اخر الاخبار

علاقة بيولوجية بين «أمراض اللثة والأسنان» ومخاطر السكتة الدماغية

تصلب الشرايين العصيدي الرابط الخفي بين صحة الفم وسلامة الدماغ

لطالما اعتُبرت صحة الفم مسألة تجميلية تُعنى بابتسامة مشرقة، غير أن البحوث الحديثة قلبت هذه الفكرة رأساً على عقب. فالفم ليس مجرد مدخل للطعام؛ بل هو نافذة تكشف حال الجسد كلّه، وجسرٌ مباشر نحو الدماغ.

علاقة بيولوجية

وفي دراسة حديثة ستُنشر في عدد ديسمبر (كانون الأول) 2025 من مجلة «نيورولوجي أوبن أكسِس» (Neurology® Open Access)، اطّلعت «الشرق الأوسط» على نسختها الإلكترونية قبل صدورها، توصّل فريقٌ من جامعة ساوث كارولاينا، بقيادة الدكتورة ستيفاني وود (Stephanie Wood) إلى وجود علاقة بيولوجية متينة بين أمراض اللثة وتسوس الأسنان من جهة، وارتفاع خطر الإصابة بالسكتة الدماغية -أحد أبرز أسباب الوفاة والعجز حول العالم- من جهة أخرى.

رسم تصويري لتراكم اللويحات الدهنية داخل الشريان في حالة التصلب العصيدي

تصلب الشرايين العصيدي

تُظهر الدراسة أن الرابط الخفي بين صحة الفم وسلامة الدماغ يتمثّل في تصلب الشرايين العصيدي (Atherosclerosis) وهو مرضٌ مزمن ينتج عن تراكم الدهون والخلايا الالتهابية على جدران الشرايين، فتفقد مرونتها تدريجياً ويضيق مجراها، ما يحدّ من تدفّق الدم إلى الأعضاء الحيوية. ومع مرور الوقت، قد تنفصل هذه الترسبات لتكوّن جلطة دموية يمكن أن تسدّ أحد شرايين الدماغ، فتؤدي إلى السكتة الدماغية.

وبصيغة أبسط: التهاب اللثة المزمن لا يقتصر على اللثة وحدها؛ بل يطلق سلسلة من التفاعلات داخل الجسم ترفع مؤشرات الالتهاب في الدم، وقد تنتهي بانسداد في شرايين الدماغ.

منهجية دقيقة

اعتمد الباحثون في هذه الدراسة على بياناتٍ موثوقة من مشروعٍ بحثي طويل الأمد، بعنوان «خطر تصلب الشرايين العصيدي في المجتمعات» (Atherosclerosis Risk in Communities – ARIC)، وهو من أبرز الدراسات الوبائية في الولايات المتحدة التي ترصد تأثير العوامل الصحية على القلب والدماغ.

شملت الدراسة 5986 مشاركاً خضعوا لفحوصٍ فموية دقيقة بين عامي 1996 و1998، وتمّت متابعتهم علمياً حتى عام 2019، أي لأكثر من عقدين من الزمن.

ولتحقيق دقة المقارنة، قُسِّم المشاركون إلى 3 فئات رئيسية:

– مَن يتمتعون بصحة فموية جيدة.

– من يعانون أمراض اللثة فقط.

– من يعانون أمراض اللثة وتسوس الأسنان معاً.

بعد ذلك، قام الباحثون بتحليل معدلات السكتات الدماغية والنوبات القلبية والوفيات القلبية الوعائية، مع ضبط النتائج وفقاً لعوامل مؤثرة، مثل: السن، والجنس، والعِرق، ومستوى السكّر، والتدخين، والكوليسترول، لضمان أن يكون تأثير صحة الفم هو العامل الحاسم في النتائج.

رسم تصويري لدخول البكتيريا الناتجة عن أمراض اللثة إلى الشرايين وتأثيرها على الدماغ

نتائج تُقلق الأطباء

كشفت الدراسة عن أرقامٍ مقلقة تعيد التأكيد على أن الفم ليس معزولاً عن بقية الجسم. فقد بلغ خطر الإصابة بالسكتة الدماغية نحو 10 في المائة لدى الأشخاص الذين يعانون أمراض اللثة وتسوس الأسنان معاً، مقارنة بـ6.9 في المائة عند من يعانون أمراض اللثة فقط، و4.1 في المائة لدى من يتمتعون بفمٍ سليم.

ونتيجة لذلك، وفي أثناء إجراء التحليلات الإحصائية المعدّلة، تبيّن أن اجتماع المرضين يرفع خطر السكتة الدماغية بنسبة 86 في المائة، ويزيد خطر الإصابة بأمراض القلب الكبرى بنسبة 36 في المائة.

أما عند التعمق في الأنواع الفرعية للسكتة الدماغية، فقد وُجد أن خطر السكتة الانسدادية (Thrombotic Stroke) -أي الناتجة عن انسداد أحد شرايين الدماغ- ارتفع بنسبة 127 في المائة، في حين قفز خطر السكتة ذات المنشأ القلبي (Cardioembolic Stroke) إلى 158 في المائة.

الوقاية تبدأ من العيادة

تُظهر الدراسة بوضوح أن العناية المنتظمة بالأسنان ليست ترفاً تجميلياً؛ بل هي درع وقائي حقيقي ضد أمراض خطيرة تمس القلب والدماغ. فقد بيّن الباحثون أن الأشخاص الذين يزورون طبيب الأسنان بانتظام تقلّ لديهم احتمالية الإصابة بأمراض اللثة وتسوس الأسنان، بنسبة تصل إلى 81 في المائة، مقارنة بمن يهملون المتابعة الدورية.

وتوضح النتائج أن إجراءاتٍ بسيطة -مثل تنظيف الأسنان المنتظم، وإزالة الجير، وعلاج التسوس في مراحله المبكرة- قد تُسهم في خفض خطر الجلطات الدماغية والقلبية بدرجة تفوق ما يتخيله كثيرون. فعيادة الأسنان -كما تشير الدراسة- قد تكون الخط الدفاعي الأول عن الدماغ، قبل أن تكون مكاناً لتحسين الابتسامة.

البعد الاجتماعي والصحي

لم تقتصر نتائج الدراسة على الجانب الطبي فحسب؛ بل كشفت عن فوارق اجتماعية وصحية عميقة تؤثر في صحة الفم، وبالتالي في صحة الدماغ. فقد لاحظ الباحثون أن الأشخاص من الأصول الأفريقية الأميركية كانوا أكثر عرضة للإصابة المزدوجة بأمراض اللثة وتسوس الأسنان، وهو ما يعكس تفاوتاً في فرص الوصول إلى الرعاية الصحية المنتظمة، سواء من حيث التكلفة أو التوعية، أو توفر الخدمات الوقائية.

كما أظهرت البيانات أن عوامل الخطر المزمنة -مثل: السمنة، وارتفاع ضغط الدم، والسكري- كانت أكثر انتشاراً بين من يعانون مشكلات فموية مزمنة، مما يشير إلى أن صحة الفم ليست قضية معزولة؛ بل مرآة للعدالة الصحية والاجتماعية داخل المجتمعات المختلفة.

توصيات للمجتمع والأطباء

تدعو نتائج هذا البحث إلى تغيير جذري في نظرتنا لصحة الفم، من كونها شأناً تجميلياً إلى كونها جزءاً أساسياً من الوقاية العصبية والقلبية. ومن أبرز التوصيات التي خرج بها الباحثون:

– دمج فحص صحة الفم ضمن الفحوص الطبية الدورية؛ خصوصاً للمرضى الذين لديهم عوامل خطر قلبية أو عصبية، مثل ارتفاع الضغط أو السكري.

– تعزيز برامج التوعية المجتمعية، لشرح أن اللثة ليست نسيجاً معزولاً؛ بل جزءٌ فاعل من الجهاز المناعي المتكامل، وأي التهاب فيها يمكن أن ينعكس على الجسم كله.

– تشجيع التعاون بين أطباء الأسنان والأطباء العامين وأطباء الأعصاب، لرصد المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالسكتة الدماغية ومتابعتهم مبكراً.

– إدراج صحة الفم ضمن سياسات الصحة العامة وبرامج الوقاية الوطنية، لما لها من دورٍ مثبت في تقليل عبء أمراض القلب والدماغ.

العالم العربي

في العالم العربي، تصل معدلات تسوّس الأسنان إلى نحو 70– 90 في المائة بين الأطفال والبالغين، وفق تقارير منظمة الصحة العالمية، وتبلغ نسبة المصابين بالسكري 25 في المائة في بعض دول الخليج، وهي من أعلى النسب عالمياً. كما تشير الدراسات الإقليمية إلى أن ما بين 60 في المائة و80 في المائة من البالغين يعانون أحد أشكال أمراض اللثة. تتقاطع هذه العوامل لتشكّل بيئة خصبة لأمراض الفم والشرايين معاً. ومع انتشار التدخين بأنواعه، تصبح صحة الفم أولوية وطنية لا تقلّ أهمية عن مكافحة أمراض القلب والسكتة الدماغية.

الخلاصة: ابتسامة تنقذ حياة

حين ننظّف أسناننا كل صباح، قد نكون في الحقيقة نحمي أدمغتنا من الجلطات؛ لا نحافظ على مظهرٍ جميل فقط. فصحة الفم ليست نافذة للجمال فحسب؛ بل جسر للحياة.

وكما قالت الدكتورة وود في ختام دراستها: «قد يبدأ الالتهاب في اللثة، ولكنه لا ينتهي عندها… بل قد يجد طريقه إلى شرايين الدماغ».

إنها رسالة علمية بليغة تختصر المعادلة كلها: الوقاية من السكتة تبدأ من الفم.

“);
googletag.cmd.push(function() { onDvtagReady(function () { googletag.display(‘div-gpt-ad-3341368-4’); }); });
}