اخر الاخبار

تقسيم سورية أم وحدتها، ما الذي يريده الشرع؟

على مدار عقود طويلة، وتحديداً منذ العام 1973 وهو عام آخر حرب حقيقية بين الجيش السوري وإسرائيل، وحتى سقوط النظام السوري نهاية العام الماضي، حافظ نظام آل الأسد على حدود آمنة ومضبوطة مع إسرائيل، بحيث صار هذا الضبط مثاراً للتندر عند كل معارضي النظام السوري ومؤيديه على حد سواء.

ورغم الضربات التي كانت توجهها الطائرات الحربية الإسرائيلية، بشكل دوري، لمواقع سوريّة على طول مساحة البلاد وعرضها، وعلى المواقع السورية في لبنان قديماً، إلا أن النظام اعتمد اللازمة ذاتها، وهي التوعد بالرد في الزمان والمكان المناسبَين. لكن الزمان والمكان المناسبَين لم يأتيا أبداً، ما زاد من شهية الجيش الإسرائيلي ومن خلفه القيادة السياسية، بمواصلة إضعاف هذا البلد العربي كلما كانت الفرصة سانحة.
مع انطلاق الثورة السورية في 2011، وبالتزامن مع الثورات في بقية الدول العربية بما يُعرف بالربيع العربي، كان مفاجئاً أن هيلاري كلينتون لم تقل «الآن يعني الآن»، كما قالت بخصوص مبارك ورغبتها بتنحيه، ما أثار استغراب العديد من المتابعين، والذين انقسمت تقييماتهم لعدم التدخل هذا إلى قسمين، فبعضهم اعتبر أن النظام السوري أقوى من أن تأمره وزيرة خارجية الولايات المتحدة، أما البعض الآخر فكان يؤكد أن هذا النظام ليس أكثر من حارس لأمن الحدود مع إسرائيل وبالتالي فلا حاجة لزواله.
لم تكن الحقيقة كاملة لا في هذا ولا في ذاك من التقييمَين، بقدر ما كان المطلوب هو إضعاف سورية وإنهاكها عبر اقتتال داخلي وشحن طائفي إلى أن تصبح جاهزة لما يراد لها من مخططات مستقبلية. سواء تحت سقف النظام ذاته، ولكن بإضعافه إلى الحد الأقصى وجعله يقايض بقاءه بأي مشروع خارجي قادم، أو بإزالته فيما بعد حين يكون البديل قد تم تجهيزه والتوافق عليه ومعه.
لقد شكل التواجد الإيراني في سورية، بعد الثورة، عائقاً جدياً أمام القوى الإقليمية والدولية للتفاهم مع النظام، وسواء كان ذلك النظام يرغب بالتفاهم أو لا، فإن ضعفه وغيابه عن التأثير في أي سياسات تخص الإقليم أو حتى تخص بلده، مقابل صورة شكلية من العناد يقدم نفسه من خلالها بهيئة النظام القوي، هاتان الحالتان المتناقضتان تسببتا بوضع طويل من الجمود، خاصة في حالة الحرب التي تشهدها المنطقة، وأدتا أخيراً إلى اتخاذ القرار بالتخلص منه لصالح البديل المتوفر، وليس البديل الأفضل أو الأقوى شعبياً أو حتى المتوافق عليه عربياً وإقليمياً.
هذا البديل المتوفر جاء وهو يملك خطة واحدة لا غير، وهي الاستيلاء على الحكم. فهو لا يملك أدنى تصور لحل مشاكل سورية الداخلية؛ سواء ما يختص بمعالجة آثار الحرب الطويلة التي أنهكت البلاد والعباد، أو بإعادة الإعمار، أو بمعالجة انهيار النظام الإداري، أو إيجاد حلول لمشاكل الصحة والتعليم والزراعة، وآلاف القضايا الداخلية الأخرى، وعلى رأسها بكل تأكيد قضايا الثأر الطائفي، والأحقاد التي تراكمت عبر سنوات طويلة من استفراد عائلة واحدة بالحكم.
كما أنه لا يملك أي خطة لمواجهة التحديات الخارجية، في منطقة تعج بالحروب وتضارب المصالح، والعلاقات المعقدة مع الدول الكبرى ووكلائها في المحيط القريب والبعيد، ناهيك عن خلفيته الأيديولوجية التي لا تؤهله للتمييز بين الحليف الحقيقي والمستخدِم، ولا بين العدو الحقيقي والخصم. ولو افترضنا أن هذا التوصيف ظالم بحق أحمد الشرع، وأنه على العكس من ذلك يمتلك الكاريزما العالية، والخطط المدروسة، والحنكة السياسية غير المسبوقة، فإن أدواته لا تؤهله لتحقيق شيء. فالأدوات التي يريد خوض غمار التغيير بها هي أبو دجانة، وأبو القعقاع، ومن تربوا وتعودوا على كل ما يخالف منطق الدولة كمؤسسة حاكمة ذات شخصية اعتبارية قانونية بالأساس.
إذاً نحن بصدد رأس للدولة يريد الحكم بأدوات تريد الانتقام، وبحلفاء يستخدمونه مع أدواته لتحقيق مآربهم في سورية. لكل هذه الأسباب، فإن أي محاولة لفهم ما يجري لا يمكنها الانطلاق من الداخل السوري، أو من رغبة وإرادة السوريين، بل من الرغبات والإرادات المتضاربة لهؤلاء المستخدمين، وعلى رأسهم إسرائيل والولايات المتحدة كقوتين تملكان الخطط والقدرة على التنفيذ بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى، وبالنار حين تعجز السياسة.
يمكننا توصيف الوضع الحالي في سورية، مقارنة بالوضع السابق واختصاره على النحو التالي: كانت الساحة السورية زمن بشار الأسد، وتحديداً في سنوات الثورة، ملعباً للقوى الإقليمية وصراعاتها، وكان لكل دولة وكيلها المحلي المعتمد، أو قواتها العاملة على الأرض؛ فالخليج له من يمثلون مصالحه، وإسرائيل تعمل من خلال عملائها، وتركيا وأميركا والأوروبيون، وروسيا وإيران. الكل كان له قواته أو وكلاؤه، أما الآن فإن النظام الجديد يعمل وكيلاً لكل هؤلاء دفعة واحدة، باستثناء إيران طبعاً.
وفي وضع كهذا، كيف للنظام أن يحقق مطالب تركيا باستيعاب الأكراد ضمن الدولة السورية، وفي نفس الوقت عليه أن يحقق رغبة الولايات المتحدة بإعطائهم حكماً مستقلاً بشكل أو بآخر؟ كيف لهذا النظام أن يوائم بين رغبة الأردن بألا ينشأ، على حدودها الشمالية، كيان جديد منفصل عن الدولة السورية، وبين الضغط الإسرائيلي والأميركي والتخطيط لانتزاع مساحات من السويداء ودرعا، قد تشكّل مستقبلاً كياناً يسمح لإسرائيل بالوصول إلى أربيل، ويحقق مخطط الولايات المتحدة بقطع طريق الحرير؟
هذه مجرد أمثلة فقط، وعليها يمكن القياس في كل تفصيلة تخص السياسات الداخلية والخارجية للنظام الجديد، والذي لا يملك أي تصور خاص نابع ومدعوم من الداخل السوري نفسه ومن فئاته وشرائحه وطوائفه. لذلك فنحن نراه يحارب العلويين في الساحل السوري وكأنهم أعداء لسورية المتخيلة لديه، وليس لهم مكان فيها، وفي نفس الوقت يقود حربه تحت يافطة بسط السيادة، في تناقض صارخ بين الشعار والسلوك. وكذلك يفعل مع قوات قسد في الشمال الشرقي، لكن لأن الأميركيين ومصالحهم في الواجهة، فقد تم تأجيل الانفجار لا أكثر.
أما في السويداء فالوضع مختلف قليلاً وإن كان تحت نفس العنوان وفي نفس السياق، والاختلاف سببه أن إسرائيل تتدخل بالسلاح وبالتهديد، وهي وجدت من يطلب حمايتها علناً ولو كانت فئة قليلة أو غير ممثِّلة، وفي المقابل فإن الشرع نفسه يريد رضا إسرائيل وإقامة علاقات معها، ولو تحت مبدأ اتقاء شرها. لكل ذلك، فإنني أعتقد أن هذا الكم من الإهانات لشيوخ الدروز، والقتل المنفلت دون رحمة، يهدف أساساً لدفعهم نحو الانفصال، وليس لضمهم تحت السيادة. فأن تصف فئة بالخيانة لأنها أرادت ذلك، أسهل بكثير من أن يصفك الآخرون بالخيانة لأنك تخليت عنها.