العقيد الراحل امحمد الخطابي .. قصة “تحرير الجيش المغربي من الفرنسية”

هناك رجال لا ينساهم الناس، وتبقى ذكراهم عطرة زكية تفوح كأنفاس الأزهار والورود عند انبلاج الفجر في يوم ربيعي عباق. لا يهم أن يكونوا ذوي شهرة واسعة أو مقام عظيم يتميزون بهما عن باقي البشر، وإنما قد يكونوا أحيانا من البسطاء أو الفقراء أو “الغلابة” كما يسميهم إخواننا المصريون. أناس قد تلتقي بهم عَرَضا في الصباح أو المساء، فيحَيّونك بوجه ضاحك بشوش، يُرخي أعصابك ويبعث فيك فيضا غامرا من طاقة إيجابية تنشرح لها وترتاح.
وقد تتساءل في بعض المرات بينك وبين نفسك عن السبب الذي يجعلك تحب تلقائيا بعض الناس وتطمئن إليهم، فتجده مستغربا في بسمة صافية أو كلمة طيبة أو نظرة عطوفة أو أدب جم. لكنك في بعض الأحيان، تختلط عليك الأمور فلا تجد من هذه الأشياء عند بعضهم إلا القليل منها، فلا تدري بالتحديد مصدر ذلك الشعاع الخفي الذي يخترق صدرك ويفتح قلبك على مصراعيه لشخص بعينه ينزل بجوارحك ضيفا عزيزا مكرما محبوبا، ولو اختلف معك في طباعٍ وتباينَ معك في أفكار. ولكن في مجمل الحالات، يخبرك قلبك أن ذاك الشخص هو من أهل الخير الخالص، يحبه الله ويبث محبته في كل من حوله.
وهذا ما يعبر عنه الحديث المأثور: “الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف”.
موضوع حديثنا هنا حول شخصية كانت محبوبة بمناقبها، راقية بثقافتها، وعظيمة ببساطتها، قلّ من وُجد بين أُناس زمانها أحد كرهها أو تحدث عنها بسوء.
شخصية عسكرية سامية حدثنا عنها المرحوم محمد الرايس، صاحب كتاب “تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم”، جحيم معتقل تزممارت الرهيب.
وقد كان الضابط الرايس هذا بالنسبة لكل من مرّ بمدرسة أهرمومو العسكرية طالبا أو مُدرسا بمثابة العلبة السوداء التي تحفظ عن المدرسة كل شاردة وواردة؛ إذ كان من خريجي فوجها الأول مباشرة بعد استقلال المغرب بصحبة زميله الطالب حميدو العنيكري، الذي سيصبح فيما بعد ضابطا ساميا في قوات الدرك، وجنرالا رئيسا للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (المخابرات المغربية)، ومفتشا عاما للقوات المساعدة، والمنفذ قبل تقلد هذه المناصب لعملية اقتياد زميله الرايس ومن معه من ضباط وضباط صف إلى حيث ينبت شجر الزقوم في معتقل تزممارت الرهيب.
وباستثناء فترة وجيزة قضاها الرايس في وحدة بالجنوب المغربي، فإنه ظل بالمدرسة مدربا بارزا لا يحيد عنها قيد أنملة إلى أن كتب عليه القدر استبدال المدرسة العسكرية بالمدرسة الجهنمية حيث الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.
وقد حكى لنا فيما حكى، عن جميع المديرين الذين مروا من المدرسة ورفضوا تسريحه إلى وحدة أخرى بسبب كفاءته العالية في تعليم الطلبة مادة الطوبوغرافيا، وهو صاحب ذاكرة قوية وطاقة خارقة على الحكي، ولسان موهوب في فن التنكيت، خصوصا في مجال حفظ النوادر وتسجيل المواقف الهزلية المثيرة للضحك عن كل مدير مرّ على رأس تلك المدرسة.
إلا أنه كان عندما يأتي على ذكر العقيد امحمد الخطابي، كان يسكت لحظة وكأنه يسترجع في عقله ذكرى عهد جميل قلّما يجود بمثله الزمان.
ورغم اختلاف عقليتهما وتباين تكوينهما؛ إذ كان الرايس متفرنسا حتى النخاع، بينما كان الخطابي رغم إتقانه للغات عدة مولعا باللغة العربية إلى حد الولَه، فقد كان المرؤوس يُكن لرئيسه حبا جما وإعجابا منقطع النظير حتى إنه قال عنه ذات يوم: “لو قُدّر لمثل هذا المدير العسكري أن يأمرني برمي نفسي من جبل شاهق لفعلت دون تردد”.
وبالطبع، كان يستهوينا ونحن في ظلمات الأسر الطويل الإنصات بشغف كبير إلى الرايس وهو يحدثنا عن شخصية هذا الرجل العظيم الذي لم يُكتب لنا معرفته عن قرب.
لم يكن العقيد الخطابي من طينة المديرين المهووسين بحب وتبجيل فرنسا. وكيف سيكون كذلك وهو ابن القائد امحمد (إضافة لأبنائه الثلاثة: رشيد وصلاح ومصطفى)، الأخ الأصغر لأسد الريف وسنده في مشروعه التحرري، البطل محمد عبد الكريم الخطابي، الذي أخذ عنه كل أوصافه الحميدة ومناقبه النادرة.
فبمجرد تعيينه لإدارة المدرسة منتصف الستينات من القرن الماضي، قلبها رأسا على عقب، حيث منع بيع الخمور كليا في ناديَي الضباط وضباط الصف، وعمد إلى الاعتماد ما استطاع إلى ذلك سبيلا على اللغة العربية التي أرسى دعائمها وأعاد إليها الاعتبار، وذلك في وسطٍ كان كل ما فيه موسوما بطابع المستعمر الفرنسي الذي يفرض لغته فرضا ولا يتورع عن إهانة وتحقير اللغة العربية، حتى إنه كان يجتهد في إقناع من يتكلم بها بكونها لغة بائدة متخلفة ولا تصلح إلا لفقهاء المساجد العتيقة كي يكتبوا بها “الحروز” والتعاويذ للمؤمنين والمؤمنات بالخرافات والشعوذة.
وهذه مع الأسف الشديد معضلة كبيرة ما زلنا نعاني منها في المغرب، حيث إن جل النخب الحاكمة لا تتكلم فيما بينها إلا بالفرنسية رغم كونها لغة متراجعة، ومنها من يحمل جنسية فرنسا، بل ومنها من يفتخر بطريقة غير مباشرة بأنه يجهل لغة القرآن إطلاقا.
وقد كان العقيد امحمد الخطابي من فرط لباقته وحرصه الشديد على تفادي جرح أحاسيس ضباطه، وهو العارف المتقن لأربع لغات، ياخبار السعودية معهم في الأول باللغة التي يتقنونها كي لا يعتقدوا أن دافعه إلى اعتماد اللغة العربية هو جهله بالفرنسية. ولكنه مقابل ذلك، كان يلتجئ إلى حيَل ظريفة لحمل مرؤوسيه على الاحتكاك بلغتهم الأم، حيث كان ينادي مثلا على هذا الضابط أمام جمهرة من الأطر والتلاميذ، وهو يعلم عنه أنه سكير من الطراز الرفيع، ويكلفه بلهجة أبوية مبطنة بأمر عسكري لا يناقش، أن يُعد لتلاميذ المدرسة محاضرة حول الصيام مثلا، ويحدد له لذلك أجلا معلوما. ثم ينادي على آخر، وهو يعرف عنه أنه لم يوجه وجهه للقبلة، ويكلفه بتحضير درس مسهب حول فضائل الصلاة، ويجامل أحدهم وهو يعرف عنه أنه مقامر معروف، ثم يكلفه بتحضير محاضرة حول آفات القمار، وهكذا دواليك. وكم كانت حالة هؤلاء الضباط بئيسة وهم يُجدّون في البحث عن المراجع والكتب الدينية وسؤال أصدقائهم ممن لهم إلمام معتبر بالدين للاستعانة بما ينقذون به ماء وجههم أمام التلاميذ.
وبما أن المحاضرات كانت تُلقى إجباريا باللغة العربية الفصحى، فقد كانت محنة أولئك الضباط المساكين مضاعفة، مما كان يضفي على لكناتهم وتحريف بعض الكلمات من الفصحى إلى الدارجة أو الفرنسية جوا من الهزل، كان التلاميذ يضحكون فيه من الأعماق. غير أن ذلك سرعان ما أعطى أكله لأنه فتح أمام أولائك الضباط بابا للتطبيع مع لغتهم الأم، بل ومنهم من سحرته اللغة العربية وفتح عينيه منبهرا بسحرها وجمالها، فإذ هو يدمن على قراءة روايات نجيب محفوظ وجبران خليل جبران وميخائيل نُعيمة وكتابات علال الفاسي والمختار السوسي وعبد الله كنون، وغيرهم من الكتاب والأدباء العرب المشهورين مغربا ومشرقا.
وعلى هامش متابعة العقيد الخطابي شخصيا لجودة التدريس والانضباط العسكري، فقد سارع منذ قدومه إلى المدرسة بترتيب فضاءاتها وتنظيف مرافقها وتحسين خدماتها وبناء مسجد صغير كان يصلي فيه ويحث أطر المدرسة على ارتياده.
وقد أُثر عنه أنه كان أنيقا في بساطة ومتواضعا في وقار، تُشع من شخصيته الفذة جاذبية طاغية كان يرتاح إليها الأطر والطلاب والجنود على حد سواء، وكان من فرط نزاهته يتنقل في سيارة عادية، ويستنكف أن يتزود ولو بقطرة واحدة من بنزين المدرسة، علما بأن القانون كان يسمح له بقدر شهري يكفيه في تنقلاته.
ومن الطرائف التي نُقلت عنه أنه كان يصر أن يحدثه مرؤوسوه من ضباط الصف والجنود أيضا باللغة العربية، ولم يكن ذلك بالأمر الهين لأن معظمهم كانوا مجندين في الجيش الاستعماري الفرنسي قبل التحاقهم بالجيش المغربي حديث التأسيس. وبما أن نصيبهم من الثقافة كان هزيلا، فقد ابتكروا لغة مشوهة غريبة ياخبار السعوديةون بها فيما بينهم. لغة لا هي بالعربية ولا هي بالفرنسية وإنما هي عَوان بين ذلك؛ إذ كانت مزيجا ركيكا بين هذه وتلك. فمثلا، كانوا يسمون الهيلوكبتير “للا كوبتير” والقيادة العليا “اليطن مهجور” (ليطا ماجور بالفرنسية) والجنرال “الجننار” والكولونيل “الكنينير” وقاذفة الصواريخ “لا راسي”، وهلم جرا.
وذات يوم بينما هو في مدينة فاس، اتصل بالمدرسة للاطمئنان على أحوالها، فأجابه ضابط صف برتبة مساعد كان قادما من طوابير قوات الكوم الفرنسية، وكان معروفا عنه أنه يتكلم بعرنسية خاصة، وكانت مهمته الحرص على نظافة المدرسة وكل ما يتعلق بصيانة الآليات، كما كان مسؤولا على قطيع من الخرفان، ورثه العقيد المدير عن سلفه، ودأب جندي على سرحه في هوامش المدرسة الفسيحة وتسمينه تحسبا لضيوف عسكريين سامين قد يَحُلّون بالمدرسة على حين غِرة. فقال له:
ـ أهلا وسهلا السيد خرخاش.
فأجابه الرجل بعرنسيته المعروفة عنه:
ـ مي ريسبي مون كنينير.
وهو يقصد “احتراماتي سيدي العقيد”، فرد عليه العقيد بلطف:
ـ لا تقل ذلك ياخرخاش، بل قل بالعربية: “احتراماتي سيدي العقيد”.
فرد المساعد:
ـ وي مون عقاد.
فسأله العقيد:
كيف الأحوال في المدرسة يا خرخاش؟
فرد على الفور وهو يعتقد أن العقيد يقصد بالأحوال “الحوالة”، أي الخرفان بالعربية المغربية الدارجة:
ـ مون كنينير .. الحوالة إيفيكتيف فانتناف، بريزا فنتناف.
أي ما معناه بالعربية: عدد الخرفان 29، والحاضرون منهم 29.
ولم يمض سوى وقت قصير حتى أقيل العقيد من منصبه تحت اندهاش وصدمة كل من أحبوه واتخذوه أبا عطوفا، وذلك لأن الضباط السامين الآتين من الجيش الاستعماري الفرنسي لم يعجبهم تصرف رجل يغرد خارج سربهم، رجل مستقيم حتى النخاع، يهيم حبا بوطنه ويغار على لغته وثقافته العربية.
وقد ترك العقيد امحمد بن امحمد الخطابي سيرة عطرة في مسيرته العسكرية، حيث التحق بالجيش المغربي أواخر الخمسينات من القرن الماضي، ليشتغل ملحقا عسكريا بسفارة المغرب في القاهرة، قبل العودة للمغرب حيث عُين مديرا لمدرسة اهرمومو العسكرية الشهيرة بضواحي مدينة فاس. وبعد ذلك، تم نقله للاشتغال بأكثر من ثكنة عسكرية في الرباط. وفي إحدى المناسبات سلم على الملك الحسن الثاني سلاما عسكريا دون أن يركع له ويقبل يده، فغضب رئيس الدولة ولم يسمح له بأن يترقى للدرجة التي كان يستحقها وهي درجة لواء (جنرال).
وفي اليوم الموالي لأحداث الصخيرات سنة 1971 التي قادها العقيد محمد اعبابو، جاءت مجموعة من العساكر واصطحبوه إلى مكان مجهول لمدة يوم عاد بعده إلى منزله ليلا والدم يسيل من ساقه دون أن ينطق ببنت شفة. ومن ثم أصيب بحالة نفسية لم يغادر بسببها منزله بالرباط شهورا ماخبار السعوديةة، إلى أن نُقل إلى مصحة السويسي المعروفة بالعاصمة في إحدى أيام شهر يونيو من سنة 1976 ليقضي يومين هناك حيث علمت الأسرة بوفاته التي اعتبرتها غامضة.
كان رحمه الله صاحب أخلاق عالية متمسكا بمبادئه ومحبا لوطنه ومنتصرا للغته وأمّته. أدى رسالته التي يبدو أنها وصلت إلى أعلى المستويات حيث شاهد الجميع كيف أصبحت اللغة العربية تحتل مكانتها داخل الجيش المغربي، وأصبحت المناداة على رتب الضباط بلغة عربية سليمة، حيث تم ذلك في آخر استقبال لقادة الجيش بمناسبة وصول الملك إلى السلطة، ليسمع المغاربة لأول مرة ألقاب قادة الجيش باللغة العربية، حيث أصبح كل من المفتش العام للجيش المغربي وقائد الدرك يحملان رتبة فريق أول. وأصبح رئيس المكتب الثالث يحمل رتبة لواء. أما مفتش القوات الجوية فيحمل رتبة فريق جوي، في حين يحمل مفتش القوات البحرية رتبة فريق بحري. ويحمل المفتش العام للقوات المساعدة بالمنطقة الشمالية رتبة فريق. أما المفتش العام للقوات المساعدة بالمنطقة الجنوبية فيحمل رتبة عميد. وهكذا.
كم يُظهر البعض عجزا عن خوض معارك صغيرة انتصارا لقضايا كبيرة، قد يظن أنه لن يصل فيها إلى أي نتيجة. لكن العقيد امحمد الخطابي تولاه الله بعفوه ورحمته لم يكن أبدا من هذا الصنف، لذا ستبقى ذكراه خالدة لدى كل من عايشه أو سمع عنه.
