اخر الاخبار

الاخ والصديق العزيز.. برجاء النشر مع جزيل الشكر والتقدير. العمل الإنساني في ظل الإبادة والحصار: تجربة شخصية من قلب النزوح في قطاع غزة

كتب المستشار د. أحمد يوسف :

شهد قطاع غزة خلال العامين الماضيين حرب إبادة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، أودت بحياة ما يزيد على ربع مليون إنسان بين شهيد وجريح، بينهم أكثر من عشرين ألف طفل، وعشرة آلاف ما زالوا تحت الأنقاض، إضافة إلى آلاف المصابين الذين ينتظرون العلاج في الخارج. طالت الغارات الإسرائيلية كل شيء: البيوت والمدارس والمستشفيات والجامعات ودور العبادة، في سياسةٍ ممنهجة تستهدف محو الحياة وتجفيف منابع الصمود. لم يكن الدمار نتيجة حربٍ فحسب، بل خطة متعمدة لتجريد الناس من مقومات البقاء وتحويلهم إلى أرقامٍ في سجلات النزوح والمعاناة.

وسط هذا الجحيم، وجدت نفسي – كباحثٍ وفاعلٍ مجتمعي – جزءًا من التجربة الإنسانية في إدارة النزوح والإغاثة، محاولًا توظيف خبرتي في العمل المدني لخدمة أبناء شعبي في أكثر اللحظات قسوة في تاريخهم. كانت غزة، رغم نزيفها، ساحة لاختبار الضمير الإنساني العالمي، وميدانًا لبطولة المدنيين الذين حوّلوا الألم إلى فعل إنقاذٍ وتكافلٍ أسطوري.

مع بداية موجات النزوح الكبرى نحو الجنوب، شاركتُ مع مجموعة من المتطوعين في إنشاء مركز إيواء مؤقت في حي تل السلطان غرب رفح، حمل اسم “مخيم منتزه النخيل للنازحين”. ضمّ المخيم خمسين خيمة داخل المنتزه، وعددًا مشابهًا حوله، ليصبح مأوى لعشرات العائلات التي فرت من شمال القطاع هربًا من الموت.
سعينا بالتعاون مع مؤسسات إنسانية فاعلة مثل هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، ومؤسسة الفارس الشهم الإماراتية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) لتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة. لكن العقبات كانت جسيمة، إذ فرضت إسرائيل قيودًا مشددة على إدخال المساعدات عبر المعابر، فبقيت الشاحنات عالقة لأيام وربما أسابيع في الجانب المصري. كان العمل داخل المخيم أقرب إلى معركة في التنظيم الشعبي والصبر، ومع ذلك نجحنا في تحويله إلى مساحة أمانٍ نسبي تذكّر الناس بمعنى الجماعة والاحتواء وسط العراء.

بعد سبعة أشهر من الصمود، جاءنا إنذار بالإخلاء من جيش الاحتلال، ومع تصاعد القصف اضطررنا إلى النزوح مجددًا في نهاية مايو 2024 نحو مواصي خانيونس. حملنا ما تيسّر من أمتعة وبعض الخيام، وتركنا خلفنا ما تبقّى من الذكريات، لنبدأ تجربة نزوحٍ جديدة في بيئة أكثر قسوة وبؤسًا. هناك، أعدنا تنظيم المكان ونصبنا الخيام بين الرمال والبحر، محاولين حماية الأطفال والنساء من الجوع والخوف والمرض.

في خضم تلك المعاناة، برزت الحاجة الماسة للطعام والماء كمطلبٍ يومي للبقاء. بادرتُ بالتعاون مع أصدقائي في المنظمات الإنسانية إلى تأسيس “تكية” ميدانية تُعدّ وجباتٍ يومية للنازحين، بمساعدة هيئة الإغاثة الإنسانية التركية ومؤسسة الفارس الشهم الإماراتية واللجنة الدولية للصليب الأحمر. لم تكن “التكية” مجرد مطبخ، بل رمزًا للتكافل والكرامة، ومتنفسًا يعيد للناس بعض الإحساس بالحياة. كنت أرى في عيون الأطفال عند حصولهم على وجبتهم دفئًا يشبه الوطن، وكأن اللقمة في مثل هذه الظروف فعل مقاومةٍ في وجه الجوع والموت.

غير أنّ العمل الإنساني في غزة لم يكن يومًا مهمة سهلة أو محايدة. فقد فرضت إسرائيل نظامًا خانقًا من الرقابة على المساعدات، ومنعت دخول كثير من المواد بحجة “الاستخدام المزدوج”، وروّجت مزاعم متكررة بأن حماس تستولي على المساعدات، وهي ادعاءات نفتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية مرارًا. في الحقيقة، كانت تلك المزاعم أداة سياسية لتقويض الجهود الإنسانية وإضعاف ثقة العالم بالمؤسسات المحلية العاملة في الميدان. أما الواقع فكان أن هذه المؤسسات، رغم ضعف إمكانياتها، ظلت تعمل ليلاً ونهارًا، مستندة إلى روح التطوع والإيمان بقدرة الفلسطيني على الصمود وصناعة الأمل.

لقد كان العمل الإنساني في غزة ساحة صراعٍ موازية، ليس فقط بين الموت والحياة، بل بين الحقيقة والدعاية، وبين من يسعى لإنقاذ الأرواح ومن يوظّف المعاناة لخدمة أجنداتٍ سياسية. ومع ذلك، لم تتوقف الجهود الشعبية، بل اتسعت دوائر التضامن والمبادرات الذاتية، حتى تحوّلت الخيام إلى ورشٍ صغيرة للحياة: معلمون يدرّسون الأطفال، وأطباء يعالجون المرضى بما تيسّر، وشباب ينقلون الماء والغذاء بين الأسر. لقد كان الفلسطيني في تلك اللحظات منقذًا ومُنقذًا في آنٍ واحد، يقدم للعالم درسًا في الإنسانية التي لا تُقهر.

ومن هذه التجربة خرجتُ بعدة دروس تستحق التأمل: أن المبادرة الشعبية والتنظيم المدني المبكر هما خط الدفاع الأول في إدارة الكوارث والنزوح، وأن الشراكة بين المؤسسات المحلية والدولية يجب أن تتجاوز البيروقراطية إلى الفعل الميداني، وأن الممرات الإنسانية الدائمة والآمنة ليست مطلبًا سياسيًا بل ضرورة أخلاقية. كما أن التجارب الدولية – كجنوب أفريقيا بعد الأبارتهايد – يمكن أن تلهم الفلسطينيين في بناء منظومات عدالة وإنصافٍ إنساني.

تجربة غزة تؤكد أن العمل الإنساني في بيئة الاحتلال ليس مجرد نشاطٍ خيري، بل شكلٌ من أشكال المقاومة الهادئة، وسلوكٌ يُعيد للإنسان الفلسطيني ثقته بقدرته على الحياة. لقد كانت خيام النزوح، رغم فقرها، مدارس للكرامة والصبر، وفيها اكتشفنا أن الكرامة يمكن أن تُبنى بخيوط الخيمة، وأن الصمود يمكن أن يصنع حياةً من رماد الموت.

إن ما أردت توثيقه هنا ليس حكاية ألمٍ فحسب، بل شهادةٌ على لحظةٍ تاريخية نُحتت فيها الإنسانية الفلسطينية في أقسى امتحاناتها. فقطاع غزة، رغم الدمار، ما زال نابضًا بالعطاء، وما زال الإنسان فيه يصنع من بين الركام حياةً تليق بالكرامة. ومن باب الأمانة، أقول إن هذه الجهود الإغاثية – بفضل المتطوعين والشركاء الدوليين – كان لها الدور الأبرز في تعزيز صمود النازحين، وإفشال مخططات نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرف الرامية إلى تفريغ القطاع عبر سياسة التهجير القسري. لقد انتصرت في خيام النازحين روح الإنسان على آلة الحرب، وبقيت الكلمة الأخيرة لإرادة الحياة التي توطنت في نفوس النازحين، والإصرار على مغالبة الاحتلال مهما علت كلفة الوجع والأنين.