“يوم الجالية” يجدد التوصيات بتجاوز منطق التحويلات النقدية إلى استثمار مُنتج

بحلول العاشر من غشت المخلِّد لليوم الوطني للمغاربة المقيمين بالخارج يتجدد نقاش استثمارات الجالية المغربية في وطنها الأمّ، لا سيما أن آخر أرقام التحويلات المالية في النصف الأول من 2025 تكشف عن انخفاض “مقلق” بـ2,6 في المائة؛ فيما لا يزال معظمها موجهاً نحو غايات الاستهلاك ودعم ادخار الأسر المقيمة بالمغرب.
وتؤكد معطيات رسمية وردت في جواب كتابي صدر نهاية يوليوز الماضي، عن كريم زيدان، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية، أن “استثمارت مغاربة العالم تمثل حاليًا 10 بالمائة من إجمالي الاستثمار الخاص في المغرب”، قبل أن يضيف، مجيباً عن ثلاثة أسئلة برلمانية كتابية، أن “الحكومة أطلقت برنامجا إصلاحيًا جديدًا يهدف إلى تحسين بيئة/مناخ الاستثمار، بـ46 إجراء عمليًا لدعم استثمارات الجالية المغربية وتسهيل ولوجها إلى السوق الوطنية”.
في سياق متصل يُخلَّد “يوم الجالية” هذه السنة تحت شعار: “ورش الرقمنة.. تعزيز لخدمات القرب الموجهة لمغاربة العالم”؛ وهو ورشُ من شأنه أن يدعم تسريع عجلة استثمارات هذه الفئة ويضمن ولوجاً سلساً لها من حيث المساطر الإدارية وتبسيطها. وهي مناسبة لاستعراض “التقدّم المُحرز في رقمنة الخدمات العمومية وشبه العمومية الموجهة للمغاربة المقيمين بالخارج، وتبادل التجارب الناجحة في هذا المجال، مع طرح الإكراهات التي لا تزال قائمة على مستويات عدة”.
ورغم عددٍ من الإجراءات المتخذة لدعم استثمارات مغاربة العالم، مثل “تعزيز الاخبار السعودية المباشر” مع المستثمرين المغاربة بالخارج، بتنظيم لقاءات خاصة معهم خلال الجولات الترويجية التي تُنظَّم خارج المملكة، إلى جانب “إحداث خلية خاصة داخل الوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات، تتولى توجيه ومواكبة الجالية في تنفيذ مشاريعهم”؛ فإن عددا من المحللين الاقتصاديين يؤكدون “محدودية المنجَز”، ملحّين على ضرورة إعمال إجراءات مبتكرة تواكب حتى الأجيال الجديدة من المهاجرين المغاربة.
“نقلة نوعية” مطلوبة
سلمى صِدقي، أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة ابن طفيل، قالت إن “اليوم الوطني للمهاجر في 20 غشت من كل سنة مناسبة وطنية ذات رمزية عالية، تؤكد مجددًا منسوب التقدير العميق الذي يكنّه المغرب لمواطنيه المقيمين بالخارج، والإيمان الراسخ بدورهم الحيوي في تنمية البلاد؛ فلا يمكن الحديث عن تحولات المغرب الاقتصادية والاجتماعية دون استحضار بصمة مغاربة العالم، الذين ظلوا على الدوام فاعلين في دعم الاقتصاد الوطني، سواء عبر التحويلات المالية المنتظمة أو من خلال الاستثمارات العقارية”.
غير أن المصرحة لجريدة هسبريس تستدرك قائلة: “لكن التحولات الجارية اليوم تفرض إعادة توجيه انخراط أفراد الجالية نحو مستويات أكثر إنتاجية واستدامة”. فالمغرب، منذ سنوات، يعمل على تعبئة كفاءات مغاربة المهجر بشكل ممنهج، ويحثهم على تجاوز الأدوار التقليدية نحو مساهمة فعلية في الأوراش التنموية الكبرى، بما في ذلك الاستثمار في المشاريع الاقتصادية المولّدة للثروة وفرص الشغل”.
ومغاربة العالم هُم “رأسمالٌ بشري عالي التأهيل، متمرّس في ميادين متعددة بفضل تجاربه في اقتصادات متقدمة. كما أنهم كتلة مهمة من الادخار الخاص لطالما تم توجيهها إلى القطاعات الأقل إنتاجية، وفي مقدمتها العقار”، حسب قراءتها.
وأضافت أن “المبادرة الوطنية الرامية إلى تشجيع مغاربة العالم على الاستثمار في النسيج المقاولاتي الوطني، خاصة في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، تمثل نقلة نوعية، وقد تشكل تتويجًا لجهود ماخبار السعوديةة تبذلها الدولة لتوسيع نطاق مساهمتهم في الاقتصاد الوطني. فالمعطى الهيكلي للنسيج الاقتصادي المغربي يُظهر أن أزيد من 90 بالمائة من المقاولات عبارة عن مقاولات صغيرة ومتوسطة، وهو ما يفتح آفاقًا كبيرة أمام استثمار مدخرات مغاربة العالم في هذا الاتجاه شريطَة توفر المواكبة والتمكين المناسبيْن”.
واستحضرت أستاذة الاقتصاد “اتخاذ مجموعة من التدابير الهادفة إلى تحسين مناخ الأعمال وجعله أكثر جاذبية لهذه الفئة من المستثمرين، من بينها: تبسيط وتقليص المساطر الإدارية بنسبة تفوق 35 إلى 40 بالمائة، وإحداث منصات رقمية خاصة بمغاربة العالم لتأطير وتحفيز مشاريعهم، مع تعبئة الخبرات في القطاعين العام والخاص من أجل مواكبة المستثمرين من الفكرة إلى التنفيذ.
“فهمٌ لازم للبيئة المشجعة”
من جهته أكد خالد حمص، أستاذ الاقتصاد بجامعة محمد الخامس بالرباط، على “ضرورة فهم طبيعة المستثمر المغربي وتجربة رأس المال الذي يستثمرُه في الخارج”.
وقال حمص مصرحا لهسبريس إن “أفراد الجالية المغربية في الخارج يشكلون فاعلًا اقتصاديا متميزًا، لا من حيث حجم مدخراتهم فحسب، بل بالنظر أيضًا إلى الرأسمال التجريبي الذي راكموه عبر سنوات من العمل والاستثمار في بيئات دولية محفزة”.
وأشار إلى “تعايُش هؤلاء مع شروط ومناخات استثمارية تميزها الشفافية، المرونة وسرعة التفاعل الإداري، وهو ما خلق لديهم تصورًا واضحًا لطبيعة الاستثمار الناجح، وللبيئة التي تساعد على خلق الثروة واستدامة المشاريع. هذا المعطى يجعل من استقطاب استثمارات الجالية المغربية فرصة نوعية للاقتصاد الوطني، ليس فقط من خلال ضخ رؤوس الأموال، بل أيضا عبر نقل المعرفة والكفاءة الفكرية وأساليب التدبير الحديثة”.
“العديد من أفراد الجالية الذين اختاروا الاستثمار في وطنهم الأم يؤكدون أن المشكل ليس في توفر رأس المال، بل في نجاعة المساطر والمواكبة”، يشخّص أستاذ الاقتصاد، مبرزا أن “نجاح استثمار الجالية المغربية مرتبط أساسًا بتوفير بيئة مشجعة تحاكي ما اعتادوه في بلدان الإقامة من حيث تبسيط الإجراءات، وإتاحة المعلومة، وضمان التفاعل السريع مع الإدارات عبر الرقمنة والشبابيك الموحدة”.
وختم قائلا: “مِن هنا تظهر الحاجة الملحّة إلى إعادة تصميم منظومة الاستثمار لتكون أكثر مرونة في حركية الرساميل وأكثر انفتاحًا على نماذج الاستثمار الحديثة كالشركات الناشئة، مع إرساء تسهيلات إدارية وتمويلية تراعي خصوصيات هذه الفئة من المستثمرين كالفوائد التفضيلية للقروض وإعفاءات ضريبية مرحلية”.
من “الحضور الرمزي” إلى الإسهام الفاعل
الأكاديميان الاقتصاديان في حديثهما لهسبريس يُجمعان على فكرةِ أن “ضمان استدامة هذه المشاريع يتطلب تسهيل الولوج إلى التمويلات، وتوفير التأطير المالي والتقني، من خلال شراكات متينة مع الفاعلين في القطاع الخاص والمؤسسات البنكية والهيئات المواكبة للمقاولات”.
وعلى المستوى الترابي لفتا إلى “إمكانية إسهام الجهات بدور محوري في توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية ذات الخصوصيات المحلية، استنادًا إلى المؤهلات الطبيعية والاقتصادية المتوفرة واليد العاملة المؤهلة في كل جهة، مما سيساهم في خلق فرص شغل لائقة، وتعزيز العدالة المجالية في التنمية لتقليص الفوارق بين الجهات”.
في نهاية المطاف، فإن “نجاح هذا الورش يتوقف على الانتقال من منطق التحويلات إلى منطق الاستثمار المنتج، ومن الحضور الرمزي لمغاربة العالم في اقتصاد وطنهم إلى شراكة استراتيجية قائمة على القيمة المضافة والمعرفة والابتكار”، يخلص المحلِّلان.