حين نادتني يا وليد

لم تكن رحلتي هذه المرة كغيرها من الرحلات التي كتبت عنها من قبل. كنت على عجلة من أمري، حتى إنني لم أجد وقتًا لجمع كل متعلقاتي، بما فيها الكتب التي اشتريتها من معرض الكتاب.
تحرك القطار وكأنه يجرّ أقدامه ليخترق الحقول الغافية في حضن الندى . السماء ملبدة بالغيوم . الهواء داخل العربة تفوح منه رائحة السفر الطويل. والحقائب المتناثرة بدت مرهقة من كثرة الترحال.
جَلَست، ممسكة بيدي تريد أن تطمئن أنني بجوارها، كأن الخوف من الفقد يلاحقها، عيناها الغائرتان وتجاعيد وجهها لم تُخفِ مسحة جمالٍ أنهكه الزمن
مالت برأسها على كتفي، فابتسمتُ في وجهها مطمئنا. ودون أن ترفع راسها همست: “عطشانة” ، اشتريت لها قارورة ماء شربت رشفةً واحدة، ثم أغلقتها بإحكام وأعادتها إليّ.
كانت تفتح حقيبة يدها، كل بضع دقائق وتُخرج ورقةً مهترئة. تنظر فيها ثم تبتسم ابتسامة غائمة، وتتمتم بكلمات مبهمة، وهي تنظر عبر النافذة.
التفتت إليّ فجأة وقالت: كنتُ أحب أباك، فقد كان الرجل الوحيد في حياتي، تزوجته وأنا ابنة سبعة عشر عامًا. علّمني كل شيء… حتى ما لا يُقال. لم يكن مجرد زوج ، بل كان أبي وأمي وصديقي.
ثم ابتسمت ابتسامة واهنة، وأضافت: هل تعرف أنك جئت إلى الدنيا على يديه ؟ لا تتعجب فقد كان يعمل مع طبيب نساء وولادة، وتعلّم منه كيف تلد النساء.
سكتت لحظة، ثم أدارت وجهها، قالت وقد اختنق صوتها بالبكاء : اليوم الوحيد الذي غضبتُ منه، كان حين قال إنه لا يريد أطفال سواك وأنه يكتفي بك. يومها بكيت بحرقة ورجوته، لكنه رفض، وقال كلامًا كثيرًا لم أفهمه .قالت ذلك ثم إنسابت دموعها في صمت. ربّتُّ على كتفها. لم أجد ما أقوله أمام هذه الدموع والذكريات.
هدأت سرعة القطار وهو يقترب من إحدى المحطات، وبدأ الركاب يجمعون أغراضهم استعدادًا للنزول.
:”هل سننزل؟”
أربكني السؤال، فسألتها بهدوء: “هل تريدين النزول هنا؟”
نظرت إليّ باستنكار، وقالت بنبرة حاسمة: “هل تسألني يا وليد؟ ألا تعرف أين ننزل؟!”
ارتبكتُ عندما نادتني: “يا وليد”…
كانت تحدثني بيقينٍ لا يملكه الغرباء، كأن وجودي بجوارها أمرٌ قديم، وكأننا نكمل حديثًا انقطع منذ سنوات طويلة. إذن، هي تراني بعيون الذاكرة، تلك التي خانتها دون أن تدري.
: “لا يا أمي… لم نصل بعد عندما تأتي محطتنا سأخبرك “
علت وجهها ابتسامة تشبه ابتسامة الأطفال حين يغلبهم النعاس، عادت لتميل برأسها على كتفي ثم أخرجت الورقة مرة أخرى من حقيبتها. كنت أراقبها عن قرب هذه المرة. ظلت تحدق فيها، ثم وبحركة بطيئة لكنها حاسمة، مزّقت النصف السفلي منها، وقذفته من نافذة القطار وقبل أن تعيد الجزء المتبقي الي حقيبتها مددت يدي وهمست برفق: “دعيني أرى ما تقرئين؟” ترددت للحظات قبل أن تضعها في يدي.
“إلى من يجد السيدة آمال…
هذه السيدة تبلغ من العمر ٧٥ عامًا، وذاكرتها كثيرًا ما تخذلها. قد تبدو مشوشة أو مرتبكة، لكنها ليست عدوانية. إذا وجدتها، فالرجاء معاملتها بلطف، فهي تخاف من الأصوات العالية ومن الحيوانات. إنها تعيش …”
أعدتُ قراءة السطور أكثر من مرة، كانت الجمل بسيطة ومباشرة، لكنّها فتحت بابًا لم أكن مستعدًا لدخوله.
تأملتها في صمت، وعقلي مثقل بالتساؤلات: لماذا مزقت الورقة؟
هل كانت لحظة فزع؟ أم مجرد تخلٍّ عن شيء لم يعد له مكان في عالمها؟ هل تريد أن تحتفظ بما يكفي، وتترك ما لم تعد بحاجة إليه؟ أخذت مني الورقة وأعادتها الي حقيبتها دون أن تلتفت ناحيتي.
: “هيا يا أمي، ها قد وصلنا.” قلت ذلك عندما توقف القطار في محطتي.
قامت وأمسكت يدي بقوة كأنها تخشى أن أضيع منها في الزحام.
كانت تسرع الخطى، وعندما طلبت منها أن نتوقف لنشتري شيئًا، قالت: “أسرع يا ولدي، أبوك ينتظر كي نتناول معه طعام الغداء… أنت تعرف أنه لا يحب الطعام البارد.” قالتها بثقة العائد إلى بيته، وإلى رجلٍ ربما رحل منذ زمن… أو لم يكن له وجود أصلًا.
خلعتُ معطفي ووضعته على كتفيها عندما هبت رياح باردة . كانت تدندن لحنًا غامضًا… لم أسمعه من قبل.
لم أسألها عن الورقة، ولم أخبرها أنني لستُ وليد؛ فهي لم تكن بحاجة إلى أسماء أو ذاكرة، بل بحاجة إلى ابن، فقررت أن أكونه، وألا أتركها… حتى لو نسيتني بعد ساعة.