سفينة “إسرائيل” غرقت إلى قاع الهاوية

صور المجاعة من غزة أحرجت العالم الغربي، وهزت سائر العالم. كان لا بد أن يذهب ويتكوف، بنفسه، إلى غزة ليقول من هناك “لا توجد مجاعة”. لا معنى لما قاله ويتكوف سوى تبذير رصيد بلاده الأخلاقي، وهو رصيد تصعب رؤيته بالعين المجردة.
سبق لمادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية القوية، أن قالت في أواخر تسعينيات القرن الماضي؛ إن العالم لا يمكنه الاستغناء عن أميركا، فهي حامية النظام العالمي التعددي القائم على القواعد. وحتى تلك اللحظة كانت أميركا قد خاضت حوالي 400 حرب خارج حدودها، وترعى “النظام العالمي القائم على القواعد” من خلال 800 قاعدة عسكرية منتشرة على ظهر الكوكب.
الدولة التي لا غنى للعالم عنها ليست عضوا في محكمة العدل الدولية، لا تعترف بخصوصية المحكمة الجنائية الدولية، ولا تأبه لأي “جسم دولي” ذي طبيعة قانونية. وهي الآن تنفذ، مع إسرائيل، أسوأ مذبحة عرفتها البشرية، وتطارد القضاة الدوليين الذين تجرؤوا على النظر في أوراق المذبحة.
حتى الآن لا توجد صورة جوية للجريمة في غزة، ولا تزال الصحافة الأوروبية تسرد أرقام الضحايا مذيلة بجملة مهنية تقول “وفقا للسلطات الطبية التابعة لحماس”.
يتعلق الأمر بالمقاربات البيروقراطية لما يجري، لذا بدت صور الجوع أكثر إثارة من صور الدمار. فالبيروقراطية الأخلاقية تعطي الجوع وزنا قانونيا أكثر مما تعطيه للحرب.
في اليومين الماضيين نشرت صحيفة taz الألمانية وهي صحيفة يسارية التوجه تقريرا مطولا أشركت فيه مجموعة من الباحثين حول ما إذا كان ما يجري في غزة إبادة بشرية “Genocide” أم تصفية عرقية “Ethnic cleansing”.
أخذ النقاش طابعا بيروقراطيا صرفا، وهناك إحالة مستمرة إلى ما جرى في هيروشيما وناغازاكي. فمن وجهة نظر بيروقراطية لا يمكن وصف ما جرى في المدينتين بالإبادة الجماعية، رغم فناء كل السكان.
تفتقر الجريمة النووية إلى وثيقة تؤكد وجود نية واضحة لقتل اليابانيين بوصفهم إثنية أو قومية بعينها. فقد كانت أهداف الرئيس الأميركي ترومان وهذا ما ردده البروفيسور ميرسهايمر في لقائه مع تاكر كارلسون مؤخرا أن ينهي الحرب السيئة. أي أنه أباد مدينتين لأسباب نبيلة.
البيروقراطية، أي أوراق الموظفين، هي من يحدد الطبيعة النبيلة أو الشريرة للفعل. هذا ما حاول ويتكوف عمله حين ذهب إلى غزة كشاهد عيان، وهناك قال إنه رأى البضائع والأدوية في طريقها إلى غزة. لا نية للتجويع، ثمة مشاكل بيروقراطية وأمنية وحسب.
في العام 1944 قام المحامي اليهودي البولندي رافئيل ليمْكِن بنحت مصطلح الإبادة البشرية من كلمتين يونانيتين: Genos، وتعني النوع، وCide وتعني القتل. عمل على تطوير فكرته في كتابه الشهير: “حكم المحور في أوروبا المحتلة”. نجحت جهوده الفكرية في اعتماد الأمم المتحدة اتفاقية الإبادة البشرية منذ العام 1948. وضع ليمْكِن عقدة في تعريف الإبادة البشرية، وهي “النية”. أي أن يجري تدمير الجماعة البشرية، كليا أو جزئيا، على أساس إثني أو قومي أو ديني.
لم تدن المحكمة الجنائية الدولية، ولا أي محكمة أخرى، أي دولة بجريمة الإبادة البشرية حتى الآن. وفيما يخص ألمانيا النازية فقد اعتبرت وثيقة “الحل النهائي للمسألة اليهودية” التي تعود إلى اجتماع للقيادة النازية في العام 1942، دليلا على وجود نية لتدمير الجماعة اليهودية على أساس ديني إثني، ولكن ألمانيا كدولة لم تدَن.
اتفاقية الإبادة البشرية التي وضعت في العام 1948 لا تعمل بأثر رجعي. عوضا عن ذلك أدين أفراد من داخل النظام النازي.
المذبحتان اللتان وقعتا في رواندا 1994، وفي البوسنة والهرسك 1995، صنفتا من قبل محكمة العدل الدولية بوصفهما إبادة بشرية، ولكنّ أيا من الدولتين لم تدانا كفاعل.
حدثت إبادة بشرية في البلدين، وأدين أفراد وجهات تحت دولتية. ما من دولة أدينت حتى الآن بجريمة إبادة بشرية منذ العام 1948. هذا الأمر يجعل من ربط إسرائيل بفكرة الإبادة البشرية مسألة غاية في الحساسية للعالم الغربي برمته. فمن غير المحتمل أن تكون الدولة التي نشأت بفعل الإبادة البشرية، هي أول دولة في التاريخ تدان بارتكاب الفعل نفسه.
يبدو الأمر وكأنه “كابوس من كوكب آخر” كما تقول يولي نوفاك رئيسة منظمة بتسيلم الإسرائيلية المعروفة. في تقييمها لما يجري في غزة توصلت بتسيلم إلى استنتاج يضع مذبحة غزة في خانة الإبادة البشرية.
في تقديمها للتقرير رددت نوفاك عبارات حزينة على شاكلة: “لم يكن ليخطر على بالنا أننا سنكتب في يوم من الأيام ما كتبناه هنا”، أي الاعتراف بأن بلادها ضالعة في جريمة الإبادة.
يضغط الإسرائيليون على حلفائهم، بل يبتزونهم بماضيهم. اعترف بايدن، بعد زيارته إسرائيل في الأيام الأولى للحرب، بأنه خاطب نتنياهو بالقول: “ليس بمقدورك تدمير هذه المجتمعات الحضرية”، فرد عليه الأخير بتذكيره بما فعلته أميركا في اليابان، وألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية.
إفشاء بايدن مضمون الحديث الذي دار بينهما يشير إلى وجود نية إسرائيلية مبكرة لتحويل غزة إلى أرض غير صالحة للعيش، أي تقويض الجماعة البشرية في غزة بلا تمييز، ولكونها تمثل قومية بعينها. هنا يتقاطع تعريف الإبادة مع تعريف التطهير العرقي، ويبدو القصد الجنائي متوفرا.
يجادل الإسرائيليون في النقاشات المفتوحة بالإحالة إلى السجل التدميري للمجتمعات الأوروبية في مناطق واسعة من العالم، في سياقات تاريخية عديدة. نادرا ما اعترفت دولة أوروبية بماضيها في الإبادة، إذا ما تجاهلنا الادعاءات الأخلاقية لما بعد الكولونيالية.
بالعودة إلى التاريخ الألماني الحديث، فقد نفذت ألمانيا بين 19041908 إبادة بشرية بحق قبائل الهيريرو في ناميبيا، التي كانت تسمى “جنوب غرب أفريقيا الألمانية”.
ردا على تمرد سكان البلاد على الظلم والاستغلال أمر القائد الألماني لوثار فون تروتا جنوده بإبادة عرق الهيريرو بوصفه عرقا “يجب طرد كل هيريرو من البلاد، سواء أكانوا مسلحين أم لا، معهم ماشيتهم أو بدونها، سيتم إطلاق النار عليهم”.
يشابه ما قاله فون تروتا قصة النبي يوشع في سفر يشوع، إذ أمر بفناء أريحا، البشر والشجر والحيوان. في الأيام الماضية قال أكثر من ثلثي الإسرائيليين، بحسب دراسة لجامعة بنسلفانيا، إنهم لا يمانعون من أن تنال غزة مصير أريحا.
تأخرت ألمانيا أكثر من قرن من الزمان قبل أن تعترف، على نحو بالغ الالتواء، بأن ما جرى في ناميبيا يمثل إبادة بشرية. رغم اعترافها بأن “قواتها” وليس النظام الحاكم ارتكبت إبادة بشرية فإنها رفضت تحمل أي مسؤولية قانونية. كما لم تدَن بالجريمة على أي منصة قانونية، فلا تعمل وثيقة الإبادة الجماعية بشكل رجعي.
اعتراف ألمانيا المنقوص والمتأخر بالإبادة البشرية في ناميبيا مسّ فكرة “تفرد الهولوكوست”، وربما أهانها. كان خطأ تاريخيا في تقدير عدد كبير من المثقفين والباحثين اليهود في إسرائيل وخارجها.
فالهولوكوست “حدث يتجاوز التاريخ، بل يتحدى الفهم” كما يقول الكاتب الإسرائيلي إيلي فيزل، الحاصل على جائزة نوبل في السلام 1986.
المؤرخة اليهودية ديبوره ليبشتادت ترفض، مثل مؤرخين يهود كثر، الحديث عن إبادة بشرية في ناميبيا أو رواندا؛ لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى “تمييع خصوصية الهولوكوست”. التشويش على الهولوكوست من خلال توزيع الإدانات يمنة ويسرة سيهدد فرادة الهولوكوست، وبالتالي الإرث اليهودي الأكثر أهمية.
غير أن التاريخ أخذ إسرائيل ذاتها إلى خانة الإدانة، وباتت هي من يشوش على نفسها، ويحرق كل موروثها.
اشتغلت الأكاديميا الغربية، كما السياسة والآداب، في سبيل جعل الهولوكوست نواة الحضارة الليبرالية المعاصرة، والمعيار الأخلاقي المركزي. حُظر، بالقانون، أي نشاط أكاديمي أو علمي يقترب من مسألة الهولوكوست، وطُورد باحثون، بل وُضعوا في السجون، لأنهم تجرؤوا على مساءلة رواية الهولوكوست، كما حدث مع غيرمار رودولف في تسعينيات القرن الماضي.
كان رودولف قد أجرى أبحاثا كيميائية على بقايا “غرف الغاز” في معسكر أوشفيتز، وادعى أن ما وجده لا يدعم بشكل مطلق وجود غرف للقتل بالغاز. أدى نشره للبحث إلى مطاردة استمرت بضعة أعوام انتهت بأن عثرت عليه السلطات الأميركية مختبئا في ضاحية من ضواحي شيكاغو فأعادته إلى ألمانيا، وهناك وضع في السجن في العام 2007.
مبكرا، في 1949، أطلق الناقد الألماني اليهودي ثيودور أدورنو في مقالة بعنوان “الثقافة والنقد” جملته الشهيرة: أن تكتب شعرا بعد الهولوكوست هو عمل بربري. أحيطت الهولوكوست بسياج منيع، إلى أن أسقطته إسرائيل بنفسها.
غزة ورطة إسرائيلية التهمت قرنا كاملا من البروباغندا، وزعزعت مركز الحضارة الغربية. قبل أن تأخذ الهولوكوست صورتها النهائية، بوصفها مركزا للأخلاق وحدثا فوق التاريخ، كانت رواية “إيكسيدوس”، لليون يوريس التي نشرت في 1958، قد شقت الطريق إلى الوعي الغربي ومهدت الأجواء.
في الرواية يهاجر الناجون من الهولوكوست على ظهر سفينة الإيكسيدوس، يتيهون في المتوسط، يصطدمون بالقوات البريطانية والعرب، ثم ينتصرون في آخر الأمر.
التعويض الأخلاقي، التاريخي، الذي حصل عليه المجتمع اليهودي في تلك الأرض هو الإنصاف الذي تأخر لألفي عام. ما كان له أن يحدث لو لم تكن الجماعة اليهودية قد حافظت على فرادتها الأخلاقية والدينية على مر التاريخ، وقاومت رياح الأمم والتاريخ بشجاعة قل لها نظير. من تلك الفرادة الأخلاقية، من الفداء والنصر، خرج الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، جيش الدفاع الإسرائيلي.
الورطة الإسرائيلية في غزة مركبة. اختار عدد كبير من الصحف الغربية في الأيام الماضية كلمة “Pariah” أو “المنبوذ” في الإشارة إلى إسرائيل. والنبذ هنا ليس سياسيا وحسب، بل أخلاقيا وتاريخيا. أي أن تعزل إسرائيل حتى عن إرثها التاريخي. تقوم إسرائيل على ادعاء أخلاقي في المقام الأول، ثم تبني عليه ادعاء سياسيا.
راكمت في العقود الماضية مصادر قوة عديدة، في مقدمتها الدعم المطلق من الليبرالية الغربية من جهة، ومن الإنجيلية الأميركية من جهة أخرى. ولكنها، وهي تبلغ أعالي مجدها، سقطت في إغراء القوة المطلقة، وباتت ضحية لاعتقادها أن بمقدورها أن تفعل ما تشاء.
هكذا رآها الروائي الإسرائيلي ديفيد غروسمان في لقائه الأحدث مع صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية. قادتها القوة إلى البطش، وأخذها البطش إلى الإبادة الجماعية. ومع سقوطها في قبضة اليمين المتطرف، الجهادية التوراتية، بات واضحا أنها انزلقت إلى ورطة وجودية ليس من اليسير الخروج منها. وبحسب شلومو بن عامي فإن إسرائيل لم تشهد انهيارا لمكانها بين الأمم كما حدث الآن.
انهارت تلك المكانة ليس في الجنوب العالمي وحسب، بل في العالم، في لحظة قوة مطلقة. لم تكتفِ إسرائيل بالذهاب إلى أقصى اليمين، حيث الجهادية التوراتية العمياء، بل ألقت بنفسها في حضن الرئيس ترامب. لتبدو وكأنها مشروع أخلاقي لرجل لا يعرف أحد نواياه.
كل الإشارات تقول إن إسرائيل غرقت داخل نفسها، ولم يعد بمقدورها الفكاك. فقد توصلت دراسة أنجزتها الباحثة الإسرائيلية د. نوا لافي، 2016، إلى أن “الشباب الإسرائيلي” هو الأكثر تطرفا مقارنة بدول أوروبا الغربية.
وهو ما سيؤكده معهد إسرائيل للديمقراطية، 2018، في استطلاع مدوٍّ قالت نتائجه إن 64% من الشباب الإسرائيلي بين 1834 عاما يصنفون أنفسهم “يمينا”، بينما قال 47% فقط من الأكبر سنا إنهم يمينيون.
وهو مشهد معكوس وغير مشهود في أي بلد آخر. إذ عادة ما تكون اختيارات الأجيال الأحدث سنا أكثر انفتاحا وأقل راديكالية.
تقودنا كل البيانات إلى نتيجة واحدة، وهي أن إسرائيل اليوم ليست هي تلك الدولة السحرية التي جسدتها رواية الإيكسيدوس، الرواية التي تفوقت مبيعاتها في أميركا على رواية “ذهب مع الريح”، وحلت ثانيا بعد الإنجيل.
حيال هذا التعقيد تجد الليبرالية الغربية نفسها مأزومة وفي ورطة. فهي تقاتل اليمين الشعبوي في بلدانها وتدعمه بكل السبل في إسرائيل. على أن النسخة الإسرائيلية من اليمين تبز كل صور الفاشية التي عرفتها أوروبا في تاريخها.
في العامين الماضيين انفجرت حرب ثقافية في العالم الغربي في ضوء ما يجري في غزة، ولا تزال تلك الحرب في بداياتها. ولأن إسرائيل ماضية في حلمها التوراتي فإن الخيارات الغربية الليبرالية ستبدو حاسمة: إما أن تدعم نظاما دوليا قائما على القواعد، أو أن تغير القواعد والقوانين نزولا عند رغبة الحلم التوراتي. وفي الحالين تتعمق أزمة إسرائيل، وتجر معها حلفاءها إلى ورطتها الوجودية.