كيف طوّر زياد الرحباني موسيقى الرحبانية؟

سوزان سعيد
نشر في:
الأحد 27 يوليه 2025 – 10:42 ص
| آخر تحديث:
الأحد 27 يوليه 2025 – 10:42 ص
امتلك الراحل زياد الرحباني، موهبة فريدة تجسدت في موسيقى مختلفة عن المدرسة التقليدية التي أسسها الأخان عاصي ومنصور الرحباني، إذ تميزت ألحانه بجرأتها ومزجها المبتكر بين الموسيقى الشرقية والغربية، لا سيما موسيقى الجاز.
كما تمرد “زياد”، في كثير من أعماله على الأسلوب الكلاسيكي الرحباني، متأثرًا بظروف نشأته في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، التي تركت بصمتها الواضحة على شخصيته ومزاجه الفني والفكري.
وتستعرض “الشروق”، في هذا التقرير، كيف أسهم زياد الرحباني في تطوير موسيقى الرحبانية وانتقالها من النمط الرومانسي الحالم إلى الواقعية النقدية الجريئة؟
*خط موسيقي جديد
أعرب الدكتور وليد شوشة، عميد المعهد العالي للنقد الفني بالقاهرة والإسكندرية، والرئيس السابق للنادي الموسيقى، عن حزنه العميق لوفاة زياد الرحباني، واصفًا إياه بأنه “قامة إبداعية واستثنائية”، فقدها العالم العربي في لحظة مفصلية.
وأوضح “شوشة”، لـ”الشروق”، أن الأخين عاصي ومنصور الرحباني ينتميان إلى المدرسة الكلاسيكية التي تعتمد على المقامات الشرقية، مع بعض التضمينات الغربية البسيطة، مؤكدًا أن صوت فيروز كان المحور الأساسي في بلورة هذا النمط المميز.
بالمقابل، جاء زياد بخط موسيقي مغاير، استخدم فيه موسيقى الجاز كأداة أساسية، متأثرًا بتوجهاته اليسارية وتعليمه خارج لبنان، ليصنع هوية موسيقية مستقلة وخاصة.
وأضاف أن موسيقى الجاز، رغم نشأتها في القرن الثامن عشر، لا تزال تحتفظ بشعبيتها؛ نظرًا لقدرتها على استيعاب أنماط صوتية متعددة، وحل مشاكل تقنية في التلحين والتوزيع، لافتًا إلى أن زياد نجح في تطويعها لخدمة الأغنية اللبنانية والعربية، بشكل يرضي الأذن المعاصرة دون أن يتخلى عن الجذور الشرقية.
*التكنولوجيا وتحديات الانتشار
وأشار إلى أن الوسائط التي تنتقل عبرها الألحان تلعب دورًا مهمًا في تحديد عمرها الفني، موضحًا أن التكنولوجيا المعاصرة، رغم ما وفرته من سهولة في الوصول والإنتاج، لكنها قللت من العمر الافتراضي للأغنية، ومع ذلك تبقى موسيقى زياد خاصة الجاز، “حالة استثنائية” في صمودها أمام تغير الأذواق وتسارع الاستهلاك.
*فيروز تتألق بألحان نجلها
كانت التجربة الأولى لزياد الرحباني في التلحين لوالدته فيروز من خلال ألبوم “كيفك أنت؟”، والذي واجه في البداية انتقادات واسعة وصلت إلى حد اعتباره “نهاية فيروز”، لكن على عكس التوقعات والأجواء آنذاك حققت التجربة نقلة نوعية لصوت جارة القمر، ورسّخت مكانة زياد كمجدد في الموسيقى اللبنانية.
وتابع “شوشة”، أن كثيرًا من أغاني فيروز التي لحنها زياد تجاوزت من حيث الشعبية تلك التي لحنها الأخان رحباني، لا سيما أنها نجحت في مخاطبة وجدان اللبنانيين المنقسمين بفعل الحرب الأهلية، وقدمت قضاياهم بلغة فنية معاصرة وقريبة من نبض الشارع.
وأضاف أن إعادة توزيع زياد لأعمال الرحبانية القديمة أضفى عليها روحًا جديدة، وجعلها أكثر قربًا للأجيال الجديدة، ولا تزال هذه النسخ الأكثر استماعًا حتى اليوم.
علاقة فنية استثنائية
وشكّلت العلاقة بين فيروز وزياد، رغم فارق السن، واحدة من أنجح الثنائيات الفنية في تاريخ الموسيقى العربية، إذ استطاع نجلها أن يطور صوتها ويوجه مسيرتها في اتجاه جديد، دون أن يتخلى عن جوهرها.
وأشار شوشة، إلى أن زياد لم يكن مجرد ملحن، بل فنان شامل: “مؤلف، موزع، موسيقي، ومفكر”.
*البصمة المصرية الحاضرة
ولفت إلى أن “زياد”، تأثر كثيرًا بالموسيقى المصرية، التي اعتبرها حجر الأساس في الموسيقى العربية بحكم الجغرافيا والتعداد وأسبقية المصريين في صناعة الفنون.
وأكد أن البصمة المصرية كانت حاضرة دائمًا في الأعمال العربية، بما فيها أعمال زياد، وإن جاءت ممزوجة بطابع لبناني خاص.
*من الرومانسية إلى الواقعية
في عمر التاسعة عشرة، وجد زياد نفسه شاهدًا على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث انقسم الوطن على أساس طائفي دموي، إذ تركت هذه الأحداث جرحًا غائرًا في وجدانه، فتمرد على المدرسة الرومانسية الحالمة التي أسسها والداه، واختار لنفسه خطًا واقعيًا ساخرًا، يعكس الواقع المتأزم للمجتمع اللبناني.
*المسرح كمنصة للنقد
وبدأ زياد رحلته المسرحية بمسرحية “سهرية” عام 1973، التي حافظ فيها على الشكل الكلاسيكي الرحباني في استخدام القصة كوسيلة لعرض الأغنية، لكنه سرعان ما ابتكر نمطًا جديدًا من المسرحيات الاجتماعية السياسية، التي جمعت بين السخرية والجرأة والنقد العميق.
كما نجح من خلال أعمال مثل “نزل السرور”، “بالنسبة لبكرا شو؟” (1978)، “فيلم أميركي طويل” (1980)، “شي فاشل” (1983)، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” (1993)، و”لولا فسحة الأمل” (1994)، في التعبير عن قضايا مجتمعه، لا سيما الطائفية السياسية والاجتماعية، بأسلوب يجمع بين التهكم والإحساس.
ويفقد العالم العربي برحيل زياد الرحباني، موسيقيًا استثنائيًا، نقل الأغنية اللبنانية من ضباب الرومانسية إلى ضوء الواقعية، ومن النغم الكلاسيكي إلى صوت الحياة اليومية، تاركًا إرثًا فنيًا يصعب تجاوزه.