اخر الاخبار

“لا بريد إلى غزة” لمحمد جبعيتي: سردية على شواهد القبور!

تُقدّم رواية “لا بريد إلى غزة” للروائي الفلسطيني محمد جبعيتي، الصادرة حديثاً عن دار الآداب في بيروت، نصاً صادماً وموجعاً، يغوص في عمق الوجود الإنساني داخل قطاع غزة المحاصر.
منذ العتبة الأولى، يضعنا الروائي أمام مفارقة الوجود الغزيّ، مستعيراً قول محمود درويش: “لا بريد إلى غَزَّة، لأنها مُحاصَرة بالأمل والأعداء”.. الرواية هذه هي رسالة من قلب هذا الحصار، كُتبت بلغة الموتى، وبأقدام شابة حاولت عبثاً القفز فوق واقعها.. إنه عمل عن جيل عالق بين مهنتين: حفر القبور كمصير حتمي، وممارسة رياضة “الباركور” كتمرد يائس على الجاذبية والحصار.
تُروى الحكاية بضمير المتكلم “أنا”، بصوت “جلال مطر”، الشاب الذي توارث مهنة حفر القبور عن أبيه وجدّه في مخيم جباليا، حيث يعيش تناقضاً وجودياً، فجسده الذي يحفر في الأرض ليلاً ليدفن الموتى، هو نفسه الجسد الذي يحاول “الطيران” نهاراً عبر “الباركور”، قافزاً فوق الركام والجدران.
الجو العام للرواية قاتم، لزج، ومغلق.. يصفه السارد بدقة: “في غزة، لا يسير الوقت إلى الأمام، بل يدور حول نفسه داخل حلقة مفرغة”.. هذا الجو مشبع بروائح الموت، والبارود، والمجاري، ومحكوم بدورات حروب متكررة.
تتتبع الرواية مسار “جلال” التراجيدي.. نشهد تمرده الطفولي، وصداقته مع شريكه في (الباركور) “زكريا” الذي يموت فجأة ليجد جلال نفسه يحفر قبر صديقه، ونعيش قصة حبه الوحيدة مع “سارة”، التي تنتهي بخيانة مريرة، حيث تستغله للهروب من غزة.
ويصل السرد إلى ذروته المأساوية في الحرب الأخيرة (يُفهم أنها حرب الإبادة التي اندلعت في تشرين الثاني 2023)، حين يفقد جلال عائلته كلها: أمه، وأباه، وأخواته) في قصف إسرائيلي لسيارتهم، ليصبح هو “الناجي الوحيد” الذي عليه أن يحفر قبورهم الجماعية ويدفنهم بيديه.
الرواية غنية بشخصياتها التي تجسد جوانب مختلفة من المأساة الغزية، على رأسهم “جلال” أو “البطل النقيض”، فهو ليس مقاوماً تقليدياً، إنّما “متمرد فاشل”، يرمز إلى جيل الشباب الذي سُحقت أحلامه.. تمرده (الباركور) ينتهي بإصابة تجعله “أعرج”، فيُحكم عليه بالعودة إلى مهنته الوحيدة: الحفر في الأرض.. إنه يجسد الاستحالة المادية للتحرر، أما “أحمد”، شقيق “جلال” الأكبر، فهو رمز “المقاوم” المثالي.. استشهاده واختفاء جثته يمثلان المسار التقليدي للبطولة الذي يتحول إلى صورة على الحائط وذكرى مؤلمة للأسرة.
ويُمثّل “الأب” الجيل القديم، التقليدي، الذي يرى في الموت “رزقاً” ومهنة شريفة، لكّنه يتحول لاحقاً إلى ما يشبه “الدجال” الذي يعالج الناس بالروحانيات في رمزية عميقة للتربّح من مآسي الناس، في حين تُجسّد “الأم” الحزن الفلسطيني المتواصل، هي التي تفقد ابنها المقاوم، وتعيش على أمل عودته المستحيلة، ممثلةً بذلك التشبث بالماضي.
“عطايا”، هو الصديق الخيالي لجلال، ويشكل صوت التمرد الخالص، الذي يُحرّض جلال على العنف والشغب، ويمثّل الغضب الداخلي المكبوت الذي يختفي صوته مع تزايد انكسارات جلال الواقعية، فيما “نورا”، معشوقة الطفولة، الممرضة التي تُبتر ذراعها، ويقرّر “جلال” الزواج منها، من قبيل “الأعرج يتزوج مبتورة الذراع”، في ترميز للاستمرار رغم الانكسار، لكن حتى هذا الأمل الأخير يُباد أيضاً بموت عائلته.
تتميز الرواية باستعارتها المركزية العميقة، حيث: “الباركور” في مواجهة “حفر القبور”، الذي هو رمز الخضوع للواقع، للقدر، ولثقل الأرض والحصار، باعتباره التعامل الحتمي واليومي مع الموت، في حين أن “الباركور”، يُمثّل التمرد على هذا الثقل، فهو محاولة “الطيران” وتخطي “الجدران” و”الركام”، سواء كانت جدران الاحتلال أم جدران المقبرة التي يتدرب فيها “جلال”.
أما “فشل التمرد” فهو الدلالة الأقسى في “لا بريد إلى غزة”، حيث إن الرواية لا تقدم بطولة سهلة.. جلال لا ينجح.. إصابته التي تمنعه من القفز هي إعلان صريح بأن واقع الحصار يسحق الجسد نفسه، ويقضي على أي إمكانية للتحليق، ولا يترك لصاحبه خياراً سوى العودة لحفر الأرض.
“غزة كمقبرة”، هي دلالة أخرى، حيث الخط الفاصل بين عالم الأحياء والأموات شبه معدوم.. جلال يتدرب في المقبرة، ويسمع الموتى يتحدثون، والواقع في غزة يفوق الخيال رعباً، حيث حوّلت الحرب الأخيرة المدينة كلها إلى مقبرة جماعية.
ما يميز “لا بريد إلى غزة” فنياً هو مزجها الجريء بين الواقعية الفجة والسريالية القاتمة، واستخدامها لتقنيات سردية مبتكرة، أبرزها: “هيكلية شواهد القبور”، حيث عمد جبعيتي إلى عنونة الفصول بـ”شاهدة قبر فلان..”، وهذا الإطار يجعل الرواية بأكملها “شاهدة قبر” جماعية، فكل فصل هو رثاء لشخصية أو فكرة ماتت.. السرد كله يصبح تأبيناً طويلاً لغزة وأحلامها.
شواهد القبور المستخدمة في الرواية هي في الغالب متخيلة، ولكنها تؤدي وظيفة واقعية ورمزية عميقة، فالشواهد لا تشير بالضرورة إلى أسماء شهداء حقيقيين معروفين قام المؤلف بتجميعهم، إنّما هي جزء لا يتجزأ من النسيج الروائي الذي يخلقه المؤلف.. هي “مجموعة” البطل، بحيث يوضح السرد أن “جلال” (حفار القبور)، مهووس بكتابات شواهد القبور.. يقول في بداية الرواية: “لاحقت بهوس هذه الكتابات طيلة سنوات، زرتُ خلالها عشرات المقابر، ودونتها في دفتر خاص”.
الشواهد التي تظهر كعناوين للفصول هي من “الدفتر الخاص” الذي يجمعه جلال، وهي مزيج من شخصيات في الرواية، بعضها يعود لشخصيات يموتون خلال الأحداث، مثل صديقه العدّاء “زكريا حسني عايش الدبس”، ومن أسماء متخيلة لترمز للواقع، كالطبيبة “تالا جميل حسين العكلوك”، أو للطالبة “ياسمين فخر جلال أبو حطب”، وغيرهما، هي أسماء متخيلة ترمز إلى شرائح المجتمع التي تفقدها غزة باستمرار، ومنحها أسماء رباعية يجعلك تبحث عمّا إذا كان صاحب الاسم أو صاحبته شهيداً من بين ما يزيد على السبعين ألف شهيد في القطاع، أو يزيد، بالإضافة إلى عبارات وجدانية، فالعديد من الشواهد ليست أسماءً، بل عبارات فلسفية أو موجعة رآها “جلال” منقوشة على قبور مجهولة، مثل: “أين تذهب أحلامي حينما أموت؟”، أو “هنا يرقد إنسان سحقه حب بعيد وغامض.
استخدم الروائي محمد جبعيتي هذه التقنية ليجعل الرواية بأكملها كـ”أرشيف” للشهداء في غزة.. هذه الأسماء والعبارات، حتى لو كانت متخيلة، فهي تمثل الحقيقة الجماعية لسكان القطاع، حيث تتحول المقبرة وشواهدها إلى السجل الوحيد الباقي لأحلامهم وحكاياتهم المبتورة.
واعتمد جبعيتي تقنية السرد بضمير المتكلم، فالسرد الذاتي لجلال يخلق جواً خانقاً وحميمياً، ويجعلنا محبوسين داخل رأسه، نرى العالم من منظوره المأزوم، ما يعمق الشعور بالعزلة والحصار.
ولا تكتفي الرواية بالواقعية القاسية، بل تذهب إلى السريالية لتصوير واقع فاق بعبثيته كل واقع، كما في: الانتحار الجماعي للحراذين (السحالي) في المقبرة، وقدرة جلال على سماع الموتى والحديث معهم، وظهور شقيقه “أحمد” بعد موته ككائن طائر، والشيخ الصوفي الذي يطلب من جلال حفر قبره ثم يختفي فيه .. هذه الغرائبية ليست هروباً من الواقع، بل تأكيد على أن “الواقع في غزة يفوق الخيال”.
“لا بريد إلى غزة”، سرد وجودي مرير عن جيل فقد كل شيء، حتى جسده كأداة للتمرد.. إنها رواية عن الفقد الذي لا يُحتمل، وعن “الناجي الوحيد” الذي تُرك ليروي الحكاية، بحيث يقدّم جبعيتي نصّاً شجاعاً وقاسياً، يبتعد عن الشعاراتية، ليقدم لنا “غزة” العميقة، العالقة بين الموت والأمل، المقبرة التي يحاول أبناؤها عبثاً القفز فوق شواهد قبورها.