العمر؟
نتحقّق في غير بلد عربيّ من حصول مبادرات، تدعو إلى منتديات تعالج أسباب الخلل، التّاريخيّ والحالي، بين المرأة والرّجل. كما يتمّ التّحقّق من خصوصيّة “الإبداع النّسويّ”، ومن الصّور المتبادلة بين الرّجل والمرأة في عمليّة الإبداع بصورة عامّة.
في الواقع، ما تزال النّظرة إلى المرأة بأنّها تخرج من ضلع الرّجل، من دون أن تكون مشاركة له في صنع الكون والبشر. وما لا يمكننا نكرانه أنّ الرّجال يخافون من ضياع السّلطة من بين أيديهم من خلال النّساء، ويصرّون على التّحكّم في مسار الحياة العامّة. بالتّالي، وإن حصلت المرأة على حقّ التّصويت والانتخاب، فإن المؤسّسات الدّينيّة تعرقل مسيرتها، ما يجعل خروجها عن القيود الاجتماعيّة، وتعبيرها عمّا يجيش في داخلها، مَنوطًا بشعور الخوف الذي يتحكّم بها.
ففي ذهنيّة الشّعوب: المرأة لترتيب المنزل وإعداد الطّعام، وهذا ما زلنا نجده في الكتب المدرسيّة التي تلحق المرأة بأدوار تقليديّة: “أمّي تطبخ، وتُعدّ الحلويات، أبي يعمل في المكتب”.
صحيح أنّ المرأة العصريّة غيّرت هذه الصّورة النّمطيّة التي تتحكّم في المجتمع، إذ تستطيع أن تحدّد حياتها بنفسها من دون أن تفقد أنوثتها، إلّا أنّ هذا الأمر يظهر بنسب متفاوتة حسب المجتمعات. والأديبات والشّاعرات، وإن استمرّت كتاباتهنّ فترة معيّنة من الزّمن، إلّا أنّ هذه الرّغبة سرعان ما تزول وتتلاشى كتلاشي خيوط الشّمس في الأفق لأنّ المجتمع لا يفيها حقّها.
فحتّى القارئ الغربيّ تترسّخ لديه صورة هيمنة الرّجال على المشهد الأدبيّ لأنّه لا يجد سوى أعمالهم مترجمة باللّغات الأوروبيّة الهامّة.
على الرّغم من ذلك، المرأة ابتداء بإنخيدوانا، الشّاعرة السّومريّة، التي سبقت شاعرة الإغريق، وانتهاء بجيل المبدعات المعاصرات في وطننا العربيّ، هي شاعرة مبدعة، وكاتبة متميّزة، ووسائل التّواصل الاجتماعيّ المختلفة سمحت للمرأة الأديبة أن تصل بكتاباتها، وتبقى صوتًا مسموعًا في كلّ أنحاء العالم.
لذلك أدعوها من “” أن تناضل وتجاهد وتكتب، ما دامت نقطة الحبر ما تزال ترشح من القلم.
* هل حقول الأدب العربيّ عمومًا تدعم حقوق المرأة؟
ترسّخت العلاقة بين اللّغة المكتوبة والرّجل على مرّ الزّمن. وقد جرى تزهيد المرأة بالعلم والكتابة وتخويفها منها . وقد طرح الجاحظ مصطلحين يحملان التّمييز والاحتكار. فجعل الكتابة للرّجل، والمكاتبة للمرأة .
وتجدر الإشارة إلى أنّ مصطلح المكاتبة يتضمّن التّحذير من تعلّم المرأة الكتابة. بالتّالي القلم مذكّر لا من حيث الصّيغة اللّغويّة فحسب، وإنّما من حيث الصّنعة الثّقافيّة والوظيفة الحضاريّة.
هذا هو النّاتج المعرفيّ لسيطرة الرّجل على الكتابة وعلى تاريخ اللّغة. وحين بدأت المرأة تزاحم الرّجل في كافّة ميادين الحياة، لا سيّما في الكتابة، أثارت فينا السّؤال الآتي: هل تستطيع المرأة أن تغيّر المعتقد الموروث بأنّ الكتابة حكرٌ على الرّجل؟
في الواقع، يعتبر الأدب النّسائيّ عربيًّا ظاهرة حديثة، بانت ملامحها خلال القرن العشرين، ويعدّ من بين المصطلحات الإشكاليّة المثيرة للجدل. فمجموعة من الكاتبات يرفضن توصيف إبداعاتهنّ في الشّعر والسّرد بالأدب النّسويّ، معتقدات بأنّه ينطوي على محاولة لتحجيم حضورهنّ الإبداعيّ على السّاحة الأدبيّة.
استنادًا إلى رأي الكاتب المغربيّ عبد اللّطيف الوارديّ، إنّ الأدب النّسائيّ حديث، لكنّه يؤطّره تاريخيًّا ضمن إشكاليّة الوضعيّة التّاريخيّة التي كانت عليها النّساء في العالم العربيّ، موضحًا أنّه كانت توجد عبر التّاريخ الثّقافيّ نظرة دونيّة ناجمة عن البنية الذّهنيّة للمجتمع العربيّ كانت ترى أدب المرأة بوصفه ضعيفًا لا يضاهي أدب الرّجل.
والواقع أنّ هذه النّظرة لم تتغيّر إلّا مع اشتداد الدّعوة الإصلاحيّة منذ أوائل القرن العشرين لتحرير المرأة، وقد شكّل الأدب النّسائيّ إضافة نوعيّة مهمّة للإنسانيّة كافّة، إذ أضفى نوعًا من التّوازن في الرّؤية إلى العالم. والأدب بشكل عامّ، والعربيّ منه بشكل خاصّ، لم يقمع المرأة، وإن بقيت إطلالتها خجولة عبر العصور. والصّور التي ظهرت فيها المرأة هي صورة الأمّ طبعًا، التي طالما يناديها الشّاعر العربيّ في قهوتها، أو في هزّات سريرها، أو في حنوّها على الفتى، من دون أن تصبح: أمّه هو، والمتّصلة بدمه هو.
وتُخالف هذه الصّورة صورة “المومس” عند الياس أبي شبكة ونزار قبّاني وبدر شاكر السّيّاب وغيرهم، أو صورة “مرتا البانية” وهي صور لا تعكس حال هؤلاء النّساء، بل تبدو مدوّنة مواعظ وتنبيهات. فهي تؤكّد القواعد الأخلاقيّة والسّلوكيّة السّارية في المجتمع التي أنتجها الرّجل ووضعها في نمط: المنقذة الخائنة.
ومن الصّور أيضًا، صورة المرأة الرّمز التي تحتلّ أجمل الصّور والقيم (الأرض الخصب التّجدّد). وفي قصائد الحبّ ما تزال المرأة صورة تعكس تمثّلات الوعي الذّكوريّ. ونتحقق منها في صورة شهرزاد، التي سرت في أدبيّات أوروبيّة وإنكليزيّة وفرنسيّة، ثمّ في الأدبيّات العربيّة، والتي تفيد أنّ شهرزاد في “ألف ليلة وليلة” بطلة “نسويّة” عربيّة، وهي تأكيدات ترى إلى المرأة في دهائها.
بالتّالي، إنّ الأدب العربيّ وإن تغفل عن دعم حقوق المرأة، فهي الآن تثبت نفسها على السّاحة الأدبيّة، تكتب بحرّيّة من دون أن تكون تابعة لأحد. صوتها يتحدّى كلّ مظاهر القمع، وقلمها يعبّر عن حرّيّتها ورغبتها بالانعتاق من كلّ التّقاليد البالية.
* كلمة أخيرة للمرأة العربيّة عبر فضاء “”.
أوّلًا أريد أن أتوجّه بالشّكر إلى ، وإليك أستاذ محمّد كريزم على هذا الحوار الممتع، وهذه الأسئلة المحفّزة التي دفعتني إلى البحث والتّمحيص والتّنقيب.
وما أودّ أن أقوله إلى المرأة إنّ الرّجل، وإن كان حقًّا واضع اللّغة الوحيد، فهو لم ينشئ اللّغة ضدّ المرأة. والعربيّة ليست مذكّرة، وإن كان بعض تكويناتها يحتاج إلى تبيّن ومساءلة، بدليل أنّها خصّت المرأة بأدوات خاصّة بالرّجل وأخرى بالنّساء.
أيّتها المرأة، حينما تغرّد العصافير، يتردّد صوتها في الفراغ الصّامت. فارفعي صوتك وسط الصّمت اللّغويّ، ليكون لك لغة تضارع لغة الرّجل وتقف معها. فطريقك إلى موضع لغويّ إبداعيّ لن يكون إلّا عبر المحاولة الواعية نحو تأسيس كتابة جديدة تحمل سمات الأنوثة، وتتموقع في نصّ لغويّ يعكس ذاتك التّوّاقة إلى ملامسة أشعّة الشّمس المتناثرة في الفضاء