الديمغرافيا كسلاح: الاستيطان، الطرد، والهندسة الاقتصادية للضفة الغربية

في خطوة تُجسّد تصعيدا ممنهجا في مشروع الضم الإسرائيلي، كُشف في أيار/مايو 2025 عن مسودة قانون إسرائيلي جديد يشرعن للمستوطنين تملّك الأراضي في الضفة الغربية، بما يشمل ولأول مرة المناطق المصنّفة (أ) الخاضعة نظرياً لسيطرة السلطة الفلسطينية وفق اتفاق أوسلو. تدل هذا الخطوة على تحول عميق في آليات السيطرة الإسرائيلية، حيث لم تعد الأرض فقط هي موضوع الصراع، بل باتت الديموغرافيا، وإمكانيات العيش، وحق تقرير المصير، كلها أهدافاً مباشرة للسيطرة وإعادة الهندسة. فبتمكين المستوطنين من التوسع داخل النسيج العمراني الفلسطيني، تستخدم أدوات القانون مع أدوات القوة القسرية لتكريس واقع استيطاني يسعى إلى إعادة صياغة المكان والإنسان معاً.
ينطلق هذا التحكم الإسرائيلي في الأرض والسكان من ثلاثة مداخل مترابطة تُشكّل معاً بنية متكاملة لمشروع السيطرة: أولها الاستيطان، باعتباره أداة لإنتاج واقع دائم على الأرض يُترجم عبر تهويد المكان وإزاحة معالمه الفلسطينية؛ وثانيها الطرد، الذي لا يتم بالوسائل القسرية المباشرة فقط، بل أيضاً من خلال سياسات ممنهجة ترمي إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، سواء عبر الهدم أو نزع الإقامة أو التضييق على سبل العيش؛ أما ثالثها، فهو المدخل الاقتصادي، حيث تُوظّف أدوات الهندسة الاقتصادية لتكريس التبعية وتعطيل إمكانيات النمو الذاتي للاقتصاد الفلسطيني، فيصبح الصمود عبئاً وتتحوّل الحياة اليومية إلى معركة بقاء، ما يُسهّل على المشروع الاستيطاني فرض تحولات ديمغرافية مدروسة.
هذا المقال محاولة لفهم كيف تُستخدم هذه الأدوات الثلاث الاستيطان، والطرد، والهندسة الاقتصادية كخطة متكاملة لإعادة رسم الواقع والاقتصاد الفلسطيني. ورصد كيف تُسخَّر هذه الأدوات في سياق متدرّج ومنظَّم لإعادة ترتيب الواقع الفلسطيني، بحيث تُفرَض عليه حدود جديدة ضمن نظام تحكم إحلالي لا يُعلن عن أهدافه علناً، لكنه حاضر في كل تفاصيل حياتنا اليومية.
الاستيطان وإعادة تشكيل الضفة الغربية
يمثّل الاستيطان حجر الزاوية في استراتيجية السيطرة الديمغرافية التي انتهجتها إسرائيل منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967. فمن خلال بناء مستوطنات تتوسع تدريجياً، لا سيما في المواقع ذات الأهمية الجغرافية والأمنية، تسعى إسرائيل إلى إعادة تشكيل الخريطة المكانية للضفة الغربية، بما يُضعف إمكانيات تشكّل كيان وطني فلسطيني متصل وقابل للحياة. ويُقصد من هذا التمدد الاستيطاني ليس فقط توسيع نطاق الوجود الصهيوني، بل تفكيك التواصل الجغرافي بين المناطق الفلسطينية، وعزل المراكز الحضرية عن محيطها الريفي، بما يُعطل الركائز الأساسية لأي مشروع سيادي فلسطيني.
تُوظف هذه الاستراتيجية ضمن ما يمكن وصفه بسياسات “الضم الزاحف”، حيث تُفرَض السيادة الإسرائيلية من دون إعلان رسمي للضم، عبر منظومة من البنى التحتية والحواجز وجدران الفصل والطرق الالتفافية، ما يجعل السيطرة فعلًا ميدانياً مستمراً يتجاوز الشكل التقليدي للاحتلال العسكري المباشر. وبذلك، تُنتَج السيادة من خلال إعادة هيكلة الحيّز الجغرافي، وربطه بأنظمة قانونية واقتصادية تمنح للمستوطنين امتيازات متزايدة على حساب السكان الأصليين.
وقد شهد عام 2024 تسارعاً غير مسبوق في وتيرة التوسع الاستعماري، مع مصادقة سلطات الاحتلال على مخططات هيكلية لإقامة أكثر من 13 ألف وحدة استعمارية جديدة، استحوذت بموجبها على نحو 11,888 دونماً من الأراضي الفلسطينية. أما من حيث عدد المستعمرين، فقد بلغ مع نهاية عام 2023 نحو 770,420 مستعمراً، يتركّزون بشكل أساسي في محافظة القدس بواقع 336,304 مستعمرين، منهم 240,516 يقيمون في منطقة J1، التي ضمّتها إسرائيل قسرًا بعد احتلال 1967، ما يجعل نسبة المستعمرين مقابل كل 100 فلسطيني في المحافظة تبلغ نحو 67.6%، وهي النسبة الأعلى بين محافظات الضفة الغربية، تليها رام الله والبيرة (154,224 مستعمرًا)، ثم بيت لحم (107,068)، وسلفيت (56,777). بينما تُسجل محافظة طوباس والأغوار الشمالية النسبة الأدنى بواقع 3,004 مستعمرين فقط (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024).
وبالتالي تتحوّل الديموغرافيا من مجرد معطى سكاني إلى أداة استراتيجية تُستخدم لإعادة هندسة الحيّز والمجتمع معاً، بما يخدم أهداف السيطرة طويلة الأمد، ويُعزز من قدرة المشروع الاستيطاني على فرض واقع دائم دون الحاجة إلى الإعلان عن خطة “ضم” رسمية.
الطرد والاغتراب: تفكيك الذات والمكان
أما الطرد، فيشكّل الأداة الثانية في مثلث السيطرة، ويتجاوز معناه المفهوم التقليدي للترحيل القسري، إذ لا يُمارس الطرد عبر حملات تهجير جماعي معلنة، بل من خلال بيئة طاردة تُنتجها السياسات الإسرائيلية عبر سلسلة من الممارسات التي تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين بشكل متدرج ومنهجي.
تشمل هذه الممارسات هدم المنازل، ورفض منح تراخيص البناء، ومصادرة الأراضي، وإغلاق الطرق الزراعية، وربط الوجود الفلسطيني بشروط إدارية وأمنية تعجيزية، تُحوّل الحياة اليومية إلى عبء دائم. على سبيل المثال في مناطق مثل الأغوار والمسافر يطا، لا يتمثل الطرد فقط في التهديد العسكري المباشر أو الاعتداءات المتكررة من قبل المستوطنين، بل في تعطيل كل مقومات البقاء من الكهرباء إلى المياه، ومن التعليم إلى الرعاية الصحية.
بذلك، يتحول الفلسطيني من “صاحب الأرض” إلى “مقيم مؤقت”، معلق في منطقة رمادية قانونياً، ومُحاصر اقتصادياً ومعيشياً. وبالتالي يعد الطرد أداة تخطيط مستدامة لإعادة توزيع السكان بما يخدم مشروع الاستيطان، ويفتح الحيز الجغرافي أمام مزيد من التوسع الاستعماري.
هذه السياسات، التي تُنفذ باسم الأمن، هي في جوهرها محاولات مدروسة لتقليص الوجود الفلسطيني في المناطق المفتاحية من الضفة الغربية. إنها سياسة تعتمد على “التجفيف الصامت” للوجود الفلسطيني، وذلك حتى يبدو تغيير المنطقة أو النزوح منها وكأنه خيار فردي نابع من الظروف القاسية، بينما هو في الحقيقة نتاج مباشر لهندسة طرد مُمأسسة. وبالتالي يصبح الطرد مكملاً للاستيطان كاستراتيجية ديمغرافية وسياسية طويلة المدى، تستهدف إعادة تشكيل الحيّز الفلسطيني، وتفكيك علاقته بالأرض، وتحويله إلى وجود مؤقت في وطنه.
الهندسة الاقتصادية: تقويض التنمية وتفريغ الأرض
لا يمكن فهم سياسات الاستيطان والطرد في الضفة الغربية بمعزل عن منظومة السيطرة الاقتصادية التي تطبقها إسرائيل كأداة بنيوية تعمل على إعادة تشكيل الاقتصاد الفلسطيني، ليس بهدف السيطرة فقط، بل بقصد تعجيزه وإفقاده القدرة على الحياة المستقلة. فالاستيطان لا يكتفي بالتمدد الجغرافي، بل يفرض واقعاً اقتصادياً خانقاً يعيد تشكيل الحيز الإنتاجي الفلسطيني، ويعيد توجيه الموارد ويمنع التنمية المستقلة، في إطار مشروع إحلالي طويل المدى.
فمنذ عقود، تمارس إسرائيل شكلاً من أشكال “الهندسة الاقتصادية”، التي تعيد إنتاج التبعية الفلسطينية من خلال أدوات الهيمنة الاقتصادية: السيطرة على الموارد، تفكيك سلاسل الإمداد، تجزئة السوق، وتحويل الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصاد يعيش على ما تسمح به المنظومة الاحتلالية من تنفس مقنن ومحكوم.
تُظهر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أنه حتى نهاية عام 2024، بلغ عدد المواقع الاستعمارية والقواعد العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية 551 موقعًا، تضم 151 مستعمرة و256 بؤرة استعمارية، منها 29 بؤرة تم دمجها رسمياً كأحياء داخل مستعمرات قائمة، إلى جانب 144 موقعًا مصنفًا آخر تشمل مناطق صناعية وسياحية وعسكرية (الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024) .
وتُعتبر حرية التنقل بين المحافظات إحدى أبرز التحديات أمام الاقتصاد الفلسطيني. فقد بلغ عدد الحواجز الثابتة والمؤقتة في الضفة الغربية بلغ 849 حاجزًا حتى سبتمبر 2024، منها 89 حاجزاً دائماً يعمل على مدار الساعة، و149 حاجزاً جزئياً، و196 بوابة طرقية، إضافة إلى عشرات السدّات الترابية والحواجز الطرقية.
تلعب الحواجز بدورها وظيفة تقويضية ناجحة للاقتصاد الفلسطيني، من خلال تحويلها كل عملية نقل أو استيراد إلى اختبار للرضوخ والتكيّف. وقد بيّنت منظمة العمل الدولية (2023) أن التأخيرات المتكررة على الحواجز ترفع تكاليف النقل بنسبة تتراوح بين 24% و30% في القطاعات الحيوية، مثل الزراعة والصناعات الغذائية، ما يخلق عبئاً اقتصادياً يصعب تعويضه في سوق يعاني أصلاً من هشاشة البنية الإنتاجية.
ومن أهم ملامح تقويض التنمية في الضفة الغربية سياسات المصادرة للأراضي، حيث أصدرت سلطات الاحتلال خلال عام 2024 فقط، 35 أمراً بوضع اليد على ما يقارب 1,073 دونماً من الأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى خمسة أوامر استملاك شملت نحو 803 دونمات، وتسعة أوامر إعلان أراضي كـ”أراضي دولة” بلغت مساحتها ما يزيد على 24,597 دونماً. كما أصدرت ستة أوامر لتعديل حدود “محميات طبيعية”، صودرت بموجبها حوالي 20,000 دونم أخرى.
كل هذه العوامل تتضافر لتشكل بيئة اقتصادية طاردة، تُضعف الإنتاج وتفاقم البطالة، التي وصلت في الضفة الغربية إلى 31%، كما تسهم في تآكل قاعدة الموارد، وانخفاض الاستثمارات المحلية والأجنبية، وتراجع الصادرات. كل ذلك في محاولة لإعادة الهيكلة القسرية للاقتصاد الفلسطيني، بما يتماشى مع منطق السيطرة الإحلالية، حيث يتحول الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصاد تابع، محدود، غير قادر على الحياة.