وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .. الإنسان يطفئ نور الرحمن ويعبد ظل الروايات

هل خطر علي بالك يوماً أن من يحطم روح الإنسان هو الإنسان ذاته ؟ .. وأن من يكسر جناحه ويذهب به إلى طريق الفسق والضلال هو ” نفسه ” الأمارة بـ السوء ؟ .
نعم إنه الإنسان .. ذاك الكائن العجيب .. الجهول في علمه .. الجاحد في شُكره .. يهجر كلام الله .. ويغلق قلبه عن نور القرآن المنزل من عند الله رحمة للعالمين .. يمضي في الأرض مُعربداً ينقضُ ميثاق السلام .. ويجعل من الفساد طريقاً .. ومن القتل والترويع شريعةً تُخالف كل ما جاء من تعاليم الرحمن .
أي قلب هذا الذي لا ترجفه آيات الله؟ .. وأي عقل ذاك الذي لا تهديه حكمة تأتي من عند الخالق ؟! .
رغم أن الله العظيم .. كرمه وعدله وفضّله على سائر مخلوقاته .. منحه العقل والقدرة على التفكير والتمييز بين الخير والشر .. جعله خليفته في الأرض .. ورفعه فوق الطين .. ثم .. ثم نفخ فيه من روحه وجعل له الأرض فراشاً .. وفتح له أبواب السماء ثم هداه إلى قرآنه الكريم .
ولا ندري هنا لماذا يعرض الانسان عن النور ؟ .. لماذا ينسي نعمة الله وخالقه ؟ .. لماذا كل هذا النكران والجحود بـ طريق الهداية ؟ .
وكعادته .. في لحظات صدق نادرة .. يلتقط المفكر العربي الكبير علي الشرفاء الحمادي هذا التناقض المؤلم في مسيرة الإنسان .. يكتب ويؤلف ويبعث بـ رسائل إنذار وتبصير .. ويدشن مشروعاً فكرياً يجوب به الارض شرقاً وغرباً .. باحثاً عن خيط رفيع عله يعيد الإنسان الي رشدة المفقود .
إذ يبدأ علي الشرفاء من أصل الحكاية ومنبع النور .. من كلام الله وآياته البينات التي يجب أن تكتب على جدران الضمير الانساني .. مستدلاً بـ قوله سبحانه وتعالي في محكم التنزيل : ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً ” .. صدق الله العظيم .
.. آيات قرآنية تختصر الرحمة الإلهية .. وتكشف عن فجور البشر وبني البشر .. أولئك الذين هجروا الكتاب المبين وفرقوا الامة إلى مذاهب وطوائف يقتل بعضها بعضاً بـ إسم الدين .. أُزهقت الأرواح وسالت أنهار من الدم .. لا لـ أجل حق .. إنما لـ أجل ظلم وسيفٍ يلوّح بـ الدين ويطعن به الدين ذاته .
.. و بدا علي الشرفاء الحمادي في مشروعه الفكري وكأنه ينظر في عيون الناس .. ثم .. ثم يهمس بـ كلمات تهز الروح وترج الأعماق رجاً .. متسائلاً في أسف وحيرة : هل أنصف الإنسانُ أخاه الإنسان ؟ .. هل أكرمه كما كرمه ربّ العالمين ؟ .
سؤال قد يبدو بسيط في ظاهره .. انما يهزّ باطنه جدران القلب والروح .. ويجيب علي الشرفاء بـ حكمة المكلوم الذي يري الحقيقة عارية .. قائلاً : الإنسان في يد أخيه ليس مكرَّماً .. بل مقهور .. مكبّلاً .. يُساق إلى مذابح المصالح .. ومصلوب على مشانق الطوائف .. ومعلّق على رايات لا تمت إلى الرحمة بصلة .. بدا الإنسان وكأن كرامته حِملٌ زائد .. وكأن إنسانيته خطأٌ يستحق التصويب .
ويمضي علي الشرفاء الحمادي في كشف جذور حالة الانكسار التي ضربت عمق الأمة .. جذور لم تكن خارج حدودنا.. انما كانت ومازالت فينا وبداخلنا .. جذور نبتت من أعماقنا التي هجرت نور القرآن واختارت عتمة الروايات .. الكارثة كما يراها علي الشرفاء لم تبدأ من عدوٍ يتربص .. ولا من مؤامرة خفية .. إنما بدأت من لحظة قررنا فيها أن نطوي المصحف الشريف .. ونفتحه فقط في وداع الموتى .. لا في دروب الحياة .
يقولها علي الشرفاء بصوت تختلط فيه الحكمة بـ الألم : ” إن أعظم بلاء أصاب أمة الإسلام هو تخليهم عن كتاب الله ” .. وهنا فلا عجب أن تسود فينا وبيننا ظلمات الجهل والجور .. فـ قد منحنا الرواية سلطة فوق سلطة الوحي .. وقدمنا كلام البشر على كلام خالق البشر .. وهنا لا ينبغي أن نتساءل : كيف ضاع العدل ؟! .. ولا أن نتعجب إذا رأينا الظلم يرفع راية الدين .. ثم .. ثم يتكلم بـ لسان الله وهو منه بريء ؟! .
وهنا لا يقف المفكر الكبير علي الشرفاء عند سطح الأحداث .. إنما يغوص في العمق حتي نقطة الانكسار الأولى .. عند اللحظة التي غاب فيها النبي الكريم ” سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ” .. لحظة انفجرت بعدها الخلافات .. ثم .. ثم تحوّلت شريعة الرحمن من هداية ورحمة .. إلى راية سياسية تتصارع فيها الامة وتنقسم لـ طوائف ومذاهب ينحر بعضها بعضاً حتي اليوم .
وفي توصيف لـ واقع الأمة الراهن يري الحمادي .. أننا أمةٌ تتحدث عن التوحيد لكنها منقسمة الى أشلاء .. نزل فيها ” كتاب مبين ” لـ يجمعها لكنه أصبح ميداناً لـ تفسيرات وتأويلات لا تنتهي .. أمة تعبد الله الواحد الأحد ومع ذلك تتقاتل فيها الفرق بـ اسم الله .. كل فرقة تزعم أنها تملك الحق المبين ومعها صكّ الغفران المتين .
ولقد حذرنا الله جل علاه من هذا المصير .. حذرنا من التمزق والتشظي .. حذرنا من أن يُصبح ديننا دين رايات متفرقة تتنازعها المصالح والطوائف .. إذ يقول الله عز وجل في قرآنه الكريم : ” إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ” .. صدق الله العظيم .. لكن من يسمع ؟ .. ومن يعقل ؟ .. ومن يتدبر ؟ .. و .. و نحن ها نُعيد أخطاء مَن سبقونا .. نهجر القرآن .. وتتكالب علي الدنيا وننسي يوم نقف فيه بين يدي الرحمن .
بدت كلمات علي الشرفاء الحمادي أشبه بـ لحن حزين .. يعزف كي يثير الشجن ويحفز الحنين لـ نعود إلى فطرة الإنسان وسماحة الدين .. بدا عقله وكأنه يئن من فرط صاعقة مزعجة تضرب أمة الإسلام .
بدا صوته ينادي في الناس : يا أمة محمد لا خلاص ولا كرامة و لا عبور إلا إذا عدنا إلى كتاب النور ” القرآن الكريم ” .
فهل آن لنا أن نكفّ عن عبادة الروايات ونعود للآيات ؟ .. هل نملك شجاعة الاعتراف بأن كلمة الله وحدها هي الحياة وكل ما سواها صدى بلا روح ؟ .. هل آن لنا أن نغتسل من خطايا البشر .. ونتوضأ بـ كلمات رب البشر ؟ .
اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد .