اخبار المغرب

بنكراد: مفعول التخييل يسكن التفاصيل .. والتاريخ يتوارى خلف العناوين

هناك الكثيرُ من الوقائِعِ التي تكشِفُ عن هشَاشةِ الحدودِ بين التّاريخِ والتّخييلِ، فهُما معاً من طبيعةٍ سرديّةٍ، إِنَّهمَا تَمثِيلٌ لِزمنِيَّةٍ تَحضُرَ فِي الوعْي مِن خِلَال رصْدٍ دقيقٍ لتفاصيلِ خبرةٍ إنسانيّةٍ قابلَةٍ للسّردِ؛ فقد يكونُ النّاسُ مُنشدّين إلى حقائقِ وجودِهم، ولكنّهم مع ذلك يُسْنِدون الكثيرَ من مُثُلهم وقيمِهم إلى شَخصيّاتٍ لا تَعيشُ إلّا في مخيّلتِهم؛ فرجب وأحمد عبد الجواد وعنترة العبسيُّ كائناتٌ من التّخييلِ حقّاً، لكنّها تُشكّلُ في ذاكرةِ قُراءِ الرّوايَةِ والشّعرِ نماذِجَ للصّمودِ والمقاومةِ والذكوريّةِ المفرطةِ والفروسيّةِ والعِشقِ المُسْتَحيلِ. “فجميعُها وغيرُها تَعيشُ بيننا في استقلالٍ عن النصِّ وعن العوالمِ الـمُمكنَةِ التي وُلدَتْ فيها، وقد نَجِدُ أحيانا صعوبةً كبيرةً في التّفكيرِ فيها خارجَ واقِعنا”.

وقد تكونُ هذه الهشاشةُ أيضاً هي التي جعلَتْ نسبةً كبيرةً من الأطفالِ البريطانيّين يَعتقدونَ في “واقعيّةِ” شارلوك هولمز في التّخييلِ السرديِّ، لكنّهم يشكّكون في حقيقَةِ تْشرشل في السجلِّ التّاريخيِّ، فالدّفءُ الإنْسانيُّ في الأوّلِ كان أقوى بكثيرٍ من مَردوديّةِ الثّاني في الحقلِ السياسيِّ. لقد تَسلّل هولمز إلى تَفاصيلِ حياةِ النّاسِ في الواقعِ، فهو عندهم رمزٌ للذّكاءِ والنّباهةِ ودقّةِ التحرّي، بينما ظلَّ تشيرشل حبيسَ وقائعَ تاريخيّةٍ لا يَذْكُرها النّاسُ إلا في المدارِسِ ومُدرّجاتِ المعاهدِ والجامعاتِ. يُوحِي هذا التّداخلُ أو يُوهِمُ بإمكانيّةِ وجودِ تطابقٍ بين ما يُمكنُ أنْ تَبْنيه كلماتُ التّخييلِ، وبين ما يُوجدُ في حقيقَةِ الواقعِ. فنحنُ لا نَذهبُ إلى الأشْياءِ في حقيقتِها، إنّنا نستَحضرها من خلالِ تمثُّلاتِنا عنها، وذاك ما تَحتفِظُ به ذاكرتُنا.

لذلك لن تَقولَ اللُّقى الأثريّةُ وبقايا الحياةِ التي كشفَ عنها الحفريّون إلا القَليلَ عن شرطِ السّابقين عنّا في هذه الأرضِ، فالزمنيّةُ فيها تشكو من خصاصٍ في التّشخيصِ. إنّ العودةَ إلى المحكيّاتِ وحدَها يُمكُن أنْ تَبعثَ الرّوحَ فيها وتُخرِجَها من صمتِ المفاهيمِ الواصِفةِ لها؛ وهذا ما يُؤكدُ أنّ “روايةً جيّدةً قد تَشتمِلُ على قدرٍ كبيرٍ من الحقائقِ يفوقُ بكثيرٍ تلك التي يمكنُ أنْ نَعثُرَ عليها في كتابٍ سيئٍ في التّاريخ”. وهي صيغةٌ أخرى للقولِ إنّ حقائقَ الأدبِ أطولُ عمراً وأشدُّ تأثيراً من تلك التي تُبنى في التّاريخِ.

ومعنى ذلك أنّنا لا نَنظرُ إلى ما يُبْنىَ في التّخييلِ باعتبارهِ أكاذيبَ خالصةً، لكنّنا لا نَجزِمُ أنّ التّاريخَ لا يأتي سوى بالحقائِقِ أيضاً؛ فلا وجودَ لتخييلٍ يَبْني عوالـِمَه في انفصالٍ كلّيٍّ عن عوالِـمِنا، ولا وجودَ أيضاً لتاريخٍ خالِصٍ يُبْنَى في المفاهيمِ والوقائعِ وحدَها، ففي الحالتين معاً ليس هناك سوى السّردِ، فهو وحدَه قادرٌ على ضبطِ إيقاع الوقائعِ في الزّمنِ، وهو ما يُحدّدُ كمَّ الحقائقِ فيها. وذاك هو الفاصلُ بين ما يُمكنُ أنْ يُصاغُ في تخييلٍ يُعيدُ للشّخصيّاتِ “لَحـْمَها ودمَها”، وبين ما يُوصفُ ضمن قاعدةٍ تمثيليّةٍ لا نَحتفِظُ منها سوى بالاسمِ والوظيفةِ والكُنْيةِ. تُعدُّ الأولى كائناتٍ تَتمتّعُ بدفءٍ إنسانيٍّ، أمّا الثانيّةُ فليستْ سِوى أشباحٍ. وتلك صيغةٌ أخرى للقولِ إنّ حقائِقَ التّخييلِ تُولدُ وتَنمو وتنْدثرُ على هامِشِ الزمنيّةِ المألوفَةِ، أمّا شخصيّاتُ التّاريخِ فإنّها تَظلُّ أسيرةَ شرطِها الزّمنيِّ. “هناك تَداخُلٌ بين زمنيّةٍ تاريخيّةٍ مودَعةٍ في الوجودِ الكونيِّ وبين زمنيّةٍ تتحكّمُ فيها تنويعاتُ التّخييلِ”.

وذاك صنيعُ الرّوائيين أيضاً. لقد سرّبَ نجيب محفوظ في ثلاثيّتِهِ الكثيرَ من وقائعِ التّاريخِ في محكيّاتٍ أعادَ بناءَها في التّخييلِ. لم تكنْ هذه الرّوايةُ، بالتّأكيد، تاريخاً، ولا يُمكنُ تَصنيفُ أحداثِها ضمنَ الذّاكرةِ التّاريخيّةِ لشعبِ مصر، ومع ذلك كانَ عالـمُها محاصراً في تفاصيلهِ وأحكامِه بزمنيّةٍ تاريخيّةٍ لا يُـمكنُ إنكارُها: إحالاتُه الدائمةُ على حاراتِ القاهرةِ وأزقّتِها، وإحالاتُه على الأحزابِ وأسماءِ الملوكِ والزعماءِ السياسيّين، والفنّانين والمظاهراتِ، والمطالبةِ بالاستقلالِ. وهناك أيضاً أنماطُ العيشِ واللّباسِ والسّلوكِ الاجتماعيِّ والقيمِ الأُسَريّةِ. لقد كانت الرّوايةُ تصِفُ محيطاً ألِفته ذاكرةُ القارئِ، فالأشياءُ والكائناتُ الموصوفةُ فيها كانت جزءاً من تجربتِه الحياتيّةِ.

يتعلّقُ الأمْرُ في جميع هذه الإحالاتِ بمصالحةٍ بين ما يُمكنُ أنْ يُصدِّقَ عليه التاريخُ فعلاً وبين ما لا تُثْبِتُه سوى الكلماتِ التي تَصِفُه. يَندرجُ الأوّلُ ضمن إثباتٍ يُدَوَّنُ في الذّاكرةِ الفعليّةِ بامتداداتهِ في سلوكِ النّاسِ. أمّا الثّاني فلا يُشكّلُ سوى عالمٍ ممكنٍ موطنُه التّمثيلُ السّرديُّ وحدَه.

فكمالُ والآخرونَ في الرّوايةِ لا وجودَ لهم الّا في التّخييلِ، أمّا حاراتُ القاهرةِ وأزِقَّتُها فموجودةٌ في حقيقةِ الواقعِ. لذلك لا يُكلِّفُ الروائيُّ نفسه عناءَ تَبرير ما يصفُ، “وليس على المؤرّخِ نقلَ الواقعِ نقلاً أميناً أيضاً، بل عليه فقط شرحَه”. إنّ قارئَ الرّوايةِ يُؤمنُ بما يَقرأُ، إنّه يَضعُ ثقتَه في كَلماتِ الرّوائيِّ، أما في التّاريخِ فإنّه يبحثُ عن معنى الأحداثِ في ذاكرةِ الوقائِعِ ذاتها.

لقد كان سعد زغلول في الرّوايةِ كائناً واقعيّاً، أي وُجدَ ضمنَ وقائِعَ سجّلها التّاريخُ حقّاً، أما أحمد عبد الجواد فلم يكن سوى شخصيّةٍ من صُنعِ خيالٍ جامحٍ. لقد “استَعانَ” به الروائيُّ من أجلِ منحِ الزّعيم السياسيّ حياةً في التّفاصيل الواقعيّةِ، أي مَنْحِه دفئاً إنسانيّا لا يَقولُ عنه التّاريخُ أيّ شيءٍ. لقد وَضعَ بذلك روايتَه ضمن إكراهاتِ المعيشِ اليوميِّ دون أنْ تفقِدَ صلتَها بالتّاريخِ المحليِّ والكونيِّ.وذاك كانَ سبيلَ الذّاتِ السّاردَةِ إلى الذّهابِ إلى التّاريخِ عبر مُـمْكناتِ التّخييلِ. وهذا معناه “أنّ النّصوصَ التّخييليّةَ لا تَضعُ قِصّتَها في عالمٍ مختلفٍ كليّاً عن عالـمِنا، وإن كانت تَروي خرافاتٍ أو محكياتٍ من الخيالِ العلميِّ. ففي الحالةِ التي تَتحدّثُ فيها عن غابةٍ مثلاً، فإنّ هذه الغابةَ ستكونُ بالضّرورةِ شبيهةً بالغاباتِ التي نَعرفُها في عالـمِنا، حيثُ الأشجارُ نباتاتٌ وليستْ معادنَ”.

إنّنا ننتَقلُ من المعاينةِ المحايدةِ إلى التّشخيصِ السّرديِّ. إنّ المجرّدَ المفهوميَّ خالٍ من الأحكامِ ولا زمنَ فيه. فالظّلمُ في الأرضِ لا تُجسّدُه مفاهيمُ تَصفُه وتُحيطُ بمضْمونِه، إنّه يُودَعُ في محكيّاتٍ تَروي تَفاصيلَه في حياةِ النّاسِ.فمن الوقائِعِ البسيطَةِ التي تُشيرُ إلى أشكالِه، كما يَعيشُها أفرادٌ مَعزولون نَبْني تاريخَ الظّلم ِالإنسانيِّ في الأرضِ. لذلك نُظِرَ إلى “التّاريخِ باعتبارِه روايةً كانتْ، أما الرّوايةُ فهي تاريخٌ كان من الـمُمكنِ أنْ يَكون”. فحيثُ يَتوقّفُ عملُ المؤرّخِ يَبدأُ عملُ الرّوائيِّ، إنّ ما يَظلُّ “مُهمَلاً” أو ما لم يَنتبِهْ إليه المؤرّخُ أو تجاهَلَه أو لا يُعدُّ عُنصراً “مهمّاً” في القِصّةِ، هو ما يُعيدُ الرّوائيُّ صياغتَهُ في التّخييلِ. “فحيثُ لا يُوجدُ سردٌ لا يُوجدُ تاريخٌ أيضاً”، كما يقول كروتشي.

وهي صيغةٌ أخرى للقولِ إنّ الروائيَّ لا يَبحثُ عن معنى موجودٍ بشكلٍ سابقٍ في الوقائِعِ المسرودَةِ، بل يقومُ ببنائهِ ضمن هذه الوقائعِ ذاتِها، في حين تَتّجهُ غاياتُ المؤرّخِ إلى تحويلِ كلّ الوقائعِ إلى مفاهيمَ صامتةٍ، أي إلى معانٍ. إنّ الوَصفَ التّاريخيَّ لا يَكتَفي بمحاكاةِ أفعالٍ، بل يُـمْسكُ بدلالاتِها أيضاً، فذاك ما “يُغذّي التّداخلَ بين التّاريخِ باعتبارهِ محكيّاً لوقائعَ سجَّلتها الذّاكرةُ، وبين التّاريخِ باعتبارِه نشاطاً فكريّاً”. أمّا الروائيُّ فيتحرّكُ حراً بين وقائعَ يَعرفُها جميعُ النّاسِ، وبين أخرى هي من صُنْعِ خيالهِ؛ فيَكفي أنْ يَصفَ الأكواخَ المهترئةَ لكيْ يُدركَ النّاسُ معنى الفقرِ، ويكفي أيضاً أنْ يأتيَ على ذكرِ عَلَمٍ من السيَاسةِ أو الفنّ أو الدّينِ لكي يستحضرَ القارئُ لحظةً في التّاريخِ.

بعبارةٍ أخرى يتعلّقُ الأمر بالكشفِ عن حقائِقَ لا تَكشِفُ عن نفسِها من خلالِ مفاهيمَ تعيّنُ وتُسمّي، بل من خلال نشاطٍ سرديٍّ يَستعيدُ سلوكاً تمّ في الواقِعِ؛ فالسّردُ شرطُ الزمنيّةِ وهو الدالُّ عليها، “إنّه حاضرٌ في الرّوايةِ، كما هو حاضرٌ في التّاريخِ أيضاً؛ إنّ الفاصلَ بينهما هو ‘الكمُّ المودَعِ فيهما’”. وهو “ما يَعني أنّ ما يُميّزُ القَصصَ “التّاريخيّةَ” عن القَصصِ “التّخييليّةِ” هو مُحتواها لا شكلُها”، ذلك أنّ الحقيقةَ ليست دائما برهنةً علميّةً، والكينونةُ تعبِّرُ عن نفسها بطرقٍ متعدّدةٍ. إنّ التّجربةَ الحياتيّةَ قد تُبنَى أيضاً على هامشٍ زمنيّةِ التّاريخِ الفعليِّ. لذلك قد يكونُ التّخييلُ ذاتُه “أداةً موجّهةً إلى بلورةِ معرفةٍ تخصّ العالمَ”.

وهذا معناه أنّ الزّمنيّةَ ليست في الواقعةِ، إنّها تُصبُّ في المحكيِّ الذي يُشخِّصُها، فمن خلاله تُصبحُ مرئيّةً في سلوكِ النّاس حيث الحنينُ إلى ما مضى أو التّوقُ إلى ما سيأتي وحيث النّدمُ والترجّي. إنّنا نَقِي أنْفسَنا من التّلفِ والضّياعِ من خلالِ نسْجِ محكيّاتٍ دالّةٍ على وجودِنا في الزّمن. فتجربةُ الزّمنِ تُقاسُ على التّفاوتِ القائمِ بين زمنيّةِ الحكْي وبين زمنيّةِ الأحداثِ المحكيّةِ. إنّنا، من خلال ذلك، لا نُحيي تجربةً ولّت ولن تَعود أبداً، بل نُفسّرُ ما يَحدُثُ الآن استناداً إلى ما حدثَ قديماً أو ما كان من الممكنِ أن يقعَ.

استناداً إلى ذلك ستَظلُّ الشّخصيّاتُ التّخييليّةُ ثابتةً في الذّاكرةِ، كما رَسَمها خيالُ الرّوائيِّ، فذاك ما يمنَعُنا من التّشكيكِ في “حقيقتِها”، في حين تتميّزُ شخصياتُ التّاريخِ بتحوّلاتِها في التّدوينِ التّاريخيِّ، فهي تَعيشُ في ذاكرةِ المؤرّخِ حسب ما تـُمِدّه به الوثائقُ والشّهاداتُ، ووفقَ ما يعودُ إلى موقفِه مما يَسردُ أيضاً: هناك من يَرى في السّلطان مولاي إسماعيل طاغيةً عاش بالدّماء، وهناك من يرى فيه ملكاً مؤسّساً لإمبراطوريّةِ مازالت ممتدّةً في التّاريخِ المعَاصِر. وقد نظرَ الأتراكُ العَلمانيّون إلى كمال أتاتورك، مؤسّس تركيا الحديثةِ، باعتبارِه بطلاً قوميّاً، ولكنّه كان في نظرِ الإسلاميّين هو من أسْهمَ في القَضاءِ على دولةِ الخلافَة الإسلاميّةِ. يَندرجُ هذا التّفاوتُ ضمن ما يُسمّيه هايدن وايت “الانخراطَ الإيديولوجيَّ” للمؤرّخِ، فالذي يكتبُ نصوصاً في التّاريخِ لا يَستطيعُ خلاصاً من قناعاتِه في الدّين أو السياسةٍ.

وتلك هي طبيعةُ السّردِ في التّخييل والتّاريخِ على حدٍّ سواء؛ إنّه مَطاطيٌّ وعُرضَةٌ لِتأْويلاتِ المتلقِّي ومسبَقاتِه في الحكمِ على الأحداثِ، إنّه جُزْءٌ أساسيٌّ من ذَاكِرةٍ محشوّةٍ بِالوضْعيَّاتِ الشّبيهةِ بمَا يُسْرَدُ أو يُوصَف في المحكيّاتِ التي احتفظتْ بها الذّاكرةُ الجماعيّةُ؛ وذاك سبيلنُا إلى استحضارِ ما وقع قديماً. إنّ السّردَ يُحيي ويُميتُ ويملأُ كلَّ الفَجواتِ التي تَستَعْصي على الضّبطِ التّاريخيِّ أو تُفلِتُ من سلطانِه، وهو أيضاً ما يُـمَكّنُنا من استِعادةِ ما ضيّعناهُ في زمنٍ “نَفعيٍّ” لا نَنْتبِه إليه إلّا في النّادرِ من الحالات. وبذلك وجبَ النّظرُ إلى حياةِ النّاسِ باعتبارِها “نصوصاً” سرديّةً تُرْوى في المحتملِ، وتكونُ بذلك قادرةً على استيعابِ لحظاتِ الأزْمةِ والاحْتِباسِ والقَطائِع والتحوّلاتِ المفاجئِة، فذاك ما يُمكِّنُنا من خلقِ روابطَ دائمةٍ بين الماضي والحاضِر. إنّ “الماضي ليس شيئاً آخر غير ما نَودّ تذكُّرَه”، كما يقول سارتر.

وهذا معناهُ أنّ وجودَ الخطابِ التّاريخيِّ ذاتِهِ لا يُمْكِن أنْ يَستقِيم إِلَّا إِذَا اسْتطَاعَ تَخلِيصَ التَّجْربةِ الموصوفَةِ من مرجعيّتِها الزمنيّةِ المباشرَةِ وتحويلِها إلى خبرةٍ قابلةٍ للتّعميمِ. “فالتّاريخُ لا يحتفظُ إلا بالوقائعِ الجديرةِ بالتذكّر” (شيشرون). والجديرُ بالتّذكّرِ ليس نسخةً معزولةً، بل هو نموذجٌ عامٌّ لخبرةٍ تضمُّ داخلَها ما تحقّق أو كان من الممكنِ أن يتحقّقَ في سلوكاتٍ مفردةٍ: إنّ الحبَّ لا يتحوّلُ إلى قيمةٍ مجرّدةٍ إِلَّا إِذَا تَخلَّص مِن كلِّ الحِكايَات المخصوصةِ لهذا العاشقِ أو ذاك، حينها يُصْبِحُ دالًّا على قصّةِ العشقِ كما عاشها كلُّ العشّاقِ في الأرضِ.

وهذا ما يؤكّدُ أنّ المفْهومَ يحتاجُ دائمًا إِلى مَا يُصدِّقُ على مضْمونِه، لكنّ الأفعالَ أيضاً لنْ تُصبحَ حدثاً إلا ضمنَ مآلٍ بعينِه، ما يُمكنُ أنْ يَندرجَ ضمن كرونولوجيا موجّهةٍ إلى بناءِ قصّةٍ. لِذَلك لا يَستقِيمُ السَّرْدُ التّاريخيُّ إِلَّا إذا كان أفُقُهُ مَفاهِيمَ مجرّدةً تُخْبِر عن حَقِيقَةٍ موْضوعيَّةٍ تَخُص مَرْحَلةً بِعيْنِهَا (خلاصاتُ الـمُؤرخِ وأحْكامُه)، فِي حِين لا يَحْتاج السَّرْد التَّخْييليُّ إِلى ذلكَ، فَهُو يَحتَفِي بما يُبْنى في المحكيِّ دون اهتمامِ بِمرْجعيَّاتٍ قد لا يلتفتُ إليها القارئُ أبداً. وذاك مَا يَفصِلُ بَيْن المفْهومِ والوَجْه الحدَثيِّ. إِنَّ المفْهومَ مُجرَّدٌ وعَامٌّ ومُشْتركٌ، أَمَّا الحدثُ فمخصوصٌ لا يستمدُّ معناه إلّا من المحكيِّ الذي يَحتَضنُه، إنّه وثيقُ الصّلةِ بالفعلِ.

ووفق ذلك يمكن أن يكون الحدثِ التّاريخيِّ الواحد مصدراً للكثيرِ من المحكيّاتِ في السّردِ: اختُطِفَ المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر سنة 1965 في أحدِ شوارعِ باريس في الحيِّ اللاتينيِّ، وذاك هو الحدثُ في الـتّاريخِ، ولا أحدَ يَعرفُ بالتّدقيقِ يوم تصفيّتِه واليدَ الآثمةَ التي قامتْ بذلك. واستناداً إلى هذا الحدثِ التّاريخيِّ تناسلتْ محكيّاتٌ كثيرةٌ كانت جميعُها تَضعُه ضمن “حِبكةٍ” مخصوصةٍ حاولتْ السّلطةُ بكلِّ الوسائلِ التّشويشَ عليها، بما فيها تسميّة الشّوارعِ باسمه، وحاولَ أتباعهُ، استناداً إليها أيضاً، إرساءَ قواعدَ قصّةٍ تُدينُ القتلةَ والآمِرَ بالقتلِ. إنّها مجموع القصصِ التي أصبحتْ مع مرور الزّمنِ جزءاً من تاريخِ السّلطةِ ومن تاريخِ اليَسار السياسيِّ في المغرب: القصصُ التي تُدين القتلَ والقتلةَ وتلك التي تنفيه أو تُبرّرُه.

وذاك ما يُميِّـزُ الذّاكرةَ الدينيّةَ أيضاً في تَعامُلِها مع وقائعِ التّاريخِ، فعددٌ كبيرٌ من صحابَةِ الرّسولِ وتابِعيه تَحوّلوا إلى شخصيّاتٍ فيها من التّخييلِ ما قد يُغطّي على وجودِها الحقيقيِّ، فكلُّ الوقائعِ التي تَعودُ إليها هي احتفاءٌ بالدّينِ لا وصفٌ لقوّةِ الإيمانِ عند الصّحابةِ والتّابعين؛ يتعلّقُ الأمرُ بهوياتٍ تُضافُ إلى سجلّهم المدنيِّ، إنّها تتبلوَرُ حسب ما تتطلّبه تعاليمُ الدّينِ، لا استناداً إلى تفاصيلِ حياتِهم في حقيقَةِ التّاريخِ. فعمر بن الخطاب في ذاكرةِ العامّةِ لا يُحيلُ على شخصٍ في التّاريخِ، بل هو رمزٌ للعدْلِ “المطْلقِ”.

وهو أمرٌ يُشيرُ إلى أنّ الذّاكرةَ التّخييليّةَ لا تُلْغي وقائعَ التّاريخِ، بل تَتعاملُ معها وفقَ تَوجيهاتٍ عقَديّةٍ مُسبقَةٍ قد تَدفَعها إلى إعادةِ صِياغتِهَا فِي شَكْل اسْتعاراتٍ تَختَفِي فِي الغالبِ فِي تَفاصِيلِ المحكيِّ؛ إنّها تُضمِّنُها نَفَساً سرديّاً يَضعُها في قَلبِ “الزّمنِ الدينيِّ”. فهذا الزّمن ليس “نفعيّاً”، إنّه ذكرى دالّةٌ على البدءِ والنّهايةِ التي يَسيرُ الإنسانُ نحوها بإصرارٍ. إنّ السّردَ احتفاءٌ بزمنيِّة تتحقَقُ في الـمـُمكنِ الحياتيِّ، لا في زمنيّةِ الوقائعِ التّاريخِيَّةِ وحدَها. إنّها نسبيةٌ تؤجّلُ الحكمَ أو تعلّقُه أو تقلّصُ من مَداه.

وتلك إشارةٌ إلى أنّ التّاريخَ يبعثُ الحياةَ في وقائعَ من الحياةِ قد لا يُنكِرُها النّاسُ، في حين “تَقتَرحُ علينا الرِّوايةُ شكْلاً آخر للواقعيّةِ يكون قادرًا على اسْتثارة تفاصيلَ حياتيّةٍ ووصْفِ شخصياتٍ وأماكِنَ من كلّ نوعٍ، وذاك ما يُمكِّنُها من التَّسلُّلِ إِلى الرُّوحِ الإنْسانيَّةِ والإحاطةِ بمضمونِها. إنَّ الرِّوائيَّ، مثَلهُ في ذلك مثلُ التّشكيليِّ في علاقَتِهِ بالرّسمِ والألوانِ، يُحاولُ هو الآخرُ خلقَ تَطابُقٍ بين الكلِماتِ والأشياءِ”. إنّ التّاريخَ مُحاصرٌ بتجربةٍ زمنيّةٍ لم يخترْها المؤرّخُ، إنّها مِلْكٌ للزّمنِ الكونيِّ، أمّا الروائيُّ فحرٌّ في اختِيارِ ما يَشاءُ منها حسب ما تَقتَضيه حِبْكةُ السّردِ التّخييليِّ. ومع ذلك لا تختلِفُ مَهمّةُ المؤرّخِ عن مهامِ الروائيِّ، فهو أيضا يقومُ ببناءِ عالمٍ استناداً إلى وقائعَ تُقدّمُها وثائقُ خامٌ. لذلك لا يُمكُن تأويلُ وقائعِ التّاريخِ والتّخييلِ في انفصالٍ كُلّيٍّ عن القصدِ الخاص للمؤرخِ والروائيِّ.

يدلُّ هذا على أنّ معنى الحدَثِ يُستمَدُّ من القِصّةِ لا من العناصرِ التي تُكوّنه، أي يُبنى في السّردِ، فهو قد يُستَعمَلُ في قَصصٍ متعدّدةٍ تُبنى وفق غاياتٍ توجدُ خارجَه. وهذا ما يَقومُ به اليوم دعاةُ “الموريّة” المزعومةِ في بِلادِنا؛ إنّهم يَلتقِطون من أرْشيفِنا ومن أرشيفِ غيرنا وقائعَ وأحداثاً مفصولةً عن سياقِها في الزّمنِ من أجلِ بناءِ قصةٍ لا يُمكنُ أنْ تُوجدَ إلا في فرضيّاتهم، أي في مخيّلتهم؛ إنّهم يُقدمون للنّاسِ أمّةً تنبعثُ من العِرْقِ لا من حَقائقِ التّاريخِ.

وهو أمر تؤكده كتابةُ الموسوعاتِ أيضا، فقد تنبّه الكثيرُ من الباحثينَ إلى أنّ عمَلَ هؤلاء ليس تدويناً خالصاً لحيواتٍ أو وقائعَ. فصِناعَةُ الموْسوعاتِ التّاريخيَّةِ في فرنسا مثلاً ليستْ خاليّةً من الأحْكامِ المسبقَةِ؛ إنّ الزّمنَ السّرديَّ فيها هو ما يَتحكَّمُ في نمطِ تَدوينِ بعض حقائقِ الماضي. فاختِيارُ “زمنٍ للفعلِ” للإحَالةِ على شخصيّةٍ في التّاريخِ يُعدُّ جزءاً من هذا التّاريخِ، فهذا الزّمنُ هو الّذي يَتَحكَّم فِي صياغةِ المحكِيِّ، وهو الذي يُوَجِّهُ القارئَ إلى مَوقفٍ بعيْنه. دليلُهم في ذلك أنّ القائِمين على هذِه الموْسوعاتِ يَميلون، استناداً إلى طبيعةِ هذه الأفعالِ، إلى اسْتِعْمال “الماضي البسِيط” ( le passé simple ) عندما يَتحدّثونَ عن “زُعماءِ اليَسَارِ”، لكنّهم يَستعمِلونَ في الغالبِ “الماضِي المرَكّبِ” (passé composé) لِبَسط القوْل فِي حَيَاة “زُعَماءِ اليمِينِ”.

إنّ الفعلَ الأوّلَ، في الفرنسيّة دائماً، قصيرٌ ومحدودٌ في الزّمنِ، أمّا الفعلُ الثّانيِ فيُعبِّرُ عن حدثٍ وقعَ في الماضي لكنّه يُمكنُ أنْ يكونَ ممتدّاً في الحاضِر. وتلك وسيلةٌ من أجلِ الحطِّ من شأنِ الزّعيمِ اليَساريِّ والإعلاءِ من شأْن الزّعيمِ اليمينِيِّ.

يُرادُ لحياةِ الأولِ أنْ تكون عابرَةً في ذاكرةِ الأمّةِ، أمّا حياةُ الثّاني فيجبُ أنْ تكونَ ثابتَةً فيها. إنّ قصّةَ الزّعماءِ، استناداً إلى هذا، لا تُصاغُ فقط وَفقَ ما قدّموه للأمّةِ، بل تُصاغُ أيضاً وفق التّفاوُتِ بين الفعلينِ في الزّمنِ النّحويِّ.

إنّ “تجربةَ الزّمنِ” تُقاسُ على التّفاوتِ القائمِ بين زمنيّةِ الحكْي وبين زمنيّةِ الأحداثِ المحكيّةِ. إنّنا لا نُحيي في السّردِ تجربةً ولّت ولن تَعود أبداً، بل نُفسّرُ ما يَحدُثُ الآن استناداً إلى ما حدثَ قديماً، أو كان من الممكنِ أنْ يحدثَ فقط.

The post بنكراد: مفعول التخييل يسكن التفاصيل .. والتاريخ يتوارى خلف العناوين appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.