ألحان السنباطي المفقودة بصوت فيروز تعود للواجهة وتسجيلات غامضة تختفي منذ 1979 وتنتظر قرارًا واحدًا

يحلّ يوم ميلاد السيدة فيروز هذا العام وقد عاد واحد من أكثر ملفاتها الفنية غموضًا إلى الواجهة مجددًا. فبين مئات التسجيلات النادرة التي لم يخرج معظمها إلى الجمهور، يبرز مشروع استثنائي يجمعها بالموسيقار المصري رياض السنباطي، وهو المشروع الذي تحوّل خلال 46 عامًا إلى لغز موسيقي يثير الفضول والأسئلة دون أن يحصل على أي حسم رسمي. ورغم كل الشذرات المسربة والروايات المتضاربة، تبقى هذه الألحان غير المنشورة واحدة من أثمن القطع في ما يسميه الجمهور اليوم «كنز فيروز المفقود».
وفي 21 نوفمبر من كل عام، يحتفل محبو فيروز بعيد ميلادها، ومع كل احتفال يعود الحديث إلى ملفاتها الغنائية الغامضة، وفي مقدمتها التعاون الذي جمعها برياض السنباطي، أحد أبرز صناع الموسيقى العربية. فقبل أكثر من أربعة عقود، لحّن السنباطي ثلاث قصائد خصيصًا لصوت فيروز، سُجلت أجزاء منها، ثم اختفت تمامًا، لتتحول إلى رواية موسيقية يتناقلها الجمهور والباحثون دون أن يعرف أحد مصيرها الحقيقي.
الروايات المتداولة تشير إلى أن المشروع تضمن ثلاث قصائد هي «بيني وبينك» من كلمات عبد الوهاب محمد، و«أمشي إليك» و«أذاكر أنت وجهي» من كلمات جوزيف حرب، مع حديث متكرر عن قصيدة رابعة بعنوان «آه لو تدري بحالي». ورغم أن بعض المقاطع الخام نُشرت عبر تسجيلات نادرة، فإن المشروع نفسه لا يزال معلّقًا بين شهادات متضاربة لا يمكن الجزم بصحتها.
تعود قصة التعاون إلى عام 1979 عندما تبنّت الكويت المشروع بدعم مباشر من وزير إعلامها آنذاك الشيخ جابر العلي السالم الصباح. وقد اختارت فيروز القصائد بنفسها، واستقبلت السنباطي في بيروت بعيدًا عن الإعلام، حيث عقدا جلسات عمل وبدأت بروفات الألحان. وتذكر إحدى الروايات أن السنباطي أُعجب بالمشروع إلى درجة قوله: «ما تبقّى من عمري لفيروز». المؤكد تاريخيًا أن بروفات أولية على العود سُجلت بصوتهما معًا قبل أن يتوقف المشروع بعد وفاة السنباطي عام 1981.
لكن ظهور رواية أخرى أضاف بعدًا جديدًا للغز، إذ يُنسب الخلاف إلى توتر وقع بين فيروز وأحمد رياض السنباطي، نجل الموسيقار. فوفقًا لهذه الشهادة، أصرّ أحمد على الإشراف على التسجيلات، وهو ما اعتبرته فيروز تدخلًا لا علاقة له بالفن. وتضيف الرواية أنه هدّد بإسناد الألحان إلى الفنانة ميادة الحناوي، الأمر الذي رفضه جوزيف حرب جملة وتفصيلًا، مؤكدًا أن القصائد كُتبت لفيروز وحدها. كما تقول الرواية إن غضب فيروز ازداد بعد تسريب بروفة «بيني وبينك» دون علمها.
قراءة أخرى يقدّمها الناقد طارق الشناوي، معتبرًا أن المشروع جاء في فترة حساسة من حياة فيروز الفنية، بعد انفصالها عن عاصي الرحباني عام 1979، وهي مرحلة كانت تحاول فيها تأسيس هوية غنائية خاصة خارج المدرسة الرحبانية. ويؤكد الشناوي أن وفاة السنباطي أوقفت المشروع طبيعيًا، رافضًا رواية تشابه الألحان مع أعمال أم كلثوم، ومشيرًا إلى أن السنباطي قدّم أعمالًا متنوعة لعدد من الفنانات دون أن يكرر أسلوبه.
وتتوسع الروايات لتتحدث عن تسجيلات لاحقة جرت عام 1985 في استديو بعلبك بإشراف وليد غلمية، حيث وضعت فيروز صوتها على موسيقى القصائد الثلاث قبل أن تكتشف لاحقًا عدم انسجام التنفيذ مع طبيعة صوتها، فتوقفت مجددًا. وتذكر مصادر أخرى أن محاولة ثانية جرت عام 1995 مع الموسيقار توفيق الباشا، لكن مصير هذا الإصدار بقي مجهولًا، خصوصًا مع تردد أن قدرات فيروز الصوتية في السنوات الأخيرة لم تكن تسمح بإعادة التسجيل الكامل، ما دفع إلى طرح فكرة تحديث الموسيقى رقميًا بإشراف زياد الرحباني.
ويرى بعض النقاد أن جذور المشكلة ليست إنتاجية ولا فنية، بل تتعلق بتباين المدرستين: المدرسة الرحبانية التي بنت حول فيروز عالمًا رمزيًا وشاعريًا، والمدرسة السنباطية التي تعتمد على البناء اللحني المتصاعد والتطريب. ومع أن هذا الرأي لا يستند إلى دليل، فإنه ظل راسخًا ضمن التفسيرات المتداولة.
أما الرواية العائلية فتتحدث عن رغبة أبناء السنباطي في إطلاق التسجيلات، مشيرين إلى دعم رسمي كويتي للمشروع، فيما عارض الشاعر جوزيف حرب أي محاولة لإسناد القصائد إلى صوت آخر. وقد أسند أحمد السنباطي قصيدة «آه لو تدري بحالي» إلى الفنانة سمر كموج، لكن حرب رفض إدراجها ضمن المشروع الأصلي.
ورغم كل هذا الكم من القصص، تبقى حقيقة واحدة شبه مؤكدة: التسجيلات موجودة في أرشيف فيروز، ولا أحد يملك الحق أو القدرة على إصدارها سواها.
ولا تقتصر الألغاز على ألحان السنباطي الثلاثة، فتراث فيروز يحوي ما هو أعمق وأكثر غموضًا. إذ تشير تقديرات فنية إلى أن مكتبتها تضم أكثر من 700 تسجيل غير منشور، إلى جانب 800 أغنية معروفة من أصل 1500 عمل غنّته طوال حياتها.
وتشمل هذه الكنوز أغنيات من تلحين فليمون وهبه، الذي يقال إنه قدّم لها 15 عملاً لم يُطرح رسميًا، بالإضافة إلى مشروع ضائع لزياد الرحباني في الثمانينيات يتردد أنه يضم 24 أغنية لم تُصدر حتى الآن.
كما تحتوي أرشيفات الأربعينيات والخمسينيات على تسجيلات مبكرة جدًا، بعضها من جلسات الإذاعة اللبنانية، وأخرى من حفلات بعلبك الأولى، إضافة إلى تسجيلات سياسية ووطنية بُثت مرة واحدة ثم اختفت. وتُعد هذه المواد جزءًا من ملامح فيروز الأولى قبل أن تتشكل صورتها النهائية، وتكشف عن مرحلة نادرة لا يعرفها الجمهور.
ومع بلوغ السيدة فيروز عامها التسعين، يزداد الفضول حول تاريخها المخفي، لكن لا مؤشرات حتى الآن على نية رسمية لفتح أرشيفها. وبين الألحان المفقودة والتسجيلات التي لم يسمعها أحد، يبقى القرار الأخير بيدها وحدها، ويبقى الجمهور في انتظار قد لا يأتي، لكنه يظل انتظارًا مليئًا بالأمل.
قد يهمك أيضــــــــــــــا
أبرز إطلالات فيروز أيقونة الأناقة الراقية خلال مشوارها الفني
بيروت تشيع زياد الرحباني وسط مشاعر حزينة من فيروز والمراسم تقام في المحيدثة بكفيا
