الشر الممنهج في السجون السورية – أخبار السعودية
ولكن الظروف السياسية في بعض الأنظمة الديكتاتورية أدّت إلى تحويل السجن إلى مصانع للقمع وصناعة جلادين حاقدين على المجتمع، وتحول مجتمع السجون فيها إلى عالم جريمة مظلم بغطاء مؤسسي.
وقد خطفت السجون السورية الأضواء العربية والعالمية رغم وقوع أحداث سياسية أكثر شراسة منها مثل سقوط دمشق وانهيار النظام، وأصبحت حديث الشارع العربي والعالمي، رغم أن أكثرهم لم يسمع بها من قبل.
أدب السجون السورية: لغة الألم
كان سجن الأدباء والسياسيين نافذة واقعية وتجربة عميقة لفهم المآسي الإنسانية في السجون، وتعتبر تجربة أثنوغرافية؛ لأنها كتبت بالملاحظة وخوض التجربة من الداخل، وهي الحالة النادرة التي لا يستطيع المعذبون شرحها، ولا يقدر السجانون على كتابتها.
بدأ أدب السجون السورية في الثلاثينيات مع كتاب يوميات محمد عزة دَرْوَزَة، بعدما سجنه الاستعمار «الانتداب» الفرنسي، وأتيحت له فرصة تفسير القرآن في السجن.
وفي حقبة الستينيات دخل أدب السجون مرحلة جديدة مع حزب البعث، عندما أسّس حافظ الأسد سجنين، أحدهما سجن المزة السياسي وملأه برفاق دربه في الثورة، والثاني سجن تدمر (1966)، وهو مخصص لخصومه، واشتهر بمجزرة يونيو 1980. والمرحلة الثالثة جاءت بعد تخصيص سجن صيدنايا لقمع الثورة وتحويله إلى «مسلخ بشري» بحسب تقرير «هيومن رايتس ووتش» و«منظمة العفو الدولية» تقرير عن سجن صيدنايا.
كشفت روايات السجناء في سوريا ومقابلات المفرج عنهم وبعض المسلسلات السورية القديمة عن واقع الرعب المؤسسي ومصانع الموت بوجود سجون سيئة السمعة، ولكن لم يتنبه العالم إلا بعد مشاهدة مقاطع مصورة من داخل السجن وسماع قصص السجناء. فتداول العالم أسماء سجون صيدنايا وتدمر وفرع فلسطين كنماذج لأسوأ السجون التي عكرت الصفو الشعبي العام، وعادت بالذاكرة لسجون أبو غريب وغوانتنامو.
وتدور مواضيع روايات أدب السجون السورية حول قضايا الظلم والتعذيب والموت واليأس والأمل والتضامن والخيانة.
فقد كتب الروائي السوري مصطفى خليفة رواية «القوقعة: يوميات متلصص» (2008) وثق فيها تجربته كسجين سياسي لمدة ثلاثة عشر عامًا، بسبب تقرير كتبه عنه أحد زملائه أثناء دراستهم في فرنسا، ولكن الكاتب جعل تهمة البطل في الرواية الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، رغم أنه مسيحي.
وعكس فرج بيرقدار تجربة السجن في كتاب «خيانات اللغة والصمت» (2011). وكتب ياسين الحاج صالح كتاب «بالخلاص يا شباب» (2012) وثق فيها تجربته وتأملاته النفسية في السجون السورية لمدة 16 عامًا.
وأُنتج فيلم «تدمر» الوثائقي عن المعتقلين اللبنانيين في سجن في تدمر، من إخراج مونيكا بورغمان ولقمان سليم. ويعرض فيلم «الصرخة المكبوتة» الوثائقي شهادات معتقلات سوريات تعرضن للتعذيب والاغتصاب في السجون السورية.
وجميع هذا الإنتاج الأدبي يصور مشاهد الرعب الحقيقية، للإسهام في أن تقنع القارئ بحقيقتها، وأنها ليست من خيال أدباء.
وصدر تقارير منظمات حقوقية من أبرزها تقرير «قيصر» الذي يوثق آلاف الصور لضحايا التعذيب في السجون السورية، التي سرّبها مصوّر سابق لدى الشرطة العسكرية السورية عرف بنفسه باسم «قيصر»، وصدر بسببها «قانون قيصر» حول العقوبات الأمريكية على النظام السوري، وبعد سقوط النظام أعلن عن شخصيته الحقيقية، واسمه «أسامة عثمان».
صنع آلات القمع من الجلادين
تعد عملية تحويل الإنسان الطيب إلى متوحش ورؤيته للمساجين كحشرات تستحق التعذيب والموت بلا رحمة، من أعقد العمليات التي تتطلب تأهيلًا نفسيًا ومعنويًا كبيرين وتلاعبا بالمخ والأعصاب لغسل الأدمغة.
ولا يمكن أن تتحقق هذه العمليات إلا بمنظومة إجراءات، من أبرزها تحويل السجين من كائن بشري إلى رقم بسلبه اسمه ومنحه لقب «سجين رقم كذا»، ولا يعرف إلا به حتى يكون هويته، مما يسهل احتقاره وعزل إنسانيته بين السجانين.
وتتم عمليات اختيار الجلادين ممن لديهم استعداد للعنف أو ممن يحملون أحقادًا طائفية ودينية وتاريخية ويدينون لله بالعنف ضد مخالفيهم، والولاء المطلق نحو النظام، والإيمان بامتلاكه حق استخدام العنف والقتل.
ويتم تصيد الذين لديهم استعداد نفسي من الفئات الحاقدة على المجتمع لأسباب التهميش والفقر والبطالة. كما أن إعطاء الجلادين معلومات عن السجناء أنهم خطر وأعداء للوطن وخونة يجعل السجانين يشعرون أنهم حماة للوطن ويقدمون مهمات وطنية لا يقدر عليها كل أحد.
يمر الجلادون بعمليات تدريب طويلة تبدأ بالتأهيل النفسي ثم مشاهدة وسائل التعذيب وممارسة استخداماتها، ثم رؤية التعذيب ثم المشاركة الجزئية فيه وهكذا حتى يكون التعذيب جزءًا من شخصيته، ويتمايز مع الطبقة العليا من الجلادين، ويتنافس على مناصب قيادية تعطي الأوامر بالتعذيب.
وتعتبر تجربة ستانفورد التي تحوّلت إلى نظرية في صناعة الشر النموذج العالمي الأكثر تداولًا، وهي تجربة محاكاة للسجون أجريت في جامعة ستانفورد عام 1971، بتمويل من البحرية الأمريكية بهدف فهم الصراعات داخل السجون؛ فقد اختار الفريق العلمي مجموعة من أبناء الطبقة الوسطى والناس العاديين المتجانسين، ووزعتهم عشوائيًا إلى فئتين هما: سجناء يعرفون بأرقامهم وليس بأسمائهم، واتفقوا معهم على بدء التجربة بعد أيام، ولكن قبل الموعد المحدد تم إلقاء القبض عليهم دون إخبارهم وإلصاق تهم ظالمة، فتوهموا أن هذه قضية مختلفة، مما جعلهم يتعاملون معها بمشاعر حقيقية.
والفئة الأخرى: سجانون لديهم زي موحد ببدل عسكرية وعصي ونظارات سوداء، لتجنّب التواصل البصري مع السجناء، ومنحتهم صلاحيات مطلقة في التعذيب.
انهارت التجربة بعد أيام عندما تحوّل السجانون إلى آلات قمع سادية، وأصيب كثير منهم باضطراب عاطفي، وصدر كتاب «تأثير الشيطان: كيف يتحول الأخيار إلى أشرار» (ترجم إلى العربية 2019) لرئيس الفريق العلمي زيمباردو، وأنتج بناء على التجربة ثلاثة أفلام تحمل عنوان «التجربة» (2001، 2010، 2015).
وفي عام 1967 تساءل علماء الاجتماع والنفس الأمريكيون: هل يمكن أن تعود النازية إلى العالم بعد القضاء عليها وإعلان أوروبا ديموقراطية؟ فأجريت تجارب في مدرسة ثانوية ألمانية، وأوقفت التجربة بعد انفلات الوضع وظهور طلاب لديهم نزعة نازية ورغبة في استخدام العنف والظلم إذا منح الصلاحيات الكاملة، وصدر حولها فيلم «الموجة» من إخراج دينيس غانسل.
وبذلك يمكن أن تتحول السجون إلى منظومة عمل مؤسسي، وينقل الجلادون ذوو الخبرة خبراتهم إلى الجلادين الجدد ويغذونهم بقصص تغرس روح العنف والكراهية ضد السجناء وطمس قيم التعاطف معهم، ثم يتحول الجلاد إلى آلة قمع.
الصدمة العالمية
شكّلت مقاطع الفيديو التي انتشرت عالميًا على منصات التواصل الاجتماعي بعد فتح السجون السورية صدمة دولية لفداحة واقعها، فكانت أول مواجهة مباشرة مع واقع السجون تؤكد شهادات الروايات الأدبية والتقارير، ما سبّب صدمة نفسية شعبية سيطول أمدها.
سوف تلهم القصص الأخيرة لصدور أدب جديد للسجون، وسينما جديدة لتوثيق ما حدث، وإنتاج أفلام بحشد روايات أخرى من شهود عيان؛ وذلك لأن الروايات تدور في سياق أدبي نخبوي، بينما هزت الصور الحية من كاميرات هواتف الناس العالم، وأظهرت تجارب لم تخطر على خيال الأدباء.
كان أعظم إنجاز للسجين أن يحتفظ بسلامة عقله من الجنون، ويتجاوز به حدود التعذيب النفسي والجسدي والظلم. وقد أظهر تصوير المقاطع عن سجناء أصيبوا بالجنون وفقدان الذاكرة والهلوسة، وسجناء لا يعرفون أن حافظ الأسد مات قبل ربع قرن، وسجينة لديها أبناء حملت بهم وولدتهم في السجن لا تعرف آباءهم، ويذكر لي صديق سوري قصة سجين عثر على مرآة، وفجع عندما رأى وجهه لأول مرة بعد 15 عامًا لم يشاهد نفسه، وهاله تغير ملامحه من أثر التعذيب.
ختام
كانت لحظة فتح السجون علامة فارقة في التاريخ، وتجاوزت أحداث الثورة بجميع مآسيها منذ عام 2011؛ لأن أعظم الانتصارات هي التي تعيد كرامة الإنسان، وهزيمة الظلم والقمع، وستكون امتحانًا صعبًا للسوريين يختبر قدرتهم على تجاوز الموقف وبناء مصالحة وطنية جديدة.
وأجدها فرصة لتأكيد الدعوات التي تطالب بتحويل سجن صيدنايا إلى متحف للتذكير بحقبة تاريخية غير مسبوقة ولمنع تكرار التجربة.
وفي ظل هذه اللحظات التاريخية لا يمكن إغفال رصد المزاج السوري العام الذي يعيش حالة امتنان عميق للشعب السعودي الذي فرح لفرحه وأعلن وقوفه الدائم إلى جانبه؛ معبّرًا عن وحدة إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية لتجسد أساسًا لعلاقات شعبية صلبة.
وهذا الانتصار بمثابة بداية رحلة جديدة وطويلة من البناء والإصلاح. يسهم فيها أبناء البلد الواحد في رسم سياسة بلادهم في المرحلة المقبلة، والعمل على عدم تكرار تلك المآسي في تاريخهم، من خلال بناء منظومة من الأنظمة والسياسات الكفيلة بالمحافظة على حقوق الإنسان، والعدالة الإنسانية، وإعادة السجن إلى كونه مكانًا للإصلاح وتعديل السلوك، دون تجاوز الحد في العقوبة والإيذاء.