فنون

الجسد الأنثوي وفتنة الخطاب الشعري العربي

منذ الأساطير الأولى الإغريقية والرّومانية والهندية  وجسد المرأة ووصفه أساس كل حكاية وأنيس كل المجالس وبشرى كل الرّجال ؛ فمنذ حكاية إيزيس وأوزوريس وملحمة جلجامش ومغامرات عشتار ووصايا باخوس ورومانسيات فينوس والمرأة أعجوبة الأعاجيب ، بل ألعوبة الألاعيب ، فهي السّقم لمن رآها والبرء لمن سمع عنها وناجاها.
 والتراث العربي بدوره ممتلئ بالكتابة عن جسد المرأة ذاك المغناطيس بجاذبية لاتقاوم ؛ فالجاحظ وأبو حيان التوحيدي والإمام السيوطي وابن عبد ربه الأندلسي وأبو الفرج الأصفهاني والنويري وغيرهم كثيرون من القدامى والمعاصرين كانت لهم إسهامات تتحدّث صراحة عن الجسد .
أما في الشعر العربي فأكثر ماوصلنا منه يدور حول موضوع المرأة بل وصفها يشغل الحيّز الأكبر منه وخاصّة في الجاهلية ، فقد احتلت موضع القلب من الجسد وشكلت محورا أساسيا في كيان القصيدة وكان لها الإهتمام والحضور اللافت في النص الشعري  هذا على الرّغم من كونها كانت محتجبة لايظهر منها إلا وجهها وأجزاء قليلة من جسمها ، وكانت مختبئة دائما في خدرها لاتخالط الأجانب من الرجال لأن العرب كانوا ينفرون من ذكر أوصاف نسائهم في شعر تتناقله الألسن والرواة إلا أن شعراء عصرها فصلوها تفصيلا ، فأشعار امرئ القيس ، والنابغة الذبياني ، والأعشى ، وطرفة بن العبد ، وعروة بن حزام ، وزهير بن أبي سلمى ، والمنخل اليشكري ، والمرقّش الأكبر تفيض غزلا بالنساء والحديث حيالهن وحيال أجسادهنّ بمشاعر الهيام والصّبابة والعشق لدرجة التعهّر .
وفي العصرالإسلامي انقسم شعراء المرأة إلى قسمين :  فكان شعراءالطائفة الأولى مسلمين لكنّهم لم يتمكّنوا من التخلّص مما كانوا عليه في الجاهلية من حبّ للدّم والخمرة والنساء ، وقد وصل ببعضهم التهتّك في شعرهم حدّ المجون .
أما الطائفة الثانية فهم شعراء انقادوا إلى الدين الحنيف وتقيّدوا به وبتعاليمه ، فجاء وصفهم للمرأة عفيفا يعبر عن الحبّ بطريقة راقية ، وجاء عندهم في مطلع القصائد لاغير ولم يحمل إيحاء عاطفيا .
وما لبث أن عاد الغزل غرضا قائما بذاته في العصر الأموي وكان على ثلاثة أنواع : غزل تقليدي لايختلف عن الغزل الجاهلي ، وغزل صريح وهو مايسمى أيضا بالغزل الحسي والغزل الحضري والغزل القصصي ، والغزل الإباحي الذي يهدف إلى إثارة الحواس بوصف أحوال تلاقي العشاق والتصريح بمفاتن المرأة وذكرها وعدم التحفظ في البوح بمغامراتها ، لكنّه ظلّ حبيس دوافع جمالية لادوافع جنسية بحسب رأي الأدباء ، والعديد من هؤلاء الشعراء يتلذّذون بمجالسة النساء والتّسامر معهنّ ، إذ أن هذا الحب يؤمن بالّلهو ولا يعرف الخلود وأن الشاعر يتعلّق بأكثر من امرأة واحدة ، وهو كما أسلفنا حضري ، ظهر في المدن وشعراؤه من الذين عاشوا حياة ترف ونعيم ، وعلى رأسهم عمر بن أبي ربيعة .
 وثالثهم الغزل العفيف أو الغزل العذري أو الغزل البدوي وهو النوع الشعري الذي تنمو فيه حرارة العواطف الطّاهرة ، وسبب التسمية هذه يرجع إلى قبيلة بني عذرة التي عرف شعراؤها به ، وكان من أشهر شعراء هذا النوع : قيس بن الملوح _ كثير عزة _ جميل بن معمر المشهور بجميل بثينة _ سعيد بن عبد الرحمان وداود بن سلم .
وفي العصر العباسي تطوّر الغزل بشكل بارز خاصة مع انتشار ضعف الدين والأخلاق وتعدد مظاهر اللهو والرفاهية واختلاط الجنس العربي بالرومي والفارسي ، وانتشار الإماء ودور النخاسة التي كانت تمتلئ بالجواري من كلّ جنس فكنّ يتسبّبن في إشاعة الإباحية والإنحلال الخلقي في بغداد وغيرها آنذاك ، ما جعل الشعراء ينظرون إلى المرأة بمنظار الشهوة ويتناولون تصوير جسدها بشكل مفصّل ودقيق ، بل الأكثر من ذلك فقد توسّع الشعراء في مجال الفجور والإباحية ووصل المجون إلى ذروته ، بحيث انتشر التغزّل بالغلمان وهم الخدم من الذكور اليافعين والغلاميات وهنّ الجواري المتشبهات بالغلمان في الملابس وتسريحة الشعر وقصّه ونبرة الصوت في مجالس الّلهو والشراب والتّرف والسّرف التي امتلأت بالقيان والمغنيات اللاتي خلعن ثياب العفّة وطغى عليهن الفجور ، وأحطن بالشعراء من كلّ جانب .
ومن أشهر شعراء الغزل الفاحش في هذا العصر : أبو نواس _ وَالِبَة بن الحباب _ بشّار بن برد _ ومطيع بن إياس .

مستر ذكي, [06/08/2025 11:36 ص] وفي العصر الأندلسي حيث البيئة الثقافية والإجتماعية التي عرفت امتزاج العرب بسكّان الجزيرة الأندلسية ، وحياة التحضّر الناعمة والمترفة هيّأت سبل الّلهو والمجون  وساعدت على انتشار تيّار الغزل وسمحت للرجل والمرأة على حدّ سواء التعبير عن مشاعرهم بشكل صريح ، فقد انتشر الغزل الفاحش ولم يكن هناك ضير في الحديث عن الجسد ومفاتنه ، ومن أهمّ خصائصه أيضا ارتباطه بمجالس الّلهو والخمر وتعبيره عن تلك الحياة اللاهية ، ومع أن أوضح سماته : الرقة في العواطف المعبر عنها في بيان مستعار من البيئة الأندلسية السّاحرة إلّا أنّه لم يسلم من ألفاظ نابية وإسفاف في المعاني في عصر ملوك الطوائف وخصوصا عند التغزّل بالفتيات النصرانيات ، بينما الصادق منه شديد التأثير حين يبكي الشاعر ويحنّ في إيقاع غير مُتكلَّف .
ومن أشهر رواده : أبو الفضل المكيالي _ إبن خفاجة _ إبن زيدون _ علي الحصري القيراواني .
وفي الشعر الحديث اختلفت صورة المرأة واشتدّ هاجس الرّفض عندها حين بدأ احتكاكها بالمجتمع ، فالقرن العشرون يعتبر عصر حضارة لابداوة ، ولابدّ من تغيّر تناول الشعراء لصورة المرأة تغيّرا يأخذ أبعادا جديدة تتناسب مع التّحوّلات الإجتماعية والثقافية والسياسية والإقتصادية ، فهي أكثر من كونها مجرد موضوع شعري ، بل هي المرأة الوطن والمرأة الملهمة والمرأة المناضلة وأمّ الشّهيد والورد والقمر والّليل والحرب والأسطورة ورموز كثيرة تستخدم لفهم أعمق للمعاني والتجارب الإنسانية المتجذّرة في الجوانب المختلفة للمجتمع ودورها فيه .

الجسد الأنثوي وفتنة الخطاب الشعري العربي
وإذا حاولنا البحث عن الأسباب التي تقف وراء اهتمام الشاعر العربي طوال هذه العصور في تصويره للجانب الحسي في المرأة وإهماله للجوانب المعنوية والنفسية والروحية ، سنقف أمام فداحة النّظرة الدّونية للمرأة ، تلك النّظرة التي لاتخرجها عن الإفتتان والجسد وكأنها كائن لايملك إلّا جسدا يثير الشعرية أكثر من أي شيء آخر ، فحين يقول الشاعر :
نحن قوم تذيبنا الحدق النجل ^  على أنّنا نذيب الحديدا
نملك الصّيد ثم تملكنا البيض ^  المصونات أعينا وخدودا
فهو يجعل من تلك الأسطورة القوية التي تذيب الحديد شجاعة تقف ذليلة عند ربّات الحجال أو ربّات الخذور في موقف مغاير تماما لمعاني القوة الأولى ، فالمرأة لا تملكه برجاحة العقل بل تملكه ودعوني أصور لكم بماذا  : بطولها الفارع وجسمها البضّ الّليّن حدّ المكتنز المشوب بالسمنة غير الثقيلة إلا في الأرداف والعجز ، ونحالة الخصر والبطن المطوية والقوام الحسن والخطى البطيئة والمحيا المشرق والعينين الساحرتين والخدّ الأسيل والجيد المنصوصة والشعر الطويل والصّدر المصقول صقل المرآة والكشح الهضيم والذراعين المليئين والأنامل الرخصة والساقين كالأنابيب الرّيّانة والأسنان البيضاء كشوك السّيّال والنفس ذي الرّائحة الزكية .
ولا نكاد نجد شاعرا منهم قد تعمّق فيما وراء ذلك فوصف لنا نفسية تلك المرأة أو ثقافتها أو آمالها وآلامها  ، وفاعليتها في مجتمع الصحراء والقبيلة كأم وزوجة ملتزمة بواجباتها الأسرية والإجتماعية وتميّزها بالحكمة والفصاحة والشجاعة والقدرات الفكرية والأدبية وزعامتها التي تمّ السكوت والتستر عنها عمدا ، ومشاركتها في غزو القبائل ، وكذا شخصيتها القوية الكيدية التي كان يهابها الرّجل فجعلها بمرتبة الشيطان وهي للأمانة وجهة نظر عامة نجدها عند غير العرب أيضا ، إضافة إلى العديد من النظريات والممارسات تجاه المرأة التي لا يمكن للعقل السويّ تصديقها .
ربّما تعكس هذه المادية في الشعر العربي القديم الصورة الفطرية التي كان يعيش عليها الرجل العربي في أحضان الصحراء ، والخلوّ من وسائل الّلهو والمتعة والتّسلية إلّا من الخروج إلى الصّيد أو الإختلاف إلى الحانات لشرب الخمر أو تتبّع جغرافية المرأة المتنوّعة والمدعاة للمتعة والتأمّل لإرضاء غروره في التّباهي والتّفاخر .
وإذا كانت هذه الدّوافع هي نفسها التي حرّكت شاعرية العربي تجاه المرأة على امتداد عصور أدبية طويلة نستثني منها طبعا بعض الشعر في الأدب العربي الوسيط المتأثر بالفكر الصوفي ، فإنّه لايمكن تقديم تبرير منطقي لشعراء لا زالوا يكتبون قصائدهم على أرداف المرأة ، إذ جاء شعرهم مخترقا حجاب المحرمات  وكاشفا المخبوء ، معلّلين ذلك بأن المعرفة الواعية تخوض في الحلال والحرام على السّواء .
ومع أنّ الخوض التاريخي في الكيفية التي أرخت القصيدة جسد الأنثى يتطلّب مؤلفات ودراسات ، إلا أنّه لايفوتني التذكير بما كتبه الجيل القريب من الشعراء المعاصرين مجسدين جوعهم الشهواني بالخوض في تفاصيل الجسد الأنثوي ، جوعا لانستثني منه الشعر الحساني الغني بتيمة الغزل بالمرأة ورصد خبايا جسدها بمختلف مكوناته ، إما في مقدمات القصائد أو كموضوع رئيس لها ، وهنا لابد من التذكير بنقطة مهمة وهي التشابه والتّوارد الكبيرين بين صورة المرأة في الشعر الحساني ونظيرتها في الشعر العربي حسب العديد من الدراسات ، الشاعر الخليفة بوراس كمثال .
وفي المشرق العربي لنا نزهة مع شعراء ولجوا عن سبق إصرار وترصّد حجر الّلذة في شعر الجسد ؛
_ نزار قباني وهو أشهر شعراء هذا النوع في العصر الحديث وبلا منازع ، حتى أنه لقّب بشاعر المرأة ، فقد كانت عشقه الأوحد وأصبح معروفا بقصائده الرومانسية والغزلية التي تناولت وصف جسدها ، وقد نالت هذه القصائد شهرة واسعة في قلوب المحبّين من كلّ أنحاء الوطن العربي ، ومازالت تُغنّى إلى الآن وعلى سبيل المثال لا الحصر : رسالة من تحت الماء _ مدرسة الحب _ المستبدة _ قولي أحبّك _ هل عندك شكّ _ أحبّيني بلا عقد .
إنّ لغة الشعر عند نزار لاتكتب إلّا في الحضور الكامل للجسد أمام الشاعر ، فالجسد وما يطلقه من لغات هو ملك لنبوءات نزار ووحي لقصيدته ، وانطلاقا من تلك اللغات الجسدية إنطلق جسد القصيدة القبانية .
_ سعدي يوسف الشاعر الجادّ والمجدّ يختصر في قصيدة " لحظات مع أوكتافيا " القصة الأبدية لعشق الجسد الأنثوي .
 _ عبد القادر الجنابي الذي يزاوج الكلمة بالغواية في قصيدة من ديوانه : " حياة مابعد الياء " .
_ أما أمجد ناصر في مجموعته :" سُرَّ من رآك " المكتوب بين عامي 1989 و 1991 فهو يعيد إحياء ديوان الغزل العربي منفتحا على التجربة الإيروسية لكن في تحوّل سمح للجسد بالتّجدّد وإبدال وضعياته  مراهنا على إعادة خلقه الذّاتي وترتيب سيرته .
_ بدر شاكر السياب حيث تتوزّع صورة المرأة الجسد على المرحلتين الوسطى والأخيرة في شعره ، ويستشفّ القارئ منهما أن شهوة عارمة تصحب هذه الصور لكنّها مقرونة باليأس والإنهزام والحرمان ، لذلك جاءت مختلفة تماما عنها في الغزل الصريح المقرون بالأمل والإشباع والإنتصار ؛ ولم تكن الشهوة غاية في شعر السياب بل وسيلة تؤدي إلى غاية أخرى وهي التشفي في المجتمع الذي أذاقه القهر والحرمان ، وقد جاء تشفيه واضحا في قصيدة " حفّار القبور " وهو تصوير لجسد المرأة بكلّ معاني الإنطفاء والإفلاس ، إذ استحالت إلى ضحية بعد أن فقدت بريقها وأنوثتها الظالمة .
وإذا كانت صورة المرأة الجسد في الحركة الكلاسيكية موضوعا قائما بذاته يسعى الشاعر إلى توضيحه من خلال التحليل أو التركيب والكشف عن الإحساسات الدفينة وبيان العلاقة القائمة بينهما ، فإنها في الحركة الشعرية الحداثية عبارة عن مستوى من مستويات القصيدة متداخلة في مواضيع عدّة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، وهي رمز من رموز الحياة يستعمله الشاعر إلى جانب معالم أخرى لبناء قصيدته بناء متكاملا .
_ ومع مظفر النواب أصبحت المرأة شيئا من أشيائه التي يحملها لتنسيه طريق النضال الوعر إلى جانب الكأس والسيجارة والأرض والوطن والرحيل ، إنها عدّة الشّغل .
_أمّا أمل دنقل فعلى الرغم من انخراطه في مسيرة الحداثة الشعرية العربية ، في ظلّ تلازم واضح بين الهمّ السياسي والهم الإبداعي ، وعلى الرغم من الوعي الحادّ الذي تميّزت به قصائده في تناول معظم مايحيط به من صراعات اجتماعية وسياسية ، فهو لم يتمكن من الإرتقاء في تعامله شعريا مع المرأة إلى نفس المستوى من الوعي ، لأنه لم يتمكن من التخلص من موروثه الريفي الذي ينظر إلى المرأة كمصدر للغواية مقابل صورة أخرى طُهرانية للحبيبة المقدسة .
على كلّ يبدو أنّ الحداثة الشعرية التي عمّت الشكل الشعري في تقديمها للمرأة ، لم تستطع سوى تلميع صورة المرأة وإعادة تقديمها بصيغ جديدة ، ولكنها لم تقطع الصلة بالصورة التقليدية ، فالثقافة ظلّت حفرا فارغة وشعارات ناتئة في أعراف المثقفين وسائر أوساط المجتمع لتبقى بذلك صورة المرأة في الشعر كما في سائر الميادين مجرّد عنوان لم يجد طريقه إلى
الواقع.

*نهى الخطيب  شاعرة و أديبة مغربية بارزة

قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :

الشعر العربي يُحلق افتراضياُ بتنوع إبداعي في اختتام مهرجان العويس الشعري الثاني

"معلقات فلسطينية" في "ليلة الشعر العربي" في تطوان المغربية