صون التراث السمعي البصري في المغرب .. جهود حثيثة وتحديات كثيفة

بمناسبة اليوم العالمي للتراث السمعي البصري، الذي يُخلَّد في 27 أكتوبر من كل عام، تبرز من جديد أهمية صون الذاكرة الجماعية للأمم، وحماية الرصيد الثقافي والإعلامي الذي يُشكّل أحد أعمدة الهوية الوطنية. ويأتي هذا الموعد العالمي في ظل تسارع التحولات الرقمية، التي تطرح تحديات متزايدة أمام حفظ الأشرطة السمعية والبصرية، بما فيها التسجيلات التاريخية، والإنتاجات التلفزيونية والإذاعية، وكذا الوثائق المصورة التي توثق لمراحل حاسمة من تاريخ الشعوب. وفي هذا السياق، يُطرح سؤال مدى جاهزية المغرب لمواجهة مخاطر اندثار هذا التراث، وضمان نقله إلى الأجيال المقبلة في صيغ حديثة وآمنة.
تفاعلا مع هذه المناسبة الدولية، استقرأت جريدة هسبريس الإلكترونية معالم الجهود التي تبذلها المملكة المغربية في مجال صون التراث السمعي البصري، من خلال تتبع المبادرات المؤسساتية والشراكات ذات الصلة، والوقوف على ملامح السياسات العمومية المعتمدة في هذا الصدد. كما رصدت الجريدة، عبر مراجعة تقارير رسمية ومداخلات أكاديمية ودراسات متخصصة، أبرز التحديات التي يطرحها هذا الورش الثقافي الحيوي، سواء على مستوى التدبير أو من حيث التنزيل العملي لمشاريع الأرشفة والحماية.
جهود الدولة
من بين الجهود التي يبذلها المغرب للمحافظة على تراثه السمعي البصري، تبرز مبادرات متكاملة تعكس وعيا مؤسساتيا متناميا بضرورة صون هذا الموروث الذي يعد جزءا حيويا من الذاكرة الجماعية للأمة. وقد شهدت السنوات الأخيرة انخراط المملكة في مسارات وطنية ودولية، أبرزها الانضمام إلى البرنامج المشترك لصون التراث الثقافي غير المادي تحت إشراف منظمة اليونسكو، وهو ما شكّل دفعة قوية نحو إرساء إطار لحماية الأرشيفات الصوتية والمرئية من التلاشي أو النسيان.
وفي هذا السياق، أطلقت المكتبة الوطنية للمملكة المغربية مشروعا استراتيجيا منذ أبريل 2025 يهدف إلى رقمنة الرصيد الوثائقي السمعي البصري، في خطوة تستحضر الحاجة إلى ضمان استمرارية هذا التراث وتيسير الولوج إليه من قبل الباحثين والمهتمين. كما تُعزَّز هذه الدينامية بشراكات تقنية ومهنية، من أبرزها الاتفاق الثقافي الثنائي الموقّع مع فرنسا، الذي يركز على تبادل الخبرات في مجال حفظ الرصيد السمعي البصري وتطوير وسائل توثيقه ورقمنته، ما يدلّ على التزام المغرب بجعل ذاكرته السمعية البصرية رافعة للتنمية الثقافية والمعرفية.
كما تبرز مبادرات نوعية تندرج في صميم الجهود الوطنية الرامية إلى صيانة الذاكرة السمعية البصرية للمغرب، من أبرزها الشراكة الاستراتيجية التي جمعت بين “السينماتيك المغربية” والمعهد الوطني السمعي البصري بفرنسا (INA)، والتي أفضت إلى استعادة مئات الوثائق المصورة التي تؤرخ لحقب دقيقة من تاريخ المملكة، خاصة خلال أربعينات وخمسينات القرن الماضي. هذه الخطوة لم تقتصر على استرجاع المادة الأرشيفية فحسب، بل شملت أيضا برامج لتكوين أطر مغربية في تقنيات الحفظ والرقمنة، ما يُكرّس انتقالا فعليا نحو استقلالية مؤسساتية في تدبير هذا الإرث الحيوي.
وفي مسار متواز، أطلقت وزارة الثقافة سنة 2019 مشروعا وطنيا طموحا لأرشفة التراث السمعي البصري، يهدف إلى رقمنة الخزائن الإذاعية والتلفزية القديمة، وتأسيس منظومة مؤسساتية تعنى بحفظ هذا التراث وتثمينه، بما يشمل التسجيلات الوثائقية والمقابلات والبرامج التي شكلت ذاكرة حية لأجيال متعاقبة.
وساهمت المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، عبر قسمها المتخصص في المجموعات السمعية البصرية، في توثيق آلاف التسجيلات، مؤكدة بذلك أن حماية التراث السمعي البصري لم تعد مجرّد عمل تقني، بل باتت رهانا ثقافيا واستراتيجيا يهم الأجيال المقبلة وفهم تحولات المجتمع المغربي في عمقها.
وفي سياق الجهود الماخبار السعوديةة لحماية الذاكرة السمعية البصرية الوطنية، تبرز مبادرة نوعية نُفّذت سنة 2024 بتنسيق مع الشركة الفرنسية “Vectracom”، المتخصصة في أرشفة ومعالجة المحتوى السمعي البصري.
هذا المشروع الذي أُنجز لفائدة الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، شمل تجهيز وحدات رقمية متطورة لمعالجة الأشرطة القديمة وتحويلها إلى صيغ رقمية عالية الجودة، مع اعتماد نظام دقيق لإدارة البيانات الوصفية (Métadonnées) بما يضمن حفظا منهجيا ومهنيا للمواد المؤرشفة.
ويُعد هذا المشروع أحد أكبر تدخلات الرقمنة في تاريخ الإعلام العمومي بالمغرب من حيث حجم المواد المعالجة ومعايير الجودة التقنية المعتمدة، ما يُعزز قدرة المملكة على صون موروثها السمعي البصري وضمان استمراريته كمرجع ثقافي وحضاري للأجيال القادمة. هذه الخطوة التقنية ليست فقط تثمينا للذاكرة، بل أساس لبنية أرشيفية تواكب التطورات الرقمية العالمية وتُتيح فرصا بحثية وثقافية جديدة.
تحديات حقيقية
في المقابل، تبرز تحديات حقيقية ما زالت تعترض جهود حفظ التراث السمعي البصري بالمغرب، في مقدمتها التراجع في موارد مؤسسات البث العمومي؛ إذ سجّل التقرير السنوي للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري لسنة 2023 انخفاضا بلغ 14.46 في المائة في المداخيل التشغيلية، ما أثّر على قدرة هذه المؤسسات على مواكبة مشاريع الرقمنة وتطوير أنظمة الحفظ المؤسسي.
من جهته، نبه تقرير صادر عن المجلس الأعلى للحسابات إلى محدودية أداء صندوق دعم المشهد السمعي البصري، بسبب تقلص موارده مقابل تزايد عدد الملفات المعروضة عليه، وهو ما انعكس سلبا على تمويل المشاريع المرتبطة بإعادة تأهيل الأرشيف وإنتاج الأشرطة الوثائقية ذات البعد التوثيقي.
كما تُسجل تقارير متابعة أخرى إشكالات مرتبطة بتداخل الاختصاصات بين الفاعلين المؤسساتيين، وغياب رؤية موحدة في تنزيل السياسات العمومية في مجال الأرشفة، ما يعيق توحيد الجهود ويؤخر تفعيل مسارات الحفظ والاسترجاع الرقمي بالشكل المطلوب.
ورغم التقدم النسبي الذي تحقق على مستوى المبادرات، إلا أن هذه التحديات البنيوية تبقي ورش الأرشفة مفتوحا على رهانات معقدة، تتطلب معالجة شاملة ومقاربة متكاملة لحماية الذاكرة البصرية الوطنية.
وفي السياق ذاته، تكشف تقارير ودراسات أكاديمية عدّة عن صعوبات بنيوية ما تزال تُعطّل بناء منظومة وطنية متكاملة لأرشفة التراث السمعي البصري. دراسة صادرة عن جامعة جنيف، بعنوان “رقمنة التراث الثقافي في خدمة الدبلوماسية الثقافية المغربية”، تبرز استمرار هشاشة التنسيق بين المتدخلين المؤسساتيين، وغياب إطار استراتيجي موحَّد، ما يجعل العديد من المبادرات مجرّد اجتهادات ظرفية، تفتقر إلى النجاعة والتراكم. كما تطرح الدراسة إشكالية النقص الحاد في الموارد البشرية المؤهلة، والميزانيات المرصودة التي لا تواكب الطموحات المعلنة.
وفي المنحى نفسه، يحذّر تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من أن القطاع السمعي البصري العمومي ما يزال مثقلا بإكراهات مالية وتنظيمية تحدّ من قدرته على الاندماج الفعلي في مسار الرقمنة الثقافية. كما تسجّل ورقة بحثية بعنوان “أرشيفات المغرب وتحديات حفظ الذاكرة الوطنية” ضعف البنية التحتية الرقمية الخاصة بالأرشيف، خصوصا من حيث تأمين البيانات وتكوين أطر متخصصة، ما يؤثر سلبا على استدامة المحتوى السمعي البصري وحضوره في السياسات الثقافية الوطنية.
وفي امتداد التحديات المطروحة، تبرز تقارير ومداخلات أكاديمية أخرى أبعادا مكمّلة للإشكالات المرتبطة بأرشفة التراث السمعي البصري في المغرب. ففي تقريرها السنوي لسنة 2023، تشير الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري إلى استمرار ضعف البنية الجهوية في هذا المجال؛ إذ لا تزال العديد من المحطات الجهوية تفتقر إلى تجهيزات رقمية حديثة تضمن حفظ المحتوى السمعي البصري وتوزيعه بشكل منصف عبر مختلف جهات المملكة، ما يعمّق التفاوت الترابي في الولوج إلى الذاكرة البصرية المشتركة.
من جهة أخرى، تحذّر دراسة بعنوان “البحث عن الأرشيفات السمعية البصرية” من محدودية ولوج المهنيين والباحثين إلى الرصيد المؤرشف، بسبب عراقيل تنظيمية وإدارية تقف حائلا دون تحويل هذا التراث إلى مادة معرفية متاحة للعموم. كما تنبّه دراسة منشورة على موقع “ResearchGate” إلى صعوبة حصول الجمعيات الثقافية المحلية على التمويل الضروري لمشاريع رقمنة الأعمال الوثائقية القديمة، ما يجعل جزءا كبيرا من الذاكرة السمعية البصرية مهددا بالاندثار في غياب دعم مؤسساتي واضح ومستدام.
ويحذّر تحليل منشور في مجلة أكاديمية متخصصة من أن ضعف أرشفة المحتوى السمعي البصري العمومي لا يؤثر فقط على السياسات الثقافية، بل يمس أيضا بجودة الذاكرة المؤسسية، التي تُعد عنصرا جوهريا في حفظ التاريخ الوطني وتحقيق العدالة المعرفية بين الأجيال.
