مجدى طنطاوى يكتب : عندما ينكشف القناع

في زمن التزييف الإعلامي والازدواجية الأخلاقية تحتاج الإنسانية إلى أصوات تخرج من جدار الصمت تهز الغفلة وتكشف الزيف المستتر خلف لافتات براقة مثل “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”شعب الله المختار” وفي خضم هذه الحاجة يطل علينا المفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي بمقاله الجريء الذي يحمل عنوانا صادما “شكراً إسرائيل”
هذا المقال الذي لا يُشكر فيه المجرم على جريمته بل يُفضح بها يُمثل ضربة فكرية موجعة لضمير العالم المنافق وصرخة في وجه الأكاذيب التي استقرت طويلا في العقل الغربي والإعلام العالمي
- بلاغة السخرية حين يصبح “الشكر” أداة للمحاسبة
جاء العنوان الرئيسي “شكرا إسرائيل” بديعا من الناحية البلاغية إذ يستدعي القارئ إلى التوقف والتساؤل ولكنه ليس شكرا حقيقيا بل سخرية لاذعة ومقلوبة تُدين الجريمة تحت ستار الامتنان يشكر الكاتب إسرائيل على الجرائم التي ارتكبتها لا لأن هذه الجرائم تستحق الشكر بل لأنها فضحت زيف الخطاب الصهيوني أمام العالم بأسره
بهذا الأسلوب يُحدث الكاتب اختراقا نفسيا لدى القارئ يجعله يعيد النظر في المسلمات الإعلامية والسياسية التي بُنيت على تزييف الوعي وترويج الكذبة الكبرى بأن إسرائيل “ضحية” في صراعها مع الشعب الفلسطيني
- تفكيك السردية الصهيونية خطوة بخطوة
أحد أهم إنجازات هذا المقال هو تفكيك الرواية الصهيونية التقليدية عبر مراحل متعددة أبرزها
1. سقوط كذبة “شعب الله المختار” التي تم توظيفها دينيًا لتبرير الاستعلاء والتمييز العنصري
2. فضح السيطرة الإعلامية الصهيونية على كبريات القنوات والصحف الغربية التي حجبت الحقيقة لعقود عن شعوبها
3. تعرية الأكذوبة التاريخية للهولوكوست التي رغم مآسيها الفعلية تم توظيفها لإخضاع ضمير أوروبا وتشريع قوانين تجرم أي تشكيك أو انتقاد لإسرائيل تحت لافتة “معاداة السامية”
4. كشف المشروع الصهيوني الاستعماري من خطط تهجير اليهود إلى الأرجنتين وأوغندا إلى الاستقرار في فلسطين برعاية استعمارية بريطانية لاختيار وطن على حساب شعب كامل
بهذا التفكيك يُسقط الكاتب أركان الخدعة التاريخية التي قامت عليها الدولة الصهيونية ويعيد تركيب الوعي وفق سردية إنسانية أخلاقية عادلة تُعيد للفلسطيني حقه في التاريخ والجغرافيا والكرامة
- التاريخ لا يُمحى لكنه يُستدعى
يذكر الكاتب بمرارة التجارب التي عاشها اليهود في أوروبا من اضطهاد وقتل لكنه ينتقد تحول الضحية إلى جلاد ويُسائل الصهاينة… كيف لمن مر بالمحرقة أن يعيد صناعتها في غزة؟ كيف لمن عرف طعم الإبادة أن يذوقها للآخرين ؟ إنه سؤال أخلاقي يُعيد تعريف الإنسان حين يصبح القاتل متقمصا دور الضحية ويصمت العالم خوفا من أن يُتهم بالعداء للسامية .
- الجرائم الإسرائيلية عدسة لفضح العالم
لا يكتفي الكاتب بفضح إسرائيل بل يُدين ضمنيًا صمت الأنظمة الغربية والعالم “المتحضر” الذي يرفع شعارات الإنسانية بينما يبرر قصف المستشفيات وقتل الأطفال وتجريف منازل الأبرياء بالجرافات
بل يشكر إسرائيل لأنها بفظاعتها أيقظت الضمير العالمي وأجبرت الشعوب على أن تفتح أعينها وتعيد النظر في الرواية الرسمية وفي القوانين الجائرة مثل “حماية السامية” التي تمنح فئة فوقية لا تُنتقد وتكتم أفواه العقلاء باسم القانون
- دعوة للمواجهة الأخلاقية لا الكراهية
من اللافت أن الكاتب رغم نبرته الغاضبة لا يسقط في فخ التحريض الطائفي أو الديني بل يوجه نقده للحكومة الإسرائيلية وللمشروع الصهيوني السياسي لا لليهود كدين أو كجماعة دينية هذه نقطة مركزية في المقال تحميه من الوقوع في خطاب الكراهية وتجعله نصا حقوقيا إنسانيا قبل أن يكون سياسيا
- ما بعد السقوط انكشاف إسرائيل أمام وعي الشعوب
في الختام يُشير المقال إلى أن إسرائيل بممارساتها الوحشية قد أسقطت بنفسها القناع ودمرت سرديتها بيدها لم تعد الكاميرات بحاجة إلى تصريح فصور الموت في غزة كفيلة بإسقاط آلاف الكلمات وهذا الانكشاف هو بداية النهاية السياسية والأخلاقية لهذا الكيان الذي بني على الدم والخداع
- علي محمد الشرفاء صوت لا يُهادن
في عالم تهيمن عليه المصالح والصفقات قل من يكتب بهذا الوضوح وهذه الجرأة مقالته هي نموذج للمثقف الحر الذي يستخدم قلمه لكشف الزيف لا لتجميل القبح
لقد صاغ الكاتب رأيا جريئا لكنه عادل صادم واقعي وبهذا يكون قد أدى دورا من أعظم أدوار المثقف في زمن الخديعة إيقاظ الوعي العام ومحاسبة المجرم لا تبرير جريمته .
- وفي النهاية نقول :
شكرا لإسرائيل .. لأنك حين سفكت الدماء أسقطت قناع الإنسانية عن وجهك وكشفت حقيقتك للعالم
وشكرا لأمثال علي محمد الشرفاء لأنهم لم يصمتوا كما صمت غيرهم .