مصر القوية في قمة شرم الشيخ .. رؤية الشرفاء لإنقاذ الأمة واستعادة الردع

من يقرأ المشهد الإقليمي بعينٍ مُنصفة وواقعية يدرك أن مصرَ، منذ تأسيسها الحديث، لم تُعرَف كدولةٍ ناعمة”مُرفهة” فحسب، بل كقوةٍ حَصينة، قادرةٍ على حفظ التوازن وصون الأمن داخل حدودها وفي محيطها وفضائها الحيوي.
ليست مصرُ هونغ كونغ ولا سنغافورة؛ ليستْ مدينةً للسياحة الرفاهية فحسب، بل كانت وستبقى دولةً ذات طابعٍ حربيِّ رادعٍ حينَ تتطلّبُ الضرورة.
وما حدث أخيرًا في ملف غزة وصولًا لإنجاز التوصل لوقف حرب غزة وتوقيع الإتفاق مع واشنطن بشرم الشيخ، لم يَتأتَ من فراغٍ؛ فهو ثمرةُ موقفٍ ثابتٍ وعقيدةٍ سياسيةٍ تُعطي الأولويةَ للدور الإقليمي لمصر وقدرتها على احتواء الأزمات والتصدي للتحديات الجسام.
يؤكّد ما حصل طبيعة الدولة المصرية ويُثبت صحةَ الرؤية التي تعتبر الدولةَ الوطنيةَ القويةَ العمودَ الفقري لاحتواءِ المخاطر الجسيمة وحمايةِ الأمة من التفكّك.
في مطلع أكتوبر 2025 توصلتْ جهودٌ دبلوماسيةٌ متداخلة إلى اتفاق تهدئةٍ في قطاع غزة أُعلِنَ بدءه عمليًا يومي 9–10 أكتوبر، وقد لعبت مصر دورَ الوسيطِ والمحافظِ على مسارات التوصل إلى وقفٍ شاملٍ للأعمال العسكرية، فضلاً عن تحرّكها لتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
وتاليًا في الثالث عشر من أكتوبر حدث الإنجاز المشهود الذي تابعه العالم كله في مدينة شرم الشيخ بالتوصل لاتفاق يوقف الحرب ويرتب لما بعدها، واستبعاد سيناريوهات التصفية والتهجير.
سمعنا ورأينا استعراض الرئيس الأميركي ترامب لقوة جيشه سواء في خطابه بالكنيست أو أحاديثه بشرم الشيخ، وأسأل ماذا لو لم تكن هناك قوة وازنة تصمد وتكبح المخططات الكبرى والمؤامرات الضالعة فيها بلاده، مستخدمة مختلف الأدوات ومنها الإخوان والجماعات التكفيرية.
أعود إلى الوراء قليلًا وأسأل: لماذا كان التركيزُ على الجيشِ المصري وميزانيته من قِبَلِ جماعاتٍ تكفيرية متطرفة (في القلب منها جماعة الإخوان الخائنة) بدعم وتمويل ورعاية خارجية؟ الجوابُ في هامشٍ واحد؛ لأنَّ نزعَ صفة “الردع” عن مصر يعني تحوّلَها من دولةٍ قادرةٍ على الحماية إلى مساحةٍ هشةٍ قابلةٍ للتقسيم والتفتيت.
تقليصُ ميزانيةِ الجيش –كما كانت تحاول جماعة الإخوان عام حكمها المُريب- أو إخضاعها لتهرُّبٍ سياسيٍّ ليسَ مجردَ جدلٍ اقتصاديٍّ أو إداريّ؛ إنه مشروعٌ استراتيجيٌّ لتفكيكِ الدولةِ من الداخل، يُسهِم في فتحِ بابٍ واسعٍ أمامِ التدخلاتِ الإقليميةِ والدوليةِ التي لا تريدُ لمصر أن تتحملَ مسؤوليةَ الردع والحماية والاستقرار في محيطِها.
ولذلك كان الهوسُ المرضيُّ ببعضِ الأفلامِ الوثائقيةِ والحملاتِ الإعلاميةِ التي اضطلعت بها الإخوان وما شابهها ورعاتها بالخارج ضدَّ المؤسسةِ العسكرية المصرية جزءًا من مخططٍ أوسعَ يهدفُ إلى خلخلة بنية الردع وزعزعةِ القاعدة الوطنية الحامية.
الإستعراض الأميركي على لسان دونالد ترامب، قابله إستعراض مصري ليس بالكلام إنما بالفعل والتحرك المادي على الأرض والحشد بموازاة الحدود على الجبهة الشرقية، وبالطائرات تستقبل الضيف الأميركي وترحب به وتحرسه في سماء المحروسة،
هذا كله وغيره الكثير ليس عابرًا ولا هامشيًا ولا جزء من تفاصيل، إنما مُحدِد رئيسي وعنوان ومضمون رادع من مصر التي تقوم بدور الحماية والردع في الشرق الأوسط بالنسبة للعرب والمسلمين، وهي ليست رسالة رادعة فحسب إنما يدخل في صميم رؤية مصر (بلد المائة مليون عربي) لنفسها ولدورها ومسؤولياتها.
لو شاءت مصر (معاذ الله) لتخلت منذ البداية عن دورها ومسؤولياتها لتعيش مرفهة في أحضان أميركا وبريطانيا وتركيا وإيران وإسرائيل، وتترك الفلسطينيين لانقساماتهم المهلكة وتحالفات فصائلهم الضارة المُخيبة، لينهشهم كل ناهش شَرِه، لكنها تتحمل فالكبار لا يحلمون أحلامًا صغيرة، وقدر مصر أن تعيش مناضلة ومحاربة وحامية.
لقد أجهضت مصر، بصمودها وثباتها ودورها الحازم، مخططاتٍ أكبر بكثير من غزة؛ مخططاتٍ كانت تهدف إلى تفتيت البوصلة والهوية وتحويل دولِنا إلى ساحاتِ صراعٍ لصالحِ أطماعٍ إقليميةٍ ودولية، لصالحِ مَن يطلب وعدًا دينيًا مُزورًا أو مجدًا زائفًا.
ولو شاءت القاهرة التخلي عن مسؤوليتها – لا أحد كان ليلومها، فكثيرون يعرفون تضحياتها التاريخية- لَغدَت منطقتنا ساحةَ اقتتالٍ دائمٍ ومفتوحة على سيناريوهاتٍ أسوأ.
لكن مصر لم تترك ولم تتخلى؛ بل حمَت واحتوت وصبرت صبرًا طويلًا جميلًا ودافعت، مدعومةً بإخوةٍ يعرفون قيمتها، فحفظت للخيار العربي حضور الدولة والحمايةِ المشتركةِ معنىً وفعلاً، وظلت هي كما هي دائمًا وكما هو قدرها دولة إسبرطية حامية رادعة.
لو لم تكبح مصر بمساندة أشقائها هذا العبث لما بقوا دولًا ومجتمعات، ولفقدنا البوصلة والهوية ولصارت دولنا ساحات معارك وحروب يخوضها من يبحث لنفسه عن مجد زائف ومن يرى قوميته وعرقه هو الأنقى ويتعامل مع العرب باستعلاء واحتقار لشأنهم.
ولو لم يضحي المصريون وجيشهم بأرواح أنبل أبنائهم وشهدائهم في ساحات القتال في سيناء وعلى امتداد الجغرافيا المصرية خاصة منذ العام 2014إلى 2019م لاخبار السعودية مشروع التفكيك الذي قادته قوى دولية معلومة وأمدت الأدوات بالداخل بكل ما يلزم من مال وسلاح ومعلومات.
ومهما حدث من تباين وجهات نظر في بعض الملفات والمسائل فلن يستغني العرب عن مصر ولن تستغي مصر عن أشقائها العرب.
لا يمكنُ أن ننفصلَ في قراءتنا هذه عن رؤىِ المفكرين الذين سبقونا في تحديدِ دورِ مصرَ ومواصفاتها.
جمال حمدان حينَ تحدّث في مقال مهم عن “أبعادنا الأربعة” ورأى أن مصرَ هي قلبُ الإقليمِ وواجبُها الحفاظُ على البوصلةِ القوميةِ، ووصفُه لضرورةِ “قوةِ ردعٍ عربيةٍ مشتركةٍ” لا يزالُ أقوى من أي خطة مرحلية منعزلة.
يلتقي هذا التصورُ الجيواستراتيجي اليوم مع ما قامت به القاهرةُ عمليًا من عملٍ استخباريٍّ ودبلوماسيٍّ وسياسيّ فائق الجودة والإحترافية، إذ إنَّ حمايةَ القضاياِ العربيةِ لا تتمُّ عبرَ التخاذُلِ أو الرغبةِ في الرفاهيةِ الاستهلاكيةِ (كما قال نزار قبّاني عن خيارِ تحويل مصر إلى مونت كارلو ثانية بمقال له في ستينات القرن الماضي)، بل عبرَ بناءِ قدرة وطنية متينة قادرة على المناورةِ والوساطةِ والردعِ عندَ الضرورة.
إلى جانب ذلك، تتقاطعُ هذه الرؤيةُ مع رؤى المفكر العربي الكبير علي الشرفاء الحمّادي الذي نادى بأنَّ النهضةَ الحقيقيةَ تبدأُ من الإنسانِ والقيمِ، وأنّ الدولةَ الحاضنةَ للكرامةِ والوحدةِ لا تُستبدَلُ بسياساتِ تفتيتٍ أو مشاريعِ أيديولوجيةٍ مسيّسة.
ويرى الشرفاء أن الدفاعَ عن الدولةِ الوطنيةِ ليسَ تعطّشًا للسلطةِ بل حمايةٌ لفضاءِ العيشِ المشتركِ وقُدرةِ الأمةِ على البقاءِ ككيانٍ واحدٍ أمامَ التحدياتِ الكبرى.
تتقاطع رؤية أستاذنا المفكر العربي الكبير علي الشرفاء الحمادي مع جوهر ما صنعته مصر اليوم على المستويين الفكري والعملي؛ فهو من أوائل من نادى بضرورة العودة إلى المشروع العربي الجامع بدل التشرذم الإقليمي والفصائلي والطائفي، معتبرًا أن العروبة ليست شعارًا سياسيًا بل إطارًا حضاريًا وأمنيًا وأخلاقيًا يحمي الهوية ووجود الأمة، وفي فكره لا بقاء للأوطان دون قوة ردع عربية مشتركة تحميها من الأطماع الخارجية ومن توظيف الداخل كأدوات للهدم، وهو الطرح نفسه الذي جسدته مصر بتمسكها بدورها الرادع، ما أحبط جولة جديدة من مشاريع التفكيك والتصفية.
كما أكد الشرفاء أن الدولة الوطنية الجامعة هي الضامن الحقيقي للمساواة والمواطنة ووحدة الصف، وليست الأنظمة المذهبية أو الأيديولوجية الضيقة.
ومن هنا جاءت دعوته المبكرة لمشروع الدولة الفلسطينية الواحدة التي تتجاوز الفصائلية، وتنهي الانقسام، وتتحمل مسؤوليتها أمام شعبها والعالم كدولة كاملة السيادة والقرار، لا مجرد كيان ممزق تتقاسمه الميليشيات والمحاور.
هذه الرؤية تتناغم اليوم مع ما فرضته مصر على طاولة المفاوضات وأكد عليه الرئيس السيسي في خطابه المهم بقمة شرم الشيخ للسلام؛ لا حل بلا حقوق وعدالة للجميع، ولا سلام دون نيل الجميع سلامه وأمنه وحقوقه المشروعة.
وواقع الحال يقول إن هذه الحقوق لا تُنال وهذا الواقع لا يُفرض بالاستجداء والشعارات، إنما بكيان فلسطيني موحد، وبردع عربي حقيقي، وبعودة إلى العروبة باعتبارها المظلّة الوحيدة القادرة على حماية الدين والأرض والكرامة.
أخيرًا:
إنَّ ما وصلنا إليه اليوم من انتصارٍ حقيقي لمصر وللعرب وللشعب الفلسطيني هو انتصارٌ مصريٌّ ناعمٌ رادع – استخباريًا وسياسيًا- على محاولاتٍ شُنّت لتصفية القضية وتهجير أهلها.
هذا الانتصار ليس نصراً لشخصٍ أو نظامٍ فقط، بل هو انتصارٌ لمفهوم الدولةِ القويةِ الجامعةِ التي تقفُ بين الأمةِ وطُموحاتِ مُفرّقةٍ، وتمنعُ تحوّلَ القضايا الوطنيةِ إلى ساحةٍ لتصفيةِ الحسابات وبيعِ المصالح.
إنّ نجاحَ مصر في لعبِ دورِ الوسيطِ وأخيرًا الإسهام في وقف الحرب ووقفِ محاولةِ “التصفيةِ والتهجير” في غزة ليس انتصارًا لحاكمٍ أو لفريقٍ؛ بل انتصارٌ لوَجهةٍ تاريخيةٍ للدولةِ الوطنية التي تحافظُ على التوازنِ الإقليمي، وتُقدّمُ نموذجًا عن كيفَ تكونُ القوةُ الوطنيةُ شريكًا في إنقاذِ المحيطِ، لا أداةً لتجزئةِ الوطنِ أو تشتيتِ هويته.