اخبار المغرب

تسليع التفاهة واقتصاد الكراهية .. كيف صار الغباء أثمن من الذهب؟

من يحكم العالم فعلا: من يمتلك الفكرة أم من يمتلك خوارزمية الانتباه؟ من يربح في النهاية: من يصنع المعنى أم من يصنع الضجيج؟ هل ما نراه على الشاشات اخبار السعودية حقيقي أم استهلاك جماعي للانفعال؟ وهل صار الغضب آخر أشكال المشاركة في الحياة العامة؟ أسئلة تبدو بسيطة في ظاهرها؛ لكنها تكشف عن نظام خفي يعيد تشكيل الوعي، حيث تتحول التفاهة إلى سلعة، والاهتمام إلى رأسمال، والغضب إلى وقود يشغل آلة عالمية لا تعرف سوى لغة الأرقام، وتستبدل الفكر بالإثارة، والمعنى باللحظة، والإنسان بمستخدم يستهلك نفسه، وهو يظن أنه يختار سلعة أو يدافع عن موقف، أو حتى يبتلع وجهه كل يومين في المرآة؟

من رأسمال المعرفة إلى رأسمال الهراء

في زمن تتسارع فيه الصور وتتباطأ فيه المعاني، تطل علينا التفاهة بوصفها سيادة صامتة. ليست التفاهة مجرد أفعال صغيرة أو اهتمامات سطحية، إنها تحويل الهامشي إلى مركز، والعارض إلى قاعدة، والباطل إلى قاعدة حكم؛ غير أن التفاهة لا تكتفي بخلق فراغ داخلي، بيد أنها تهتم أكثر بترك أثر سياسي وأخلاقي، لأنها تهيئ النفوس لقبول أبسط أشكال التحريض وأكثرها بدائية. هنا، تتجلى الكراهية باعتبارها التعبير الانفعالي الأنسب عن خواء المعنى: حين يحرم الإنسان من القيمة، يبحث عن عدو؛ وحين يلغى التعقيد لصالح السطحية، يصبح “الآخر” هو المرآة التي نعلق عليها بؤسنا الداخلي.

الكراهية تنبت من تربة التفاهة، فهي طاقتها المظلمة وسلاحها الخفي. فحين يصير الوجود خواء من المعنى، تبحث النفس عن امتلاء بديل، فتجد في الكراهية وهما يمنحها شعورا زائفا بالامتلاء. إنها تمنح النفس المسطحة نشوة زائفة، تشبه اندفاع النار في هشيم جاف. ومع ذلك، تبقى العلاقة بين التفاهة والكراهية علاقة مراوغة. فالتفاهة تبدو بريئة، خفيفة، مسلية؛ لكنها حين تتضخم تتحول إلى حاضنة للغضب الجماعي. والكراهية، رغم عنفها، تخفي في عمقها هشاشة ما: هي دليل على أننا لم نعد نطيق خواء حياتنا. أعتقد أن التفاهة ليست نقيض الكراهية، إنها أرضها الخصبة؛ فالكراهية ليست سوى لحظة الانفجار التي يفرضها الفراغ الذي خلفته التفاهة. في زمن كانت فيه السلع تقاس بالوزن والنقاوة، ظهر عصر جديد تقاس فيه البضائع بعدد “اللايكات” والتعليقات الغاضبة. لم يعد الذهب ولا النفط هو رأس مال المرحلة، أضحت التفاهة سيدة الموقف. التفاهة هي البترول الجديد، والكراهية هي المصفاة التي تحولها إلى عملة صعبة.

صناعة التفاهة.. من التسلية إلى الاقتصاد

لم يعد التافه اليوم ذاك الكائن العابر الذي يملأ فراغ المقاهي بثرثرة باردة أو بنكات ثقيلة الوطأة على الذوق والعقل. لقد غادر الهامش وصعد إلى المنصة، متحولا من عرض جانبي إلى ظاهرة تحمل اسما وشعارا وقيمة سوقية. التفاهة، التي كانت تخجل أصحابها، أصبحت صناعة قائمة الذات، بخط إنتاج متكامل يضمن استمرارها وتوسعها في سوق المعاني المنهارة.
تبدأ العملية من لحظة الإنتاج، حين يقرر شخص أن يبيع غباءه في عبوة لامعة. يتصنع البلاهة، يستهين بالحياء، ويضع نفسه في موقع “الجرأة” التي لا تقول شيئا؛ لكنها تثير كل شيء. إنه ممثل في مسرح بلا نص، يكفيه أن يحدث ضجيجا ليتأكد أنه موجود.

ثم تأتي مرحلة التسويق، حيث تتكفل الخوارزميات بإيصاله إلى الواجهة. فالعالم الرقمي لا يفرق بين اللامع والمضيء، بيد أنه يكافئ من يجذب النظر، أيا كانت وسيلته. كل ما هو فاضح، صادم، أو مستفز، يجد طريقه سريعا إلى القمة، لأن البشر لا يقاومون فضولهم أمام “الحماقة الطازجة”. هكذا يصبح الذكاء خفيا، والضجيج مرئيا، ويغدو السخف قابلا للتداول مثل عملة رقمية من غير غطاء أخلاقي.

أما الاستهلاك، فهو الطقس الجماعي الذي يضمن بقاء هذه الدورة حية. الجمهور يشاهد، يغضب، يشارك، ثم يعود ليتابع من جديد. الغضب نفسه يصبح مادة دعائية، والإدانة تتحول إلى ترويج غير مباشر. فكل نقرة احتجاج، وكل تعليق ساخر، وكل مشاركة غاضبة هي في الحقيقة إعلان مجاني يضخ الحياة في ماكينة التفاهة.

هكذا، في مفارقة قاسية، يصبح التافه المستثمر الأذكى في “بورصة الانتباه”، بينما يتحول الغاضبون إلى شركاء في شركة أسهمها مبنية على الشتائم. في عالم كهذا، لم تعد المعركة بين العمق والسطح، وإنما أصبحت بين من يعرف كيف يبيع حضوره، ومن لا يزال يظن أن القيمة تكمن في الفكرة لا في عدد المشاهدات.

اقتصاد الكراهية.. كلما كرهتني أكثر، ربحت أكثر

في الاقتصاد القديم، كانت المعادلة واضحة: الجودة تساوي أرباحا. كلما ارتفع مستوى الإتقان، زاد العائد. كانت القيمة تولد من الجهد، وكانت السمعة تبنى ببطء، كما تصنع التحف أو تزرع الأشجار؛ لكن العالم انقلب رأسا على عقب، وظهر اقتصاد جديد لا يؤمن بالجودة، بقدر ما يتغذى على الانفعال: “اقتصاد الكراهية”، حيث يصبح الحقد نفسه سلعة، والغضب مادة خاما مربحة.

في هذا الاقتصاد المقلوب، القاعدة بسيطة وقاسية: إن كرهك الناس، سيعودون مرارا لرؤيتك كي يواصلوا كرهك. وكل عودة تسجل رقما، وكل رقم يجلب إعلانا، وكل إعلان يتحول إلى ربح. هكذا تتحول الكراهية إلى دورة إنتاج مكتملة، لا تحتاج إلا إلى جمهور مستفز ومحتوى يستفزه أكثر. إننا بإرادتنا نغذي هذا “الوحش الرقمي” الذي يعيش من مراقبة انفعالاتنا ويحولها إلى عملة صعبة.

وتبلغ المفارقة ذروتها حين نرى شخصا يعيش حياة ملكية لأنه أهان كرامة البشرية بما يكفي لجعلها تتابعه. لا يملك فكرا ولا موهبة؛ لكنه يملك مهارة واحدة: أن يُبقي الآخرين في حالة غيظ دائم. إن حضوره يقوم على استفزاز الغريزة لا إثارة الفكر، وعلى تحريك الغضب لا تحفيز العقل. ومع ذلك، تدفع له المنصات ثمن كل موجة غضب، كما لو كانت تكافئه على نجاحه في إفساد المزاج العام.

كيف تغير مقياس القيمة في العالم الحديث؟

لقد تحولت الكراهية إلى عمل تجاري منظم، تسنده خوارزميات تعرف كيف تستخرج الأرباح من أكثر المشاعر ظلمة. فكل سخط هو تفاعل، وكل شتيمة مؤشر، وكل جدال محتدم هو فرصة إعلانية جديدة. لم يعد العالم الرقمي يهمه ما يقال، وإنما كم مرة قيل، وبأي نبرة غضب.

إنها معادلة شيطانية بالفعل، جعلت التفاهة تتكاثر مثل الطفيليات، وجعلت من الحنق البشري طاقة متجددة تحرك طاحونة لا تتوقف. لقد اخترعنا، دون أن ندري، آلة تسحق إنسانيتنا ببطء، وتحول الكراهية إلى اقتصاد مزدهر يدر المال من تآكل المعنى.

لم تعد التفاهة ظاهرة محلية أو نزوة ثقافية عابرة؛ ذلك أنها غدت منتجا عالميا بمواصفات متقنة ونظام توزيع مذهل. ليست المشكلة في الأفراد، فهؤلاء مجرد وحدات صغيرة في آلة ضخمة. المشكلة في النظام الذي جعل من السخف موردا ومن الانتباه سلعة قابلة للمضاربة. لذلك، لا تهتم منصات الاخبار السعودية الاجتماعي إن كنت نبيلا أو مبتذلا، فالقيمة لا تقاس بما تقول، وإنما بما تحدثه من ضجيج. ما يهمها هو كم دقيقة أبقيت الناس أمام الشاشة، وكم شتيمة تبادلوها في التعليقات، وكم مرة ضغطوا على زر المشاركة بدافع الغضب.

لقد صمم هذا النظام ليكافئ الإثارة لا الفكرة، والاندفاع لا التأمل. كل ثانية يقضيها المستخدم في حالة انفعال هي مكسب مالي لشركة ما. كل انقسام حاد، كل نقاش غاضب، كل فضيحة لحظية، تتحول إلى أرقام تتدفق نحو خزائن لا ترى في الإنسان سوى “بيانات سلوكية” تصلح للتسويق. لقد تم تحويل العواطف إلى مواد أولية، والغضب إلى وقود اقتصادي يشغل عجلة لا تتوقف عن الدوران.

هكذا صارت التفاهة لغة مشتركة بين الثقافات، ومنتجا يستهلك في كل مكان دونما حاجة إلى ترجمة. لم يعد هناك “محتوى وطني” أو “ذوق محلي”، لأن المنصات العالمية توحد المقاييس: الأكثر مشاهدة هو الأكثر قيمة، ولو كان الأكثر تفاهة. ومن ثم، يتشابه الناس في ضحكهم، في سخريتهم، في ردود أفعالهم، كما لو أن العالم كله يشاهد نفس العرض الرديء على شاشات مختلفة.

لقد نجحت الشركات في خلق عولمة للسطحية، تجعل كل انفعال محلي فرصة ربح كوني. فإذا اشتعل الغضب في بلد، رقصت الخوارزميات في قارات أخرى. هكذا، يبدو العالم اليوم كما لو أنه منصة واحدة، يديرها نظام يعرف الإنسان أكثر مما يعرف الإنسان نفسه. نظام يهمه أن يبقى المرء متصلا بالشاشة أطول وقت ممكن. التفاهة هنا ليست خيارا شخصيا، إنها بنية اقتصادية متكاملة، تنتج وتسوق وتستهلك نفسها بلا نهاية.
بهذا المنطق، تتحول التفاهة إلى سلعة عالمية تتداول في الأسواق كما يتداول القمح؛ غير أن الفرق فادح: القمح يشبع البطون. أما التفاهة فتشبع الغرائز وتجوع العقول. إنها غذاء بلا قيمة، يملأ الوقت ويفرغ الوعي، ويجعل من الضجيج عادة يومية. في هذا السوق الكوني، لا مكان للصمت أو التأمل، فكل ثانية هدوء تعتبر خسارة في “اقتصاد الانتباه”.

نحن زبائن هذه الكارثة، ندفع ثمنها دون أن ننتبه. المفارقة المؤلمة هي أننا نحن الذين نمول هذه السوق، نحن الذين نحول وقتنا، وغضبنا، وفضولنا إلى أرباح للآخرين.

العالم يشبه، اليوم، كوميديا سوداء مكتوبة بإتقان ساخر: التافه نجم العرض، تتبعه الأضواء أينما تحرك، بينما الذكي مجرد تقني في الكواليس يضبط الصوت ويصلح الأعطال ليضمن استمرار المشهد. أما الشركات، فهي المخرج الخفي لهذا المسرح الرقمي، تبتسم من وراء الستار وهي تحول كل نوبة غضب، وكل جدال عبثي، وكل استهزاء عابر إلى أرباح بملايين الدولارات، دون أن يرف لها جفن أمام ما يتساقط من وعي وإدراك في الطريق.

لقد نجح هذا النظام في جعل التفاهة موردا مستداما، والغباء طاقة متجددة. لا يحتاج إلى طغاة ولا إلى فلاسفة ليقوده، وإنما إلى مجموعة مهرجين يرقصون أمام الكاميرا، وجمهور غاضب يصفق وهو لا يدري أنه وقود المسرحية. إننا لا نعيش في “عصر التفاهة” فحسب؛ وإنما في زمن “تسليع التفاهة واقتصاد الكراهية”، حيث تقاس القيمة بما يثيره المحتوى من عاصفة لا بما يحمله من معنى.

فهل يمكن لعالم يقتات على الانفعال أن يستعيد قدرته على التفكير؟ وهل يمكن لإنسان يعيش داخل شاشة أن يتذكر صوته الداخلي وسط هذا الضجيج؟ هل ما زال في الإمكان بناء معنى في زمن تقاس فيه القيمة بعدد المشاهدات لا بعمق الفكرة؟ أم أننا قد دخلنا مرحلة يصبح فيها الصمت فعل مقاومة، والتفكير نوعا من العصيان؟ أسئلة مفتوحة على مستقبل لا يَعِد باليقين، بقدر ما يضعنا جميعا أمام مرآة تظهر كم تغير وجه الإنسان حين صار متفرجا على نفسه.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.