بناية محطة “القامرة” بالعاصمة المغربية تفسح المرور لصرح المعرفة

مَاذا لو كانت “القامرة” تنتظرُ هذا المصير منذ البداية؟
مَنْ قال إن الأمْكنة تُولد بما قُدِّرَ لها أن تكُون؟ هل يكون تحويل فضاء “القامرة” إلى مكتبة وسائطية مجرد مشروع عمراني… أم نبوءة ثقافية تُعلن أن زمن المعنى عاد ليُطالب بمكانه؟ ومن يضمن أن المحطة الطرقية لن تُفاجئنا كما تفعل الكتب حين تبوح بما لم نتوقعه؟ هل يمكن لمكانٍ كان يعجّ بصراخ المسافرين وروائح السّفر أن يتحوّل فجأة إلى معبدٍ للمعرفة؟ وهل يقدر التاريخ على إعادة رسم خرائطه داخل بناية أُنشئت أصلًا لتتّسع للحافلات لا للأفكار؟ ثم ما الذي يحدث حين يُقرر طريقٌ أن يتخلى عن دوره القديم، ويمنح مساره للكِتَاب كي يعبر أولًا؟ أيمكن للمدينة أن تعيد اختراع ذاكرتها كما يُعيد القارئ ترتيب حياته بعد قراءة كتابٍ غيّرَ إحساسهُ وفكرهُ؟
“القامرة”… من صخب السّفر إلى صمت المعرفة
ليس جديدًا على المدن العريقة أن تغيّر جلدها دون أن تغيّر روحها. فالتاريخ يخبرنا أن أعظم المكتبات وُلدت من رحم أماكن لم تكن يومًا مهيّأة للكتب. مكتبة الإسكندرية القديمة نفسها بدأت كمرفأٍ للمعرفة في مدينةٍ كانت تدور كل أنشطتها حول البحر، والسفن، وحركة القوافل. والقوافل، كما نعلم، تشبه المحطات الطرقية في زمننا المعاصر: تجمع الغرباء، توحّد الحكايات، وتطلق العابرين نحو مصائرهم. وهكذا، قد تجد “القامرة” مصيرًا يشبه مصائر تلك الأماكن التي غيّر التاريخ وظيفتها ولم يغيّر حقيقتها. فالمدن التي تُحسن حفظ الذاكرة تعرف أن تحويل “محطة” إلى “مكتبة” ليس مجرد قرار معماري، بقدر ما هو عودة إلى تقليد قديم، حين كان السفر والمعرفة يتجاوران جنبًا إلى جنب، حين كان التجار يحملون بضائعهم وأفكارهم، والعلماء يتنقلون من مدينة لأخرى كي يجمعوا الكتب كما يجمع المحاربون الغنائم. في القرون الوسطى، تحوّلت بعض الحصون والكنائس المهجورة في أوروبا إلى مكتبات ضخمة، لأن الناس أدركوا أن الأماكن التي شهدت “حركة الأقدام” تصلح أيضًا لاستقبال “حركة الأفكار”. وفي العالم الإسلامي، وُلدت مكتبات كبرى من أسواق الورّاقين، من ضجيج النسّاخ والبائعين، من فوضى الورق والحبر؛ إذْ لم يكن هناك انفصال بين السوق والمعرفة، ولا بين الطريق والكتاب.
من ضجيج الحافلات إلى همس الصفحات
وفي الرباط، تبدو “القامرة”، إنْ كُتبَ لها أن تتحوّل إلى مكتبة وسائطية، كأنها تعيد كتابة صفحة من هذا الإرث. فالمحطات، في جوهرها، ليست سوى مرايا للتاريخ: كل ما يتغيّر فيها هو نوع الرحلة. فاليوم، بدل أن يرحل المسافر نحو فاس أو مراكش أو طنجة، سيرحل نحو ابن رشد، ونحو إدوارد سعيد، ونحو نجيب محفوظ، ونحو عوالم لا تحجز لها تذاكر سفر، ولا تنفد فيها المقاعد، ولا تُعلن فيها تأخيرات. ذلك أن تحويل “القامرة” إلى مكتبة يُشبه أن تمدّ مدينة الرباط يدها إلى المستقبل وهي تحمل في اليد الأخرى ذاكرة الأسفار القديمة. كأنها تقول: لقد كانت هذه المحطة بوّابةً لخروج الناس… فلنجعلها الآن بوّابةً لدخولهم إلى المعرفة. وبهذا، يصبح المكان شاهدًا على حكمة المدن التي تفهم أن التاريخ ليس ما نتركه خلفنا، وإنما ما نعيد ابتكاره كلما ضاقت بنا الطرق واتّسعت بنا الرغبة في أن نصير أفضل مما كنا عليه.
لم يكن أحد يتخيّل أن “القامرة”، تلك المحطة الطرقية التي ازدحمت لعقود بحكايات المسافرين، قد تخفي في داخلها بذرةَ تحوّلٍ يليق بالمدن التي تعرف كيف تعيد تخيّل نفسها. فالحافلات التي كانت تنطلق منها محمّلة بالأجساد، ستغادرها الآن، ربّما، محمّلة بالأفكار. والأرصفة التي تعبت من خطوات العابرين، ستستريح أخيرًا تحت ظلّ الكتب. إن تحويلَ “القامرة” إلى مكتبة وسائطية ليس مجرد تغيير في وظيفة بناية، إنه إعلانٌ بأن المدينة قرّرت أن تمنح ذاكرتها فرصة أخرى. فالمكتبة ليست مكانًا لحفظ الكتب، إنها بالأحرى مكان لحفظ الإنسان من الضياع؛ وإذا صحّ هذا المشروع، فإن الرباط ستصنع من ضجيج المحطة القديمة فضاءً جديدًا للهدوء، ومن صخب النداءات منصةً للمعرفة، ومن سفرٍ بالجسد سفرًا بالعقل.
حين تمدّ الرباط يدًا للمستقبل
لم يكن أحد يظنّ أن محطة “القامرة”، تلك التي عاشت أعمارًا من الصخب، يمكن أن تُغيّر جلدها دون أن تفقد نبض المدينة. مكانٌ كان يُقاس بالمسافات، بالوداعات المتعبة، وبجغرافيا الحافلات التي لا تنام… لعله يتحوّلُ فجأة إلى مكتبة تُقاس بالأفكار، بالقراءات، وبالرحلات التي تتمّ في اتجاه الداخل لا الخارج. كأن الرباط، وهي تمدّ يدًا للمستقبل، تقرّر في الوقت نفسه أن تمسك بيد ذاكرتها كي لا تضيع في زحمة التّحديث. إن ما قد يحدث في “القامرة” أشبه بتمرين فلسفي: هل يمكن لمكان أن يبدّل مصيره؟ وهل يصبح الطريقُ، حين يتخلى عن ضجيجه، قادرًا على حمل معنى آخر؟
لن تولد المكتبة، إن شاء لها القدر ذلك، من فراغ؛ ستولد من رماد السفر نفسه. من حقائب كانت تجرّ معها الحياة بأثقالها، من أصوات المسافرين التي كانت تعلن بداية الحكايات ونهاياتها. وكأن المكان كان ينتظر هذا المصير منذ البداية، ينتظر لحظة يفهم فيها الإنسان أن السفر بالفكرة أعمق من السفر بالجسد، وأن الوصول الحقيقي يبدأ حين نفتح كتابًا لا حين تصل الحافلة. بهذا التحوّل، ستعيد الرباط تعريف علاقتها بذاتها. مدينة تقرّر ألا تودّع بعد اليوم، وإنما أن تستقبلَ. تقرّر أن تقرأ ماضيها دون أن تعلّقه على الجدار، وأن تعيد كتابة مصير مكان بدا، لسنوات طويلة، محكومًا بوظيفته الوحيدة. لكن الأمكنة، مثل البشر، تملك قدرة خفية على إعادة التخيّل. وأن المدينة، عندما تختبر ذكاءها الحضري، قد تبتكر معجزة صغيرة: محطة طرقات تُصبح محطة أفكار.
إنها مفارقة تشبه المعجزة
المكان الذي لا ينام، والذي كان يجمع قصص الغرباء لحظة عبورهم، سيغدو الآن مستقرًا لقصص أكبر، وأعمق، لا تُقرأ على عجل، ولا تُغلق على استعجال. فالرفوف المقبلة ستقِف حيث كانت الحافلات تصطفّ، والكتب ستملأ المساحة التي كانت تزدحم بالحقائب. وكأن المدينة تقول لنا: “لقد سافرتم بما يكفي… الآن حان وقت أن تُسافر المعرفة إليكُم”.
إن قيمة هذا التحوّل ليست عمرانية ورمزية في الآن ذاته. فالمكتبة، أينما حلت، تعيد تشكيل المكان. لكن أن تُقام مكتبة في موقعٍ كان رمزًا للترحال، فذلك يُحوّل السفر من “حَركةٍ إلى فكرةٍ”، ومن “مسافة إلى معنى”. ولعل أجمل ما في هذا “المشروع المحتمل” هو أنه يثبت أن المدن، مثل الكتب، قابلة لإعادة القراءة، وإعادة الترتيب، وإعادة التأويل. وأن “القامرة” التي ودّعت ملايين المسافرين، قد تستقبل قريبًا ملايين القرّاء، لتصبح بوابة للدخول إلى فضاءات العلم والمعرفة.
هل يمكن لمكان أن يبدِّل مصيره؟
ماذا لو تحقّق هذا التحوّل حقًا، هل ستتذكّر الكتب أنها حطّت رحالها فوق أرضٍ كانت ذات يوم ممرًّا للعَجَالة والوَداعات؟ وهل سيشعر المسافر القديم، إنْ عاد، بأن المكان يحدّثه بلغةٍ أخرى لم يكن يعرفها؟ أيمكن للرفوف أن تحتفظ بأصداء الخُطى التي مرّت هنا قبل أن تُولد؟ وهل ستنجح “القامرة” في أن تصبح جسرًا بين ذاكرة السفر وذاكرة القراءة؟ ثم ماذا لو اكتشفنا، بعد سنوات، أن هذا التحوّل لم يكن معماريًا ولا ثقافيًا فحسب… وإنما كان درسًا في كيفية أن تتعلّم المدن إعادة ابتكارِ نفسها؟ أفلا يكون السؤال الأكبر هو: إذا استطاعت محطة أن تصير مكتبة… فماذا قد نصيرُ نحْن؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
