النفط بعد عام 2025: كيف يمكن لليبيا استعادة ثقة السوق؟

نشر في:
الجمعة 12 سبتمبر 2025 – 11:39 م
| آخر تحديث:
الجمعة 12 سبتمبر 2025 – 11:39 م
وصل قطاع النفط الليبي إلى مفترق طرق حاسم. ففي يونيو 2025، أعلنت الحكومة عن أول جولة تراخيص للاستكشاف والإنتاج منذ أكثر من 17 عامًا، وشهدت الجولة اهتمامًا لافتًا؛ إذ تلقت أكثر من 400 شركة طلبات إبداء اهتمام في غضون أسبوعين فقط، لتغطية 22 رقعة موزعة على أحواض سرت ومرزق وبرقة.
تُراقب كبرى الشركات العالمية المشهد الليبي عن كثب. ففي مايو، وقعت “شل” و”بي بي” اتفاقيات إطارية لإعادة تفعيل عقود كانت معلّقة لسنوات، بينما تتقدم المحادثات مع “إيني”، و”أو إم في”، و”ريبسول” حول مشاريع توسعة جديدة في قطاعي النفط والغاز. ومع أن الفرص واضحة، فإن الذاكرة المؤسسية لدى المستثمرين لا تزال حذرة، بفعل سنوات من التقلّب والاضطراب.
إن عودة الاهتمام لا تعني تلقائيًا عودة الاستثمار. فالمصداقية أصبحت العامل الحاسم. وعلى ليبيا أن تُثبت قدرتها على فرض الاستقرار، وضمان الشفافية، وتفعيل الحوكمة المهنية لاستعادة ثقة الأسواق الدولية.
أظهرت جولة التراخيص أن ليبيا لا تزال تمتلك جاذبية جيولوجية كبيرة، لكن العامل المحدد لقرارات الاستثمار لم يعد حجم الاحتياطيات فقط، بل طبيعة الحوكمة. المستثمرون يبحثون عن بيئة تعاقدية مستقرة، آليات فض نزاعات واضحة، وقدرة على الوفاء بالالتزامات.
في يناير 2025، تعهد رئيس المؤسسة الوطنية للنفط بالإنابة، مسعود سليمان، بإنهاء صفقات تبادل الوقود غير الشفافة وتعزيز الرقابة المؤسسية. ورغم أن هذا التعهّد يُعد خطوة إيجابية، فإن التنفيذ الفعلي هو ما سيحكم عليه السوق. فقد أشار ديوان المحاسبة في يونيو إلى استمرار أوجه القصور في الكفاءة والشفافية داخل المؤسسة، ما يعكس القلق المستمر لدى المستثمرين.
وتُظهر البيانات الواردة في تقرير Maghrebi.org أن الفساد استنزف أكثر من 294 مليون دولار من قطاع النفط في النصف الأول من 2025. هذه الخسائر لا تُضعف فقط الميزانية العامة، بل تُقوض الثقة في المؤسسات الوطنية.
في بيئة تشهد منافسة إقليمية متزايدة على تدفقات رأس المال، لم تعد الشفافية خيارًا — بل أصبحت شرطًا أساسيًا. ويتطلّب ذلك نشر العقود، وإصدار تقارير دورية حول الإيرادات، وتفعيل الرقابة المستقلة، بما يعزز مصداقية القطاع أمام المستثمرين والشركاء الدوليين.
فيما تمثل الاحتياطيات النفطية عامل جذب جوهري، فإن ضمان تنفيذ المشاريع بنجاح يعتمد على توفر كوادر مهنية محلية تتمتع بالكفاءة والنزاهة. ولهذا، بدأت المؤسسة الوطنية للنفط في عام 2025 باتخاذ خطوات عملية لسد فجوة القدرات الفنية. ففي أغسطس، أنجزت المرحلة الأولى من برنامج تدريبي تقني في طرابلس وبنغازي بالتعاون مع شركة SLB، شمل مجالات هندسة المكامن وعلوم الأرض وتحليل البيانات، ويستهدف تدريب 120 متخصصًا بحلول الربع الثالث من العام.
كما شهد العام إطلاق منصة تعليم رقمية تهدف إلى تخريج 1,000 مهندس وفني سنويًا، وذلك في إطار جهود توحيد معايير التدريب بين شركات المؤسسة.
فالمستثمرون يريدون التأكد من أن ليبيا تمتلك القدرة على تنفيذ المشاريع دون الاعتماد الكامل على المقاولين الدوليين. المهنيون الليبيون المتمرسون قادرون على تقليل المخاطر التشغيلية، وتحقيق وفورات مالية، والحفاظ على المعرفة داخل المؤسسات الوطنية.
ما بين عامي 2016 و2018، ورغم الانقسامات السياسية والتحديات الأمنية، تمكنت المؤسسة الوطنية للنفط من ضمان استمرار الصادرات واحترام العقود الدولية، بفضل أداء التكنوقراط داخل المؤسسة، وليس بسبب توافقات سياسية مؤقتة.
وقد لعبت إدارة التسويق الدولي دورًا حاسمًا في تأمين عقود توريد طويلة الأجل أعادت طمأنة المشترين الدوليين. ومن بين الشخصيات البارزة خلال تلك الفترة كان عماد بن رجب، ممثل ليبيا في اللجنة الفنية المشتركة لأوبك، الذي ساهم في الحفاظ على استقرار التصدير، وحماية صورة ليبيا في الأسواق العالمية. ويُعد هذا مثالًا واضحًا على الدور المحوري للكفاءات الوطنية في تعزيز مصداقية الدولة.
لقد أثبت التاريخ القريب أن الدول التي تحترم تعهداتها، وتُدير قطاعها بكفاءات مهنية، هي الأقدر على جذب الاستثمار طويل الأمد.
ليبيا لا تحتاج إلى بناء مصداقية من الصفر، بل إلى حماية ما راكمته من خبرات، وتمكين من أثبتوا كفاءتهم تحت الضغوط.
الأسواق تراقب. والفرصة متاحة. لكن تحويل الاهتمام إلى استثمار مستدام مرهون بالحوكمة، والشفافية، والاحترافية.