اخر الاخبار

أهل الجنة وأهل السعير .. وتطاول البشر علي مقام الألوهية المطلقة

كيف يعقل أنه بعد مضي أكثر من أربعة عشر قرنًا على بعثة النبي الكريم، لا يزال المسلمون عاجزين عن التمييز بين حكم الله وتشريعه المطلق، وبين أحكام البشر التي تحكمها الأهواء وتتحكم فيها الغرائز ؟ ، ألم يكن نزول القرآن الكريم بمثابة النور الذي أضاء دروب الإنسانية، ليكشف لهم الحقائق، ويفصل بين الهداية والضلال ؟ .

  • لا وصاية على الناس في عقيدتهم 

ألم يُجلِّ الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله حدود التكليف الإلهي الموكَل إلى نبيه الكريم، مبينًا أن وظيفته الأساسية تنحصر في تبليغ الرسالة، وأن الحساب والعقاب بيد الله وحده ؟ ، وقد أكد ذلك بقوله عز وجل في محكم تنزيله : ” رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ” .. صدق الله العظيم .. فهذه الآية تضع حدًا واضحًا بين مقام الألوهية المطلقة، التي تتجسد في علم الله وحكمه، وبين مهمة الرسول، التي تقتصر على التبليغ والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، دون أن يكون وصيًا على الناس أو رقيبًا على أفعالهم .

  • رسائل القرآن خالدة ليوم الدين 

إنها رسالة قرآنية خالدة، تضع الإنسان أمام مسؤوليته المباشرة أمام الله، دون وسيط أو متحكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وكلٌ محاسبٌ على اختياره ، وهكذا يبيّن لنا المولى سبحانه، ويعلّمنا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أن رسالة النبي محددة المعالم، واضحة المقصد، لا تتجاوز حدود البلاغ المبين، إذ اقتصر تكليفه الإلهي على إبلاغ آيات الله إلى الناس، وتفسير معانيها، وكشف مقاصدها، وتوضيح شرع الله ونهجه القويم، ليكون ذلك سراجًا منيرًا يهتدي به الإنسان في مسالك الحياة، فيمتثل لأوامر الله، ويتجنب نواهيه، فينجو يوم الحساب من عذابه، وينال في الآخرة رضوانه وجنات النعيم.

  • آيات القرآن صريحة لا لبس فيها 

لذا فإن الآيات البينات بجلال ألفاظها وجزالة معانيها، لا تحتمل تأويلًا ولا تستدعي تفسيرًا، فقد جاءت ببيان قاطع لا لبس فيه، يفرق بين مقام الألوهية المطلقة التي اختص الله بها نفسه في الحساب والجزاء، وبين مهمة الرسول التي اقتصرت على إيصال الوحي، دون أن يُمنح سلطة الحكم على الناس أو محاسبتهم ، فالله وحده جل عُلاه هو العليم الحكيم، الذي يؤخر الحساب ليوم لا ريب فيه، فيجازي كل عبد بما قدمت يداه، فلا يضيع مثقال ذرة من خير أو شر، إذ يقول الحق جل وعلا : ” وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَ لَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ” .. صدق الله العظيم

  • وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا

إنها رسالة إلهية خالدة، تعلن للناس أن الجزاء لا يكون في الدنيا، وإنما يُرجأ ليوم الميعاد، حيث يقف الجميع بين يدي الله العدل، ليأخذ كل امرئ نصيبه الذي خطته يداه، عدلًا من رب رحيم، لا يغفل ولا ينسى .

وهنا ينبغي ان نسأل انفسنا : هل ثمة آية في الكتاب العزيز تمنح نبيًا أو رسولًا أو عالمًا أو فقيهًا سلطة الحكم على إيمان الناس أو كفرهم ؟ ، فرغم أن الله سبحانه وتعالي لم يعيّن لنفسه وكيلًا في الأرض يراقب عبادَه في أدائهم للشعائر، أو يتولى إصدار الأحكام عليهم بالردة والكفر، ثم ينزل بهم القصاص ؟  ، أليس الله هو من حصر مهمة رسوله صلى الله عليه وسلم في تبليغ وحيه دون أن ينيط به سلطة محاسبة البشر، مصداقًا لقوله تعالى مخاطبًا نبيه الكريم : ” رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ” .. صدق الله العظيم . 

  • أهل الجنة وأهل السعير 

فكيف، بعد كل هذا البيان الإلهي، لا يزال البعض يعجز عن التفريق بين حكم الله الذي هو العدل المطلق، وبين أحكام البشر التي تحكمها الأهواء وتداخل المصالح ؟ ، فإن كان الله تعالى لم يمنح رسوله صلى الله عليه وسلم سلطة الوكالة على الناس، ولم يخول له الفصل في إيمانهم أو كفرهم، فمن ذا الذي يجرؤ، وهو المخلوق الضعيف العاجز عن معرفة مصيره يوم الحساب، أن ينصب نفسه قاضيًا على عقائد الآخرين ؟ ، أيّ يد تلك التي امتدت لتمنح من لا يملك يقينًا بشأن نفسه، سلطة القطع بمآلات غيره، أيكون من أهل الجنة أم من أهل السعير ؟

  • العبادة صلة مقدسة بين العبد وربه

إن كل من يتجرأ على تكفير الناس أو اتهامهم بالردة إنما يرتكب جرمًا عظيمًا وافتراءً على الله عز وجل، إذ يجعل من نفسه شريكًا في ما انفرد به الخالق، ويعتدي على الحق الإلهي في الحكم على عباده، في أمرٍ هو من صميم اختصاص الله وحده ، فالعبادة صلة مقدسة بين العبد وربه، لا سلطان لأحد عليها، وكل من نصب نفسه خصمًا للناس في دينهم، وحاول مصادرة حق الله في الفصل بين عباده، فإنه واقع تحت طائلة الحساب الإلهي الشديد يوم القيامة، حيث سيُسأل عمّا اجترأ به على مقام الألوهية، وما افتراه على الله ورسوله ظلمًا وعدوانًا .

  • عندما نكون صيدًا سهلًا لمكر الشيطان

لقد صرفت روايات الباطل الناس عن كتاب الله المبين ، وعلى الضالين وأتباع الشياطين أن يكفّوا عن إطلاق أحكام التكفير، وعن الانقياد وراء الروايات المحرَّفة التي تُبعد الناس عن نور القرآن العظيم، فتجعلهم صيدًا سهلًا لمكر الشيطان وأعوانه، فيهوون بهم إلى دركات الجحيم، ويبددون حسناتهم التي اجتهدوا في جمعها، فلا يبقى لهم يوم الدين إلا الحسرة والندامة، حين لا يجدون شفيعًا يخفف عنهم العذاب، ولا نصيرًا يدفع عنهم العقاب .

  • يوم تُطوى الصحف ونقف أمام الله

ففي ذلك اليوم تُطوى الصحف، ويقف كل فرد أمام ربه وحيدًا، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : ” وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ” .. صدق الله العظيم . 

.. ولطالما في العمر بقية، لن أتوقف عن دعوة الناس كي يعودوا الي قرآن الله، ويتمسكوا بكتابه العظيم، ويتوبوا إليه توبة نصوحًا، عسى أن يغفر لنا ولهم يوم الحساب، ويكتبنا جميعاً مع عباده المتقين ، ونفوز بجنات النعيم، حيث لا خوف ولا ندم .. اللهم بلغت اللهم فأشهد. 

كاتب المقال : مفكر عربي كبير .. ورئيس ديوان رئاسة دولة الإمارات العربية المتحدة سابقا